الدكتور دَاه
الرَحلاتُ الداهشيَّةُ
حولَ الكُرَةِ الأرضيَّة
الرحلةُ الثانيةُ
عام 1970
في خَمسِ سفراتٍ إلى
الكوَيتْ- البحرينْ- قطر- الإمَارات العَرَبيَّة- السُّعوديَّة- إيطاليا
مَالطا- ليبيَا- قبرصْ- اليمن الجنوبيَّة- إفريقْيَا.
دارُ النَّارِ والنُّورِ للطباعَةِ والنشرِ والتوزيع
بيروت 1983
الحقيقةُ الإلهيَّةُ
أَشتَاقُكِ مِثْلمَا تشتاقُ الأَيائِلُ لجَدَاوِلِ الماءِ النَّميرة!
وأَتوقُ لرؤْيتِكِ مثلمَا يتُوقُ الأَنْبياءُ لهبُوطِ الوحْيِ عليْهِم!
وأتحرَّقُ للوُلوُجِ إلى خِدرِكِ الطَّاهرِ المقدَّس!
ويلجُّ بي الإلحاحُ للتهجُّدِ والتبتُّلِ ليلاً ونهاراً لأحظى بكِ!
وأتذوَّقُ لذَّةَ النشْوةِ العُظمَى عندمَا أتخيَّلُ أمْجادَكِ الفردَوسيَّةِ!
وأخرُّ سَاجداً عِندمَا أتخيَّلُكِ ممتطيَّةً الصَّاعقةَ تتقدَّمُكِ البُروقُ المومضةُ!
فيَا أيَّتُها الحقيقةُ الإلهيَّةُ!
أيَّتها المقيمةُ في الأخدارِ السَّماويَّةِ !
متَى أستظلُّ ربوعكِ العلويَّة
وانعمُ في أجوائِكِ البَهيَّة؟!
متَى؟!
داهِشْ
مُقدِّمَة
أنَا تَوَّاقٌ للسَّفَرِ والتَّرحالِ
أنَا بطبيعَتي أُحبُّ الرحلاتِ وأَتوقُ للسَّفَرِ والتَّرحالِ شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
أُحبُّ السَّفَرَ إلى الصَّحارى، والتجوالَ في شِعابِ الجبالِ، كمَا أُحبُّ الهبوطَ إلى الأَوديةِ السحيقةِ، وأَرغبُ مشاهدةَ العواصمَ الكُبرى، والقُرى النائيةَ الهاجعةَ بأحضانِ الغاباتِ الظليلة.
وأُحبُّ أنْ أرودَ المتاحفَ العالميَّةَ لأُشاهدَ لوحاتِ الفنَّانينَ العظماءَ مِمَّنْ دان لهُمْ الفنَّ، وأصْبَحَ أَطوعَ لهُمْ مِنْ بنانِهِم.
لقدْ زُرْتُ متحفَ الأرميتاج الروسيّ في مدينةِ لننغراد، كما زرتُ مُتْحَفي تريتيكوف وبوشكين في مدينة موسكو. كذلكَ شاهدتُ مُتحفَ المتروبوليتان العظيمَ في نيويورك، وتجوَّلتُ في مُتحفِ بروكلِنْ وتملَّيتُ جميعَ لوحاتِهِ المعروضة لوحةً فلوحة. كما شاهدتُ متحاحفَ لوس آنجلوس، وسان فرنسسكو، وغيرِهَا كثيراً من متاحفِ الولاياتِ المُتَّحدة، وخصوصاً مُتحفَ الفنونِ الجميلةِ الحكوميّ في شيكاغو وواشنطن. وقد أُخِذَتُ بروعةِ مُتحفِ واشنطن العظيمِ ولوحاتِهِ الساحرةِ وأَناقةِ المبنى الضخمِ الفخم.
كما زُرتُ مُتحفَ البرادو المشهورَ بإسبانيا، ومُتحفَ اللوفر العظيمَ بباريس، ثمَّ مُتحفَ مارسيليا وغيرَهَا مِنْ متاحفِ المُدنِ الإفرنسيَّةِ العديدة، ثمَّ مُتحفَ النمسا المُدهِش الذي يضمُّ مئاتٍ من لوحاتِ أشهرِ الفنَّانين العُظماء، ثمَّ مُتحفَ روما الغنيّ بمحتوياتِهِ، ومتحفَ الفاتيكان الذي يحتوي على كنوزٍ لا تُقدَّرُ بمالٍ إطلاقاً.
كذلكَ زُرتُ متاحفَ نابولي وميلانو وغيرَهَا مِنْ المتاحفِ المنتشرةِ في المُدنِ الإيطاليَّة.
وزُرتُ إيضاً متاحفَ برلين وميونخ، واستمتعتُ بعظمةِ الفنِّ المُذهلِ الذي تحويهِ متاحفُ الشعبِ الألمانيِّ العريق.
ولنْ أنسى متاحفَ هونغْ كونغ، وطوكيو، ونارا، وكيوتو، ونيكو، وأوزاكا، ويوكوهاما، وكماكيرا. فالكنوزُ التي تنطوي عليهَا تلكَ المتاحفُ خالدةٌ بروائِعِها النادرة. كذلكَ ارتدتُ متاحفَ سيام، وأُخِذَتُ بمَا تحويهِ مِنْ روائعَ عريقةٍ في القِدَمِ، مُذهلةً بدقَّةِ الفنِّ. وشاهدتُ متاحفَ تركيَّا، وفنلنداَ، والدانمارك، وبولونيا، وبلجيكا، ورومانيا، وبلغاريا، وقبرص، وآثينا باليونان، وأديس أبابا في الحبشة، وطرابلس الغرب، وجيبوتي، ونيروبي، وتنزانيا، وغيرَها وغيرَها الكثيرَ من مُختلفِ المتاحفِ في العديدِ مِنَ البُلدانِ التي لا تحضُرُني أسماؤُها الآن.
ومعْ ذلك، فجميعُ هذه المتاحفِ لمْ تُشبعْ رغبتي للفنونِ الجميلة، فأنا أتوقُ للفنِّ، وأتعشَّقُهُ، وأَبحثُ عنهُ ليلَ نهارٍ، فهُوَ لي كالروحِ للجسدِ.
وبهذِهِ المناسبةِ تذكَّرتُ مثلاً شائعاً دوَّنَتْهُ الكتبُ إذْ قالتْ:" إثنانٌ لا يُشبعُ نهمهُمَا شيءٌ: طالبُ علمٍ وطالبُ مال".
وأَزيدُ عليْهِمَا ثالثاً فأقولُ:" وطالبُ فنٍّ"- الذي هوَ أنَا- فإنِّي، وأيَمُ الحقِّ لا يُمكنُ أنْ أُشْبعَ نهَمي منَ الفنِّ إطلاقاً. فمنذُ طفولتي وأنَا أتوقُ لمشاهدةِ أيِّ شيءٍ يمثِّلُهُ الفنُّ، سواءٌ أَكانَ لوحةً زيتيَّةً أم مائيةً أم بالباستيل. كمَا أَرغبُ رغبةً عارمةً بالتماثيلِ الفنيَّةِ سواءً كانتْ منحوتةً من الحَجَرِ أمْ منَ الرُخامِ أو العاجِ أو البرونزِ أو الخشَبِ أو المعدَن. والخُلاصةُ إنَّ الفنَّ يستهويني ويجذِبُني كالمغناطيسِ المقتدر.
وفي خلالِ سفَرَاتي المُتعدِّدَةِ ورحلاتي المتواصلة ابتعتُ منْ مُتعدَّدِ الفُنونِ عدداً كبيراً بذلتُ في سبيلهِ أموالاً طائلةً. وقد غصَّتْ خزائني بروائعِ الفنِّ، فهي لي متعةٌ للنَظَرِ وروعةٌ للبَصَرِ؛ وسأَبتاعُ منْهَا الكثيرَ أيضاً، إنْ شاءَ الله، برحلاتي القادمةِ إذا امتدَّ بي الأجلُ، وإلاَّ فإنِّي لا آسفُ على رحيلي منْ هذه الأرضِ التي يملأُهَا شقاءٌ متواصلٌ وعذابٌ دائم.
وأُؤكِّدُ للقارئ أنَّ الموتَ والحياةَ لديَّ سيَّانٌ، فأنا لا آبهُ إنْ دنَا أجلي في هذهِ اللحظةِ التي أُدوِّنُ بهَا أفكاري هذه. كمَا أؤكِّدُ أنَّهُ لا يهتزُّ بي وترٌ واحدٌ إذا دنَتْ ساعةُ مَنيَّتي، فقدْ شبعتُ منْ لومِ البشَر، وغدرِ الأصحابِ المزيَّفين، ودناءَةِ المدَّعين بالصداقةِ كذباً ورياءً.
فأنَا أعلمُ الناسِ بمَا يُضمرونهُ في قلوبِهِم، وما يختزنونهُ بأفكارِهِم. وتأكيداً لمَا أقولُ، فإنِّي كتبتُ تحتَ رسمي الفوتوغرافي في كتابي" كلمات"- وما كان عُمري ليتعدَّى السبعةَ وعشرينَ عاماً- الجملةَ التالية:
"حينمَا تشكُّ بأقربِ المقرَّبينَ إليكَ تبدأُ في فهم حقائقِ الكون، وتتكشَّفُ لكَ أسرارٌ مكنونةٌ كنتَ جاهلاً إيَّاها. فكُنْ على حّذَر، وإيَّاكَ والسقوطُ بشركِ مَنْ يدَّعونَ الإخلاصَ لكَ وما حقيقتُهُم إلاَّ ذئابٌ كاسرةٌ يرتدونَ أثوابَ الحملانِ الوديعة".
هذا ما كتبتُهُ عندَمَا كنتُ في شرخِ الشباب، فكيفَ لي أنْ أَثقَ بأحدٍ بعدَمَا حلبتُ منَ الدَهرِ شطريه، وبلغتُ منَ العُمرِ أرذَلَه!
وبعدْ فإنِّي أَهيبُ بالقارئ ليمتطيَ الطائراتِ معي، وليجوبَ البُلدانَ التي جبتُها، ويزورُ المتاحفَ التي بهرتْني. وقدْ دوَّنتُ رحلتي، ثمَّ دفعتُها إلى المطبعةِ فجاءَتْ على الصورةِ التي يجدُهَا القارئُ بينَ يديه. فإنْ حازتْ إعجابَه، فهذا يزيدُ سروري ويُضاعفُ جُهدي، ويحفِّزُني على مواصلةِ إخراجِ بقيَّةِ رحلاتي ليتمتَّعَ بمحتوياتِهَا القرَّاءُ. والسلام.
المرحلةُ الأوُلى
من 26 حزيرانْ 1970 حتَّى 6 تمُّوز 1970
الكويتْ- البَحرَيْن- قطَر- دُبَيّ- الشَّارقة- الفُجَيرة
26 حزيرانْ 1970
إستيقظتُ باكراً لأنَّني مزمعٌ السَّفَر، مساءَ اليومِ، إلى الكُوَيتْ، فالبحرَيْن، فالدوحةِ، فدُبَيّ ومُلحَقاتِها- الفُجَيرةِ وأُمِّ القيوين، فالشارقةِ، فرأسِ الخيمةِ، فعجمان الخ الخ...
وقدْ استهلَّيتُ صباحي بكتابةِ مقدَّمةٍ لكتابي الذيْ أسْمَيتُه:
"مختاراتٌ من كُتُبِ الدكتور داهشْ"
أي إنَّني إنتخبتُ مجموعةً ممَّا كتبتُهُ منذُ 39 عاماً، وهي موزَّعةٌ في شتَّى الكُتُبِ التي أَلَّفتُها ولمْ تُطْبَعْ بعِد.
وقد جمعتُها في كتابٍ، وسلَّمتُها إلى الشابِّ الأديبِ إيليا حجَّار، لتولَّى طبعَهَا في سِفرٍ واحدٍ، بأثناءِ غيابي في هذهِ الرحلةِ القصيرةِ.
الإخوةُ والأَخواتُ بتوافدون
وابتدأَ الإخوةُ والأخواتُ يتوافدونَ إلى منزلي بقصدِ توديعي. وامتلأتْ الغُرفُ بِهِم.
وقد تحدَّثْنَا في مُختلفِ المواضيع، وشتَّى الشؤونِ والشجون. وما إنْ وافتْ الساعةُ السادسةُ إلاَّ ثُلثاً حتَّى استقلَّيْنَا السيَّارة- سيارةَ الأخِ النبيل فريد فرنسيس، يتبعُنَا رتلٌ منَ السيَّاراتِ التي يستقلُّهَا الإخوةُ والأَخوات. فبلغْنَا مطارَ بيروت في تمامِ الساعةِ السادسةِ مساءً. ترجَّلْنَا من السيَّارةِ، أنَا والأختُ العزيزةُ(م) تتبعُهَا كريمتُها، فالدكتورُ فريد أبو سليْمَان. وكذلكَ ترجَّلَ الإخوةُ والأخواتُ، وكان عددهُمْ لا يقلُّ عن الأربعين. وأُخِذتْ لنَا صورٌ سينمائيةٌ وفوتوغرافية عديدة.
وفي تمامِ الساعةِ السابعةِ إلاَّ ثلثاً هبطْنَا إلى قاعةِ الإنتطارِ، ومكثنَا فيها نصفَ ساعةٍ أُذيعَ بعدَهَا وجوبُ ذهابِنَا إلى الطائرة. وصعدْنَا إلى سيَّارةِ المطارِ المتَّسعة، فأقلَّتنَا الطائرةُ وهي من نوعِ بوينغ رقم 707، وتستوعبُ 144 راكباً.
وكانَ الإخوةُ واللأخواتُ قد احتلَّوا شرفةَ المطار، فراحوا يُحيُّوني أنَا والأخَ الحبيبَ سليم قمبرجي والأختَ أوديتْ كارَّا، ونحنُ كُنَّا نُبادلُهُم التحياتِ الحُبِّيةَ الصادقة.
في الطائرةِ الجبَّارةِ
ودخلتُ الطائرةَ معْ الأخ سليم والأختْ أوديتْ، وهي طائرةٌ فخمةٌ قاعتُهَا مستطيلةٌ، وفيها ستَّةُ مقاعدٍ في كلِّ صفٍّ- أيْ ثلاثةُ مقاعدٍ من الناحيةِ اليُمنى وثلاثةٌ من الناحيةِ اليُسرى- وبينَهُمَا الممرُّ الذي يسيرُ فيه المسافرونَ. وقدْ مكثَتْ أُوديتْ معنَا رُبعَ ساعةٍ، ثمَّ ودَّعَتْنَا مغادرةً إيَّاي والأخَ سليم.
وفي تمامِ السابعةِ والنصفِ دوَّتْ محركاتُها، ثمَّ سارتْ الهويْنَا مسافةً قصيرةً، ثمَّ أطلقَتْ لنفسِهَا العنَانَ. وفجأةً ارتفعَتْ بعدمَا كانتْ سرعتُهَا قدْ بلغَتْ 300 كيلومترٍ في الساعةِ. واستغرقتْ عمليةُ صعودِهَا نصفَ دقيقةٍ مثلمَا سجَّلَتْهَا ساعتي اليدويَّة.
نحنُ على إرتفاعِ 35 ألفَ قَدَمٍ
وأعلنَ المذياعُ، بعدَ دقائقَ، أنَّنَا على إرتفاعِ 35 ألفَ قدمٍ، والسرعةُ هي 950 كيلومتراً في الساعةِ.
وفجأةً شاهدتُ المُضيفةَ أمَل حمدان، ولي معرفةٌ بهَا منذُ أعوامٍ. فتبادلْنَا السلامَ والكلامَ، ثمَّ دَعَتْنِي، بعدَمَا استأذنَتُ الأخَ سليم، لكيْ أذهبَ برفقتِهَا لتُحدِّثَني.
رافقتُهَا وتحدَّثْنَا بشتَّى المواضيع، طوالَ ساعةٍ ونصفَ الساعةِ.
في غرفةِ القِيادةِ
سألَتْنِي أمَل هلْ تُحبُّ أنْ تُشاهدَ غرفةَ القِيَادةِ؟ أجبتُهَا: بكلِّ تأكيد. ورافقتُهَا إليهَا، وولجتُها. إنَّهَا غرفةٌ صغيرةٌ يجلسُ على مقاعدِهَا الأربعةَ أربعةُ ربابنةٍ. وقائدُ الطائرةِ لبنانيٌّ إسمُهُ محمد طيَّارة. بادلتُهُ السلامَ ورفاقَه الثلاثة- إثنانٌ منهمْ إنكليزيّان، وكانَا نهمكين بتدوين أرقامٍ على رُقعةٍ من الورقِ كبيرةُ الحجم.
وقد شاهدتُ على حيطانِ غُرفةِ القيادةِ مئاتٍ من مخْتَلَفِ أنواعِ الساعاتِ التي ثُبِّتَتْ على الجُدران، يُسيِّرُهَا الإلكترون بدقةٍ مُذهلةٍ. وكانَ الربابنةُ الأربعةُ كلُّهُم عيونٌ ناظرةٌ إلى تِلكَ الساعاتِ التي تُشيرُ إلى كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ: فمنَ الإرتفاعِ إلى الإنخفاضِ، إلى الحرارةِ المرتفعةِ فالمنخفضةِ الخ....
الطائرةُ تُغيِّرُ طريقَ سَيْرِهَا إلى تُركيَّا فبغدادَ فالكويتِ
وفهمتُ منَ الأُختِ أمل حمدان أنَّ المسافةَ بينَ بيروتَ والكُوَيت تقطعُهَا الطائرةُ بساعةٍ وخمسَ واربعينَ دقيقة. ولكنَّ الطائرةَ ستُغيرُّ طريقَ سيرِهَا، فلاَ تدخلُ الأجواءَ السوريةَ، لأنَّهُ اليومَ بينمَا كانتْ طائرةُ رُكَّابٍ مُحلِّقةً فوقَ الأراضي السورية أُصيبتْ بصاروخٍ حربيٍّ في أثناءِ معركةٍ كانتْ تدورُ بينَ السوريينَ والإسرائيليِّين.
وهذا مَا دفعَ المسؤولينَ عن الطائرةِ إلى تغيِيرِ طريقِ سيرهِم، لكيْ يتجنَّبوا المرورَ في الأراضي السورية، فتوجَّهوا إلى تُركِيَّا فبغداد.
وفي تمامِ الساعةِ العاشرةِ إلاَّ ثُلثاً كُنَّا نُحلِّقُ فوقَ العاصمةِ العراقيةِ التي كانتْ أنوارُهَا المتوهّجةُ تتألَّقُ وكأنَّهَا الماس. وبعدَ عشرِ دقائقٍ كُنَّا نحلِّقُ فوقَ مدينةِ البصرةِ، فاستغرقتْ سفرتُنَا ثماني ساعاتٍ حتَّى بلغنَاهَا. فيَا للفرقِ الهائل، ويا لعظمةِ العلم!
وبلَغْنَا الكُويتَ أخيراً
في تمامِ الساعةِ العاشرةِ والنصفِ ليلاً هبطَتْ بنَا الطائرةُ في مطارِ الكُوَيت. وقد استغرقتْ سفرتُنَا من بيروت إلى الكُويَت ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ، أيْ بزيادةِ ساعةٍ ورُبعِ السَّاعةِ بسببِ تغييرِ الطائرةِ الإضطراري لخطِّ سيرِهَا.
وقدْ مررْنَا على موظَّفي الأمنِ العام، فأشَّرنَا على جوازاتِ سفرِنَا، ثمَّ إلى إدارةِ الجمارك، فأنْهَيْنَا معاملاتِها، ثمَّ استقلَّينَا سيارةَ تاكسي إلى فُندقِ شِراتون الكويت. واستغرقَ سيرُنَا من المحطَّةِ إلى هذا الفندقِ رُبعَ ساعةٍ بالسيَّارةِ. وسجَّلَ العدَّادُ علينَا مبلغَ دينارٍ كويتي ونصف، أي ما يُعادلُ 14 ليرةٍ لبنانيَّة.
والفندقُ في غايةِ الفخامةِ. وقدْ أُعطينَا غرفةً رقمُهَا 717، وهي ذات فرشٍ فخمٍ، ومقعدُهَا وثير، وأرضُهَا مفروشةٌ بسجَّادٍ مُثبَتٍ فيهَا.
وعندَ ولوجِنَا الفندق كانت الساعةُ المُثبَةُ على الجدارِ تُشيرُ إلى الثانيةَ عشرةَ والرُبعِ ليلاً، بينمَا كانتْ ساعتي اليدويّةُ تشيرُ إلى الحاديةَ عشرةَ والرُبع، أي بفارقِ ساعةٍ واحدةٍ بينَ بيروت والكُويت.
وبعدَ أنْ غسلتُ وجهي أويتُ إلى فراشي. وكذلكَ الأخ سليم. وكانتْ الساعةُ قدْ بلغَتْ الواحدةَ بعدَ منتصفِ الليل، لكنَّ النومَ استعصى عليَّ.
وبعدَ اللتيَّا والتي ولجتُ مدينةَ الكرى السحريةَ التي تقطنُ فيهَا الأحلامُ مُراوِدةً جميعَ الأنام.
27حُزيران 1970
يقظَتي في فُندقِ شِرَاتون- الكُوَيْت
كانتْ الساعةُ تُشيرُ إلى السادسةِ عندَمَا استيقظتُ مِنْ نومي العسير، وميزانُ الحرارةِ كانَ يُسجِّلُ الدرجةَ (20)، معْ أنَّ مُكَيِّفَ الهواءِ كانَ يعملُ طوالَ الليل. فنهضتُ وغَسلتُ وجهي، وما لبثَ الأخُ سليم قمبرجي أنْ نهضَ مِنْ رُقادِهِ أيضاً.
انتصيتُ قلمي ورحتُ أُدَوِّنُ مراحلَ وقائعِ الأمس، فاستغرقَ ذلكَ نصفَ ساعة. ثمَّ هبطتُ والأخُ سليم إلى مطعمِ الفُندقِ، وتناولتُ فيه كوباً منَ الشاي مع الحامض، وقسمتُ كعكةَ بسمسم كانَ قدْ أحضرَ لي منْهَا سبعاً الأخ جان شدياق بالأمس، فوضعتُها في حقيبتي. قسمتُها إلى نصفين، لي نصفٌ ولسليم النصفُ الآخر، وغمسنَا لُقمِهَا بالصعترِ والسُمَّاقِ الحرِّيف، وهذا اللونُ من الطعامِ أُحبُّهُ كثيراً.
إلى أَسواقِ المدينةِ
وخرجْنَا سيراً على الأقدام، ورُحْنَا نضربُ عرضَ الطُرقِ أنا والأخ سليم. وكُنَّا ندخلُ شتَّى المتاجر، نُقلِّبُ نظرنَا بمحتوياتِهَا، ونلمسُ موجوداتِهَا.
إنَّ شوارعَ الكُويتِ فخمةٌ، وأبنيتُهَا ضخمةٌ، وهي مبنيَّةٌ على الطرازِ الحديث، وبضائعهَا متنوّعةٌ.
وقد دخلتُ أسواقاً قديمةً فيهَا شتَّى أنواعِ السِّلَع، ولكنِّي لاحظتُ أنَّ الأسعارَ مرتفعةٌ أكثرَ منْ أسعارِ مدينةِ بيروت؛ معْ أنِّي سمعتُ مراراً وتكراراً مِنْ أشخاصٍ عديدين أنَّ السِّلَعَ في الكُويتِ أرخصَ من سِلَعِ بيروت لأنَّهُ ليسَ عليهَا أيةُ رسومٍ جمركيَّةٍ. ولكنَّ الحقيقةَ أظهرتْ العكسَ بصورةٍ جليَّةٍ لا غُبارَ عليهَا.
كان الميزانُ يُؤشِّرُ 44 درجةٍ مئويّة، والحرارةُ على إزديادٍ مُطَّرِد. فأعياني الحرُّ (لا السيرُ). وكانتْ الساعةُ قدْ بلغَتْ العاشرةَ صباحاً؛ فاستقلَّيتُ تاكسي عائداً فيه إلى الفُندق، فبلغتُهُ بعدَ خمسِ دقائق نَقَدْتُهُ عليهَا رُبعَ دينارٍ كويتي، أيْ ما يُعادلُ ليرتين لبنانيتين ورُبعاً.
بلغتُ الفندقَ وأنا مُرهَقٌ لشدَّةِ القيظِ المُنهِك. وولجتُ الغُرفةَ، وابتَرَدْتُ بالماءِ المثلج المحفوظِ بالترموس. ثمَّ غسلتُ وجهي، وتنشَّقتُ عُطرَ التاباك الأرج، فخفَّ بذلكَ إرهاقُ الحرِّ القاتلِ عنِّي.
وكان الجرسون يُصلحُ السريرين، فسألتُه أنْ يدعَني أُشاهدُ غُرفةً خاصةً معْ صالونِهَا. فأدخَلَني إلى غُرفةٍ رقمُهَا 718، وهي في غايةِ الفخامةِ، وفيهَا سريران فخمان، وصالونُهَا مُنسَّقٌ تنسيقاً رائعاً، ويزينُهَا من الثُريَّاتِ والصحونُ الصينيَّةِ المنمَّقةِ ما ترتاحُ العينُ إليه. وكذلكَ فيهَا برَّادٌ وفرنٌ خاصَّان. وسألتُهُ عن الأجرِ الذي يتقاضونهُ عن هذهِ الغُرفةِ وصالونِهَا، فأفادني أنَّ أُجرتَهَا اليومية تبلغُ 22 ديناراً كويتيَّاً للمنامةِ فقط، أيْ 30 جُنيهاً مصرياً، أي ما يُعادلُ 200 ليرة لبنانية. ثمَّ خرجَ المستخدمُ، ودخلتُ إلى الحمامِ فابتردتُ فيه. بعدَ ذلكَ جلستُ أُدَوِّنُ حصيلةَ اليومِ حتَّى الساعةِ العاشرةِ ونيفٍ منه.
رُقادٌ بعدَ إرهاقٍ لشدَّةِ الحَرِّ
كانتْ الساعةُ الثانية بعدَ الظُهرِ عندمَا استسلمتُ للرُقادِ بعدمَا أُرهِقتُ لشدَّةِ الحرارةِ الرهيبة. وطالَ نومي حتَّى الساعةِ الخامسةِ إذْ نهضتُ نشيطاً موفور العزيمة. وارتديتُ ثيابي، بعدَ أنْ طلبتُ كوباً من الشاي الممزوج بالليمون الحامض.
وفي تمامِ الساعةِ الخامسةِ والنصفِ استقلَّيتُ أنا والأخ سليم تاكسي أقلَّنَا إلى سوقِ الخُضارِ والفواكه.
إنَّ البناءَ المختَصَّ ببيعِ الجملةِ للفواكهِ بناء ضخمٌ واسعُ الأرجاء. وقد شاهدْنَا فيه جبالاً من البطيخ السعودي الأحمر وهو أبيضُ اللونِ ومستطيل.
كذلكَ شاهدْنَا أكواماً من البطِّيخ الأصفر. ولدى سؤالي عنْ سعرِ البطِّيخ الأحمر، عرفتُ أنَّ الكيلو منه بعشرين قرشاً لبنانيَّا، في حين أنَّ الكيلو في لبنان بخمسين قرشاً.
وكانتْ آلافٌ من أكياسِ النايلون مملوءَةً بالبصلِ الباكستاني، وكلُ كيسٍ يحتوي على 10كيلو، وسعرُ الكيلو 20 غرشاً لبنانيَّا، بينَمَا في لبنان ابتعْنَا الكيلو منَ البصلِ الباكستاني، قبلَ شهرين، بليرةٍ ونصف، وأمسْ لدى مُغادرتي بيروت كان كيلو البصل الباكستاني بنصفِ ليرة.
وكمْ كانَ عجبي كبيراً عندمَا شاهدتُ هذا السوقِ وهو يحتوي على كلِّ أنواعِ الفواكهِ والخُضار، من إجاصٍ ودِرَّاقٍ وخوخٍ وبرتقالٍ وبندورةٍ وباذنجان وفلفلٍ أخضر وليمون حامض إلخ الخ ... أمَّا العِنَبُ فوجودهُ قليلٌ وحجمُهُ صغير.
قلتُ كمْ كانَ عجبي كبيراً لأنَّني سمعتُ مراراً أنَّ الكُويتَ لا يستطيعُ المرءُ أنْ يُشاهدَ فيها فواكهَ إلاَّ بشقِّ النفس، بينمَا الواقع، كما شاهدتهُ، بخلافِ ذلك.
ثمَّ استقليَّتُ السيَّارةَ والأخَ سليم برفقتي، ومضيْنَا إلى الشارعِ الرئيسيِّ في الكُويت؛ وتقومُ على جانبيه مخازنُ كبرى فيها شتَّى السِّلَعِ وهي مُرتَّبةٌ ترتيباً لا بأَسَ به.
أمَّا أسعارُ السِّلعِ فمرتفةٌ، وهي غير ما توقَّعتُه، لأنَّني كنتُ قدْ سمعتُ بأنَّ الكويتَ سلعُها رخيصةٌ لأنَّهَا معفاةٌ من الجمارك. ومعْ أنَّ الساعةَ كانتْ قدْ بلغَتْ السادسةَ والنصف مساءً، فإنَّ الحرارةَ كانتْ 35 درجة، وذلكَ يُضايقُ للغاية.
وقد عُدنَا إلى الفُندقِ في السابعةِ والنصف، وقد بلغَتْ مِنَّا الروحُ التراقي لشدَّةِ القيظِ الرهيب. وهُنَا، في الكُويت، تُغلَقُ المتاجرُ منذُ الساعةِ الواحدةِ بعدَ الظُهرِ حتَّى الخامسةِ، وإذ ذاكَ تفتحُ أبوابُهَا ثانيةً بعدمَا تخفُّ وطأةُ الحرِّ الخانقِ وتعودُ الحياةُ للمدينة.
وحالَ وصولي إلى الفندقِ طلبتُ كوباً من الشاي تناولتُه في غُرفتي المكيَّفةِ بالهواءِ. واختراعُ المُكيِّفِ هو إختراع، لا شكَّ، عظيمٌ، لمنفعتِهِ التي لا ريبَ فيهَا.
جلستُ أتَحدثُّ معْ الأخِ سليم في شتَّى الموضوعات. وما أزِفَتْ الساعةُ العاشرةُ والنصف حتَّى أوينَا إلى فراشينَا، وأسْلَمْنَا أنفسَنَا لسلطانِ النومِ القاهر.
28 حزيران 1970
نهضتُ منْ فراشي بفندقِ شراتون- الكويت في الساعةِ الرابعةِ صباحاً. فرحتُ أتلهَّى بمطالعةِ الصحفِ حتَّى انبلجَ الفجرُ وأشرقَتْ ذُكاء.
عندَ ذاكَ تناولتُ بعضَ الفواكه، ثمَّ ارتديتُ ثيابي؛ وبرفقةِ الأخ سليم ذهبْنَا إلى المدينةِ سيراً على الأقدامِ.
كانتْ المتاجرُ ما تزالُ مقفلةً، فجوَّلْنَا ما شاءَ لنَا التجوال. وما أنْ بلغَتْ التاسعةُ حتَّى ابتدأتْ المتاجرُ تفتحُ أبوابَهَا لإستقبالِ الزائرين من المشترين والمشتريات.
وبعدَ أن أرهَقَنَا الحرُّ الشديدُ الذي بلغَتْ درجتُه 36 معْ أنَّ الساعةَ كانتْ التاسعةَ والنصف، هرولنَا عائدين إلى الفندق. رتَّبْنَا حقائبَنَا وأقفلناهَا، ثمَّ استقلَّينَا سيارةً إلى محطَّةِ طيرانِ الكُويت. وكان حسابُ الفندقِ عن ليلتين بتناهما فيه 27 ديناراً كويتياً أي 250 ليرةٍ لبنانيَّة. وهذا عن المنامةِ فقط دونَ الطعام.