حذار ثم حذار
الساعة الآن التاسعة والثلث،
وأنا جالس بجناحي في فندق بيفرلي هلز، بضاحية بيفرلي هلز، في أميركا، أفكر بهذه المدينة التي وصلت إليها ليل أمس،
وأفكر بما مثّل فيها من أفراح و أتراح،
أفراح السخفاء من أبناء البشر الغارقين بالأضاليل والتوافه.
فعندما يغرقون أنفسهم بالملذات القذرة،
يظنُّون أن أفراحهم قد بلغت غايتها،
وحقيقة الأمر أنهم يكونون غارقين حتى أعناقهم بمباذل
سوف تكون عاقبتها وخيمة عليهم.
إن هذه المدينة حافلة بضروب الملاهي المتعدِّدة؛
ومن لم يكن مثقلاً بالدولارات، فلا نصيب له فيها.
فالدولار أصبح رباً ومعبوداً، فهو السيّد المُطاع دون سواه،
وقد غرق الجميع،من قمة رؤوسهم حتى أخامصهم،
بالتهتُّك والموبقات الدنيئة،
فهم قد مزَّقوا برقع الحياة عن وجوههم،
وخاضوا في لجَّج المباهج الزائلة والبهارج الفانية،
مُتناسين زلزال عام 1906، يوم 18 نيسان منه،
ذلك الزلزال الذي دمّر مدينة سان فرنسيسكو.
وما يدريهم أن الكرّة ستُعاد عليهم، إن لم يرعووا عن غيّهم،
ويندموا على تهتُّكم المُعيب،
واندفاعهم في ارتكاب ملذات حقيرة
لن تكسبهم سوى الموت والعار.
فالحكيم الحكيم من اعتبر واتعظ،
فيعود ويتمسك بالفضيلة
لأن الفضيلة هي الخالدة،
والرذيلة لن يكتب لها إلا الفشل التامّ.
إن الحرب النووية على وشك الإندلاع.
وإذ ذاك ستدكّ الأرض دكاً وستدمر تدميراً تاماً،
فيفنى أبناء آدم!
ومن كان متمسِّكاً منهم بالفضيلة، ولم تغرّه الشهوات الساقطة،
فإنه يجد عالماً سعيداً، وفردوساً مُذهلاً بفتنته، وأبدياً بسعادته،
ينتظره ليخلد فيه مُتنعماً بمباهجه الإلهية اللانهائية.
وبعكسه، من ارتكب الموبقات الآثمة، وغرق في لجج الآفات المُدنسة فإنه يلقى عذاباً رهيباً وشقاء سرمدياً،
فحذار، ثمَّ حذار، ثمَّ حذار.
ضاحية بيفرلي هلز
الساعة التاسعة والثلث صباحاً
تاريخ 19/1/1977
عنكبوت النسيان
وينسج عنكبوت النسيان خيوطه المُحكمة،
وإذا بالحزنِ العميق الذي حطّ علينا بكلكله،
بعد فقدنا لأحب حبيب لدينا، وقد تناسيناه،
أصبح ذكرى تمرّ بخواطرنا في مناسباتٍ خاصة.
إن الإنسان مشتقٌ من النسيان.
فالأعوام الزاحفة تطوي أهمّ أحداثنا المأساوية؛
وسواء أكانت تلك الاحداث الهامة
مُفرحة أو مؤسية، فإن الزمان يبتلعها بطياته؛
فالزمان كالمُخدر يسيطر على شعورنا،
فإذا بنا وقد نسينا الماضي بأفراحه وأتراحه،
ولا نعيش إلا بحاضرنا الذي نسير في دروبه المُتشعبة.
فكم من صديق حقيقيّ غيبته القبور بظلماتها المُدلهمَّة؛
وساعة انطلاقه إلى عالم الغيب، كان وقع ذلك الغياب رهيباً.
وبانطواء الأيام خفّت وطأة الأحزان وتلاشت أثقال الأشجان.
وبفناء الليالي فناء لوجودي.
إذ لماذا التشبث بتوافه هذه الدنيا التعيسة؟
ولم التكالب على بهارج دنيانا وزبارجها الزائلة؟
وعندما أفكر بأمجادِ سليمان الحكيم،
وبثروته الطائلة الخيالية، وبهيكله الشامخ الذّرى،
وقد دكّت أركانه،واضمحلّ بنيانه، وتفكَّكت عرى أوصاله،
إذ ذاك يتملَّكني العجب العجاب،
وأذهل من عدم اعتبارنا لهذه الحقيقة الصادعة،
حقيقة أباطيل العالم وفنائه الذي لا بد منه.
أوليس الملك سليمان الحكيم نفسه من قال بأمثاله:
"باطل الأباطيل وقبض الريح".
فإذا كانت الأرض، بكل ما تحويه، مآلها إلى الزوال والفناء السرمدي، فلماذا، لماذا لا نتجه نحو القوّة الموجدة،
نحو المكوّن الإلهي السامي،
نحو خالقنا من العدم إلى الوجود،
نحو الله الذي هو الألف والياء،
إذ هو البداية وهو النهاية؟
ولماذا لا نطلّق الأطماع التي تقودنا إلى الهاوية السحيقة الأغوار؟
ولماذا لا نتمسك بالفضيلة نابذين الرذيلة؟
ولماذا لا نسير في طريق الهداية والحق والصراط المستقيم؟
حتى إذا دعانا داعي الموت الذي لا بد منه ولا محيص عنه،
نكون ساعتذاك مُتأهبين لمرافقته والإنطلاق معه
إلى كوكب دريّ يتوهج بأنواره الإلهية.
وهناك نكافأ على استقامتنا فنُعطى فردوساً داني القطوف،
أيامه أعياد وأسابيعه بهجات أعوامه مسرَّات،
لا يمكن لقلم بشري أن يصف مقدار سعادته اللانهائية.
وهناك نجتمع مع أحبائنا وأعزائنا ونسبح الله،
ونمجّد قدرته الإلهيِّة، ونحيا إلى ما لا نهاية بسعادة
تقصر الأقلام عن وصفها لعظمتها وروعتها!
فتعال، تعال أيها الموت الحبيب واحملني بعيداً
عن عالم الأرض الشقي بأتعابه الرهيبة،
ودعني أجوس معك جنة الخلد، فتهنأ روحي،
وتبتهج نفسي في ذلك الملإ العلويّ.
في السيارة الذاهبة إلى نيويورك
الساعة العاشرة إلا ثلثاً من صباح 16/2/1977
الديانة الداهشية
وجهك أروع من وجوه فتيات الفراديس وقيان جنَّات الخلد!
وعيناك درتان تتوهجان، فتبهران الأنظار بتألقهما العجيب!
وجبينك جنة عدن حيث رتع آدم وحواء!
وشعرك كأغصان الصفصاف،
يداعب النسيم العليل البليل أفنانها المتهدِّلة!
وفمك الأحوى كخاتم النبي سليمان
أبصم عليه قبلتي المُلتهبة بحبّك!
وشفتاك وردتان نادرتان: قرمزيّة وجوريّة!
وأذناك يا لروعتهما! ما أشد فتنتهما!
فالأذن اليمنى جوهرة كوهي نور الشهيرة،
واليسرى ماسة التيجان المتألقة بأنوارها الساطعة!
وعنقك برج بابل المُتشامخ بعنفوان!
وذراعاك أشبههما بالصليب المُقدَّس
الذي سمّر عليه سيّد المجد!
وأنفك دقيق، ومبسمك رقيق!
وأسنانك لآلى تتوهج، وماسات تتألق بأشعتها العجيبة!
فيتكسّر النور على النور.
وساقاك عاج نفيس يتمناه أباطرة أثيوبيا!
وقوامك جبل هملايا الشامخ الذرى،البعيد المنال!
وهامك جبل كلمنجارو الأفريقي المتسامق نحو بروج السماء!
إن فتنتك العجيبة أيقظت جبل جلعاد الهاجع بطمأنينة،
فراح يلتهم محاسنك الخلابة بناظريه الخفيين.
وصدرك العجيب،صدرك الفردوسي البهجات،
إن هو إلا حديقة البارناس المترنحة بلذاذاتها الخالدة!
ونهداك يمامتان وديعتان أفتديتهما بنفسي وروحي وقلبي وحسي.
إن صنين خشع لجمالك المُذهل،
وأرز لبنان أنشدك نشيد حبّه السامي،
وبلابل الغياض غرَّدت لفتنتك الفينوسية،
وشحارير الأرباض رنَّمت بترانيم الفرح لفتوتك،
وصحراء سيناء أنشدتك ترانيم بني إسرائيل،
عندما تاهوا بفيافيها أربعين عاماً كاملاً،
وصهيون مهبط الوحيّ والتجلِّي الإلهيّ
انحنى إجلالاً لروعة مفاتنك؛
وهيكل سليمان بارك البطن الذي حملك،
وأهرام مصر العظيمة تحدثت بعذوبتك،
وأبو الهول الصامت نطق عند رؤيتك،
وجبل الطور سجد لأنوثتك،
ولم يسبق له السجود إلا لخالقه ومكونه.
فكيف بي لا أنتشي و ترتعش روحي عند مشاهدتك؟!
فأنت بأبي وأمي يا من تدلَّهتُ بغرامها المشبوب،
فأنت أروع أحلامي وأبهى تصوراتي!
وستبقين مثلي الأعلى حتى يوم مماتي.
الولايات المتحدة الأميركية
الساعة 11 ونصف ليلاً
تاريخ 3/3/1977
وتفجَّرت دنيا نا
زأر الصاروخ النوويّ فاذا بالرعبِ سائد
رُدِّمَت دنيانا, وأندثرت شوامخها, وكلُّ شيءٍ فيها أصبح بائد
والبرايا صعدت أرواحهم تشكو لخالفها تلك الأهوال والشدائد
مدنيَّة الأجيال تهدَّمت, وتقوَّضت, ولم يعد فيها ذاهبٌ وعائد
كلُّ ذي نسمة صمت أيدياَّ, فلم يعد في الدنيا شاتم أو حامد
تفجَّرت الأرض, وأبتلعت قاطنيها من كلَّ شابٍ وشيخٍ وناهد
سكون القبور خيَّم عليها , اذ فُنيت ولم يبق عليها أيّ رائد
أطماع دنيا فجَّرتها, فكَّكتها,
فاذاها كالعهن تلاشت, ذابت, لأجل المكائد
كلّ بنيها جوزوا, فليس فيهم من يضارع قدِّيس الهند غاندي المُجاهد
بلابل الروضِ أندثرت, وغنيت أغاريدها, والله شاهد
فزلزلت دنيانا, وتفكَّكت أُسُسها , اذ عصفت بها الرواعد
هي استحقاقاتٌ انتقضَّت على أهل الأرض
فاذاهم مفكّكو الأرجل والسواعد
وفغر الجحيم فاه وابتلعهم فهلعوا واذا كلٌّ منهم مذعور, قائمٌ وقاعد!!
في السيارة الذاهبة الى نيويورك
الساعة 10 وربع صباحاً تاريخ 14\2\1977