الفاجعة العظمىى
وتجهَّمَ الجو وعصفت الرياح,
وومضتْ السماء ثمَّ أبرقت وأرعدت.
ثمَّ, ثمَّ قصفت بد ويٍّ رهيب,
وتساقطت الأمطار بغزارةٍ رهيبة لا مثيل لها,
فأضطرب البحر, وأذا الأمواج الثائرة كالجبال تهدر,
بعنفوان جبَّار مُرعب,
ورقصت الباخرة التي كانت تمخر الأوقيانوس,
وتأرجحت وكأنَّها كرة تتقاذفها الأرجل.
وأضطرب ركَّاب السفينة وهلعت قلوبهم,
وجحظت عيونهم للهولِ الساحقِ والرهبوت الماحق,
وكانت العاصفة تهدر بجبروتٍ صارم,
والخوف المُرعب حال اذ ذاك وصال,
فسجد الرجال وهم يضرعون في ساعةِ الرعب هذه,
رافعين ضراعتهم الى العليِّ المُهيمن على كلِّ ما هو معروف ومجهول
وولولت النسوة, وعلت منهن أصوات النحيب و الوجيب القاتل,
وأغمي على الكثيرات منهن.
وكان عو يل الأطفال يبعث الأسى العميق في النفوس.
وفجأةً دوى في الآفاق اللانهائيّة صوتٌ مُهيبٌ رهيب قائلاً:
- لقد طغيتم وبغيتم وارتكبتم الشرور الرهيبة, وما ارتدعتم عنها.
- انَّكم الآن تحصدون ما زرعتم.
وصمتَ الصوت.
فحدث هدوء هائل لبضع ثوانٍ.
ثمَّ انقضَّت صاعقة مزمجرة بهديرٍ جبَّار
فدمِّرت السفينة وبعثرت أشلاءها
مُمزِّقة اياها شذر مذر!
وكان الليل الدجوجيّ يضرب سرادقه المُدلهمّ على المحيط
فيزداد المنظر رهبةً مُرعبة,
لا يمكن لقلمٍ أن يصف أهوالها الفاجعة.
وفي صبيحة اليوم الثاني ليوم الهول المشؤوم,
كانت الأجساد طافية على صفحة البحر الذي هدأت ثائرته ,
وكانت الحيتان الجائعة تلتهم الأجساد بنهمٍ عجيبٍ غريب.
فيا لحياة الأنسان التعيسة,
اذ ما يكاد يرى نور هذه الحياة
حتى تضمَّه ظلمة القبر الدجوجيَّة .
فالحياة حُلمٌ عجيب ولكنه سريع الزوال.
فواهاً لأمال الأنسان السرابية الترابيَّة !
بيروت, الساعة السابعة الاَّ عشرة دقائق مساءً
تاريخ 7\4\1973
ضراعة لخالق البرايا
تبارك اسمك يا الله!
السماوات تُحدّث بعجائبك،
و الكواكب تُنبئ عن صنع يديك،
و السُّدم تذيع أخبار معجزاتك،
و المجرَّات تنشر انباء خوارقك،
و الجبال الشامخة المُشمخرة تطأطئ رؤوسها،
و تخرّ هولاً أمام موطئ قدميك!
و الأشجار السامقة ترتعد من عظمتك،
فتلتجئ لرحمتك الشاملة،
و البحر الجبَّار الثائر المُتلاطم الامواج
يخشع أمام جبروتك العاصف،
و العاصفة تنكفئ و تستكين أمام مهابتك الإلهيّة،
و الصواعق تصمت و تخرس
فلا يسمع لها ركز أو إيقاع،
و الزلازل تنكمش على نفسها،
فلا يسمع لها همسة أو نأمة،
و البروق المُومضة يخبو بريقها و يأفل نورها
أمام انوارك العجيبة،
و الرعود القاصفة تذعر من بهائك و جلالك
فتلزم الصمت الأبدي،
و أسود الآجام و نمور الآكام
يحلّ بها الوجلْ لخشيتك السرمديّة،
و مخلوقات الأرض طراً تحني هاماتها
و تعفّر جباهها بترابِ نعليك المقدَّسين.
إن عظمتك أيها المُوجد
لأعجز من ان يصفها قلمي المسكين!
إن فلاسفة الأرض و أدبائها و حكماءها و كتابها و فصحاءها
لأعجز من ان يستطيعوا وصف عظيم جلالك،
و روعة جمالك، و لألاء بهائك!
أي موجدي و موجد البرايا معروفها و مجهولها،
إنني أضرع إليك بخشوع كليّ
لكي تقيلني من عثراتي الكثيرة،
و تغفر لي حوبي، و تمحو ذنوبي.
فأنا مخلوق ضعيف، و لا رجاء لي إلا بك،
فرحمتك و حنانك يشملانني، و يشملان الخلائق طرّاً.
إن آثامي متعددة، و ارتكاباتي هائلة رهيبة،
و لكن رحمتك عظيمة و عفوك شامل.
فاشملني برحمتك و عفوك الإلهيين.
آه! ما أعظمك أيها المُهيّمن الجبّار!
و ما أرحمك و اعدلك بنا
نحن أبناء هذه الغبراء المساكين!
مرسيليا، في الساعة التاسعة و الثلث
من صباح 26/2/ 1974
غربت شمسي وأفلت أيامي
أشعر الآن بأنَّ شمس حياتي قد أذِنت بالغروب ,
وأيَّامي تتراكض متسابقة ولاجَّة بالهروب.
لقد تكأكأت عليَّ الأيَّام فتحوّلت لأسابيع فأعوام,
وعمري المعنّى سرعان ما فرَّ فرار الزئبق الرجراج!
فمنذُ فتحت عينيَّ لازمني البؤس, ورافقني الشقاء,
وأحاطت بي شراذم لا تحصى من شتى الرزايا والبلاء.
لقد قضيتُ طفولتي وأنا بعوزٍ شديد وحاجةٍ ماسّة,
ففي مطلع صباي كنتُ خالي الوفاض, اذ كانت جيبوبي خواء خلاء,
فبالجهد كنت أتبلَّع لقمتي اذ كان الأملاق رفيقي وخديني,
والشقاء التامّ أحاط بي احاطة السوار بمعصمِ الحسناء اليافع.
وها أنا الآن, وبعد طول هذه الأيام الشديدة المرارة
أقف على عتبة الأبديَّة منتظراً ملك الموت
واله مدينة الصمت السرمديّ,
ليأتي ويحملني طائراً بي , موغلاً نحو الأعالي,
مُبتعداً عن عالم المادَّة, مُقترباً من عالم الرُّوح الرائع المفاتن,
فأسرع أسرع أيُّها الموت, أيُّها الحبيب المرجَّى !
أسرع وأوقف ضربات قلبي الحزين ,
فقد ملَّ البقاء في دنيا الوحوش المُفترسة,
والذئاب الكاثرة التي لا يطيب لها الاَّ الولوغ بدماء ضحاياها التعساء.
أسرع أيُّها الموت , وضمَّني الى صدرك الرحب,
ثمَّ أحملني وأوغل بي الى عالمك البعيد السعيد,
عالمك الذي يخافه الجميع , وأحبَّه أنا الحبَّ كلّه.
أدخلني الى فردوسك أيُّها الموت,
فقد ضاقت نفسي من هذه الأرض وما تحويه من شرورٍ,
وما تجيش به من حقاراتٍ وارتكاباتٍ دنيئة وفجور,
آه ! لقد مللت الدنيا بما فيها , بمعارفها وخوافيها,
فدعني أيُّها الموت أدخل الى مدينتك السحريَّة,
مدينتك ذات السكون ألأبديّ والصمت السرمديّ,
ومن عالمك الرائع المفاتن, هذا العالم الذي تتوق اليه نفسي,
أنظر الى عالم المادَّة الذي خلفته ورائي,
فأراه غائصاً بالمعاصي حتى النواصي,
فأحمد الله الذي أنقذني منه,
بعدما مكثتُ فيه أعواماً طويلة,
مليئة بالشقاء المُرعب والعذاب الرهيب.
ربَّاه ! رحماك وأنْه حياتي,
ودعني ألقى مماتي,
فالموت خيرٌ من الحياة في أرض الذئاب المُفترسة !
باريس, تاريخ 21\11\1973
والساعة الثالثة والربع بعد الظهر