جحيم الذكريات
ذكريات مؤسية
أيها الحزن ... لقد أجَّجْت صدري بالمُزعجات
أيها القاطن في أعماق روحي في هذه الحياة
لقد سلخت عني المُطربات وانتزعت مني المُبهجات
ثم رفعت الغشاوة عن عيني فأبصرت أسرار البسيطة
وشاهدت أيام صبوتي الساذجة البسيطة
وعند ذاك ... مرّت أمام نفسي الحزينة شتّى الذكريات
داهش
( من كتاب بروق وروعود )
هذا الكتاب !..
بقلم كرم ملحم كرم
لي في الشعر المنثور رفيع هوىً. فالعاطفة في رحابه مُطلقة الأعنّة ، يدفعها الخيال فتنقاد، وتجلوها الموهبة فترتع في انسجامٍ صقيل ، فلا قيود ولا حدود . ألا مرحباً بشعرٍ طلّق القافية !
على أنّ هذا الشعر ، الشعر المنثور ، ليس من السهولة بما يبيح لكل طارق أن يتغلغل منه في المحراب . فهو والشعر الموزون المقفى ينبعان من عين واحدة . فإذا جفا الطبع ، ونبا التوليد ، فالنكوص أوْلى . ولا خير في معنىً أرمد العين ، وفي مبنىً معتلّ الكبد . فالسقم في مواليد الأدب يزيد على الغنية !
بل إنّ للشعر المنثور أحكاماً مزدوجة لا سبيل إلى التعامي عنها : أحكام الشعر وأحكام النثر معاً . فعليه أن يملك من الشعر رنّته وخياله ، ومن النثر حبكته وعالي سناه . فإذا اجتمعت به روعة الشعر الحالية العود ، وصياغة النثر المحكمة الأداء ، فقد توفر فيه الفنّ وأشرف على الغاية. وإلا فما يدعو إلى إجهاد النفس في ثرثرةٍ بالية ؟
والشعر المنثور طبع الأدب العربي بطابعه في ما عالج منه جبران خليل جبران وأمين الريحاني . على أن جبران أصفى خيالاً وأبعدُ مدىً . فهو وحده فارضٌ هذا اللون الجديد على أدب الضاد . ولولاه لاستبقى الخيال العربي صبغتهُ في أواخر عهد الانحطاط وأوائل عهد الانبعاث : صناعة لفظيّة ليس لها من السموّ دعامةٌ تتكئ عليها . إنْ هي إلا حشوٌ مملٌ وتكلُّفٌ ممقوت !
وعهد الانحطاط عشق الألفاظ دون المعاني ، وامتدّت عدواه الى مطلع عهد الانبعاث . فما شذّ عنها سوى أديب إسحق وقد صان بيانه عن الإغراق في التدجيل اللفظيّ . فنفح الأدب بأسلوب خاص يتنكّر للسجع الرخو الشكيمة ، وللخيال البليد . وهذا الأسلوب جاد على أدب الضاد بدم طريف استروحت به اللغة العربية شميم الحياة ، فأدركت أنّها في مستهلّ نهضةٍ ريّا . وتوفرت لها ترجمة التوارة ، فنعمتْ بالشعر المنثور الأغنّ الجرس . كما نعم العهد العباسيّ بالمقامات وقد عكف على سبكها بديع الزمان ، فأقام منها فنّاً خاصاً جلاه الحريري ، ونافرهما فيه الكثيرون ، فما ثبت على المحكّ سوى ناصيف اليازجي في "مجتمع البحرين" وبه ختم السجع عهده وصرنا الى تحطيم القيد والى الإنطلاق الرسيل .
ومنذ بديع الزمان والأدب العربي يتعثر بالألفاظ . فكان ضفائر محبوكة من غويص المعاجم ووعر الكلام . لا يمتد الأفق بالمنشئ الى أبعد من الصياغة ، وقد جهل الخيال المجنّح والنفاذ الى اللبّ الصراح ، فاشتغل الأدب بالرصف . ولقد رصف أهراماً على أهرامٍ ، جميلة التنضيد ، براقة النظيم ، إلا أنها أهرامٌ من حطبٍ جاف لا عصير فيها ولا زبد . فانكبَّ على المعاجم وعلى كل ما ينحو نحو المعاجم ، فما استولده أقطابه غير الأدب المصنوع وليس فيه الكفاية .
وزاد القوم هياماً بالألفاظ ذلك الطراز من الشعر المعقّد الكلم لخالقه أبي تمّام وللاحقه فيه أبي الطيّب المتنبّي. فتعمّلا البيان يذلّلانه للصناعة . ولولا تفوّقهما في النفس الشعريّ لخنقهما الجهد المكدود . وأقبل أبو العلاء بلزوميّاته فناءتْ معانيه الجسام بألفاظه الضّخام وقد فرضها على شعره عنوةً واقتداراً . وإننا لنسمع أبداً لهاثها تشكو به اضطراب نظامها وترجو الغوث والإنصاف!
مع أنّ "الأغاني" راجت في ذلك الحين موفورة السلاسة ، شجيّة الأغاريد ، ومع انّ شعر عمر بن ابي ربيعة ، وجميل بثينة ، وأبي نؤاس ، ملء الأسماع والأبصار ، ولكنّ الفحولة بدت لأبي تمّام في الأخطل والفرزدق فجاراهما ، بل حاول أن يعلوهما ويزيدهما شأواً ، فغاص على الخشن الغليظ من الكلمات ونبذ الطبع السليم . وتفتحت عينا المتنبي وشعر أبي تمّام في كل فمٍ وفي كلّ أذن فأبى إلا أن يقتحم الميدان .
ولكن الأدب العربي ملّ الجعجعة مع طربه للفخامة ، وشاقته موشحات الأندلس في نداها وسميح زغبرها ، فنهد إلى الجو الطليق. وفي الموشحات من رحابة الخيال ما لا تسخو به اللزوميات . فكان أن عافت النفوس التقليد ، وحنّت إلى الخلق والإبداع .
وطغى عهد الانحطاط زمناً طويلاً فخرست الألسن . وما تنفس أدب الضاد إلا والبعثات الدينية الغربية تستقر تحت سماء الشرق حاملةً بيمينها التوارة . وأدب التوارة مهر أدب الانبعاث بمواليد صحاح ، منها الرقّة والخيال ، الكامنان في الشعر المنثور ، بل إنّ الشعر المنثور نفسه وليد التوارة ، فما نغشَ به أدب الضاد إلا وقد ترجمت إلى لغتنا مزامير داوُد وأناشيد سليمان .
وأدب التوارة أبو الأدب الوجداني في اللغات أجمع . فعدا على الغرب ونهلتْ منه فرنسا أدبها المعتمّ به القرن التاسع عشر . وهذا الأدب ترجمناه واستقينا من نبعته ، فخرج بنا عن الخشونة ومال بنا الى الحياة . وقد يكون أبعدنا عن فحولة اللفظ ، إلا أنّ هذه الفحولة لا نريدها طاغيةً بل مسعفةً . والإسعاف بدأنا ننعم بمكنته ونتبين مداه .
والأدب الوجداني حزينٌ ، باكٍ ، وطابع الحزن والبكاء مقدورٌ له . وهو صورة ساطعة لكل نفس تأوي إلى اللحم والدم ، وما في اللحم والدم غير الخيبة والاضطراب والألم والنوح . فلا عجب أن يزخر الأدب الوجداني باللوعة والتلهُّف والزفرات .
والشعر يسيطر على التوارة . ولم يكن بالمستطاع ترجمة هذا الشعر شعراً والإبقاء فيه على معناه الناصع . فترجم نثراً ، وكانت منه نواة الشعر المنثور الشجيّ الأنّة . وقرأ فريق من أدبائنا هذا الشعر المترجم نثراً فطابت لهم محاكاته . ولقد فعلوا ، وفي طليعتهم جبران ، ونفحوا أدب الضاد بلون جديد يضمه إلى ثروته ومذخوراته ، وهو لون جميل الأداء ، ريّان الأسلوب . على أنّ السهولة الموهومة في الشعر المنثور أباحته لكل طالب . فتصدّى له من يندّ عنه الشعور وصفاء الروح . وبتنا ، ونحن نبغي سماع البلبل والشحرور ، نسدّ آذاننا عن نعيق الغربان والبوم .
وكل لون من الوان الأدب عرضة للإستباحة ، يواثبه صغار الأحلام ورائدهم الغرور ، ولا يرجعون عنه إلا وقد أذلوا ناصيته وشوهوا جهارته . ولكن الراسخ القدم هو الموهوب . ويكفي الشعر المنثور أن يخلع عليه جبران سنيَّ اللألاء ورحيب الخيال كي ينمو ويعيش ، ويفسح له الأدب العربي المجال الوسيع في دولته وأسواقه . فهو حديث العهد بالنور ، وقد أنجبه القرن العشرون ، غير أنه خصيب الجنى . فلا بدّ أن يتوفر عليه أدباءٌ مُلهمون ، ويرفعوه إلى الذروة . فلن يكون جبران وحده فارس الحلبة ، وإن يكن أول من شقّ الطريق ومهّد الصراط !
و " جحيم الذكريات " من بضاعة الشعر المنثور . فهي نفاثات روح يشقى ويتألم ، روحٍ خبِرَ الناس وتجلّت له حقيقة الحياة ، فنفر من الناس والحياة وساوره شكٌّ وقلق ، والتمس الخلاص من دنيا الأباطيل الطافحة بالخداع والغرور والحمق والآثام .
وفي كل مقطعٍ من مقاطع الكتاب يطفر اليأس ، ويطغى الألم ، ويندلع الكره وتثور النَّقمة . فما العالم في عُرفِ المنشئ غير كتلةٍ من ذئاب وثعابين . أما الخيرُ ، وأما الصلاحُ ، فكلمتان تحسب الأجيال أنّها منطلقة إليهما ، غير أنّهما كلمتا حقٍّ أريد بهما باطل . فما علاهما من الخير والصلاح غير قشرةٍ ناحلةٍ ، هزيلة ، على حين أنَّ اللبَّ كلّه نفاقٌ وضلال !
إنّ العالم لتعسٌ شقيٌّ في "جحيم الذكريات" والناس فيه أدنياء جشعون أو أغبياء مُحتالون ، وهو قول صدق. فالعالم بؤرةٌ من ألم واضطغان وبلاهة وفساد . يدّعي الصلاح ولا يحاوله ، ويطمح إلى السعادة ولا يبلغها ، بل هو لا يطيق بلوغها ونفوس أبنائه أعشاشٌ للغدر والحسد والخسّة !
ولقد آثر صاحب " جحيم الذكريات " الشيطان على الإنسان . والرأي نبيلٌ ، فالشيطان مع كل انغماسه في الدنس والكيد والحقد والشر لا يبلغ منها ما بلغ الإنسان في رجسه وسفالته ومدى طغيانه .
وصاحب "جحيم الذكريات" واعي الإحساس . فما خفي عليه أنّه يتخبط في هذا العالم مثله في خضمٍّ يموج بالرياء والبغضاء والخيانة والفساد . فالرياء في من حوله ، والبغضاء في صدور من يتوهّمهم أعزاء عليه ، والخيانة في من يحسبهم أوفياء ، والفساد في من يدعون التُّقى ويتاجرون برحمة الله !
أجل ، هنا هي الجحيم العاتية ، لا في العالم الآخر . والشيطان في هؤلاء الدراجين على سطحها ، لا في جهنّم النار . كلي ثقةٌ وإيمان ، فالجحيم والشيطان مع كل أهوالهما ليسا أشدَّ ويلاً من الأرض وأبنائها على الأرض وأبنائها . فجهنم الأرض ألأم من جهنّم الآخرة . وشيطان الأرض أعظم رعبأً ودمامةً ورجساً من شيطان النار الدائمة الضرام !
لقد أعجبني من " جحيم الذكريات " مرماه ومعناه . ففيه الشعر المنثور الرقيق ، إلا أنّ أروع ما فيه الحقائق الشهب النضناضة اللسان .
فالعالم جحيم ، والإنسان شيطان ، وأجيال الناس مواكب من ثعابين وذئاب ... هدفُها ، كلُّ هدفِها ، نهشُ بعضها بعضاً !
إنّها لصورةٌ متوعّدةٌ ، راعدة ، ولكنها صادقةٌ ، قاطعة ! ألا اخلعْ عنك ثيابك لنعرفك من أنت . ما أبعد هذا الإنسان الروّاغ الضاري عن مثال الله !
كرم ملحم كرم
بيروت ، شهر نيسان 1934
الحقيقة الصادعة
لا صديق ( حقيقي ) في هذه ( الحياة ) !
كلا ، وليس من تطمئنُّ له نفسي ، ويرتاح إليه فؤادي !
لا ، وليس من أبثُّه شكاتي ، وأفضي إليه برغباتي !
لا ، وليس من أؤمن بنزاهته ، أو أثق بأمانته !
لأنّ الصداقة ( الحقَّة ) لا تحيا في أجواء هذا العالم الخادع ،
بل إنّها لا ترضى أن تكون سجينةً فيه ،
مقيّدة بنظمه المحدودة العاتية !
الصداقة ! كلمةٌ عذبةٌ جميلةٌ هادئة ، رقيقةٌ فتانةٌ ساجية !
إنّها ( حلمٌ ) بعيدٌ بعيد ، ولكنّه جميلٌ جميل !
إنّها ( وهمٌ ) من الأوهام يطوف بهذا العالم الماكر !
إنّها ( طيرٌ ) طليقٌ يعلو ويعلو ، وليس لأحدٍ من يدٍ عليه !
إنّها ( سماوية ) حين تتجرد عن الغايات ،
( أرضية ) حين تتردَّى في حمْأةِ المقاصد ،
( جهنميّة ) حين تهزأ بنفسها ، وتنسى ذاتها !
إنّها ( عظيمة ) تضارع السماء ، إذا لم تكبّلها الغايات البشريّة ،
والمقاصد الدنيويّة ، والنزعات الجهنميّة !
إنّها ( نقيّة ) كألوان الشّفق حين لا تلوثُّها الأدران بأوزارها !
إنّها ( روحٌ ) قدسيّ يسبح في فضاء المجهول البديع المثال ،
البعيد المنال !
إنّها ( فردوسٌ ) سماويّ مليءٌ بشتّى ما تتمنّاه الأنفس ،
وتصبو إليه القلوب !
إنّها ( الحبُّ ) السماويّ البريء
تسكبه الملائكة الأطهار أمام عرش الديّان !
لكنّنا _ ويا للأسف ! _ نحيا فوق هذه الأرض ،
والأرض هي غير السماء
حيث الصداقة الحقّة !
كان لي في ( الحياة ) صديقٌ مُخلص ؛
لكنّه تحوّل من ( ملاكٍ ) رحيم إلى ( شيطانٍ ) رجيم !
فأكّد لي أنّ الصداقة الحقّة مفقودة ،
وأظهر أنّ هذه ( الزهرة ) العبقة الأرج
لا تَيْنع في حديقة هذا العالم البائس !
يا صديق ماضيَّ ،
لقد عرفت هذا ، قبل أن تعَرِّفنيه ،
ولن تراني أثق بك ، أو بأيِّ إنسانٍ ، بعد اليوم !
وإنّ جميع من تطلعُ عليهم الشمس صاروا عندي أسواء ،
بعد أن ألقيتَ عليَّ درسك المُفيد !
حَسْبي ، أيُّها ( الخائن ) ، ما لقيتُ منك ،
وحسبكَ ما سُمْتنيه من عذاب !
بل بحسبك تلك الكأس المريرة
التي سقيتنيها حتى آخر قطرة !
وواحسرتاه لذلك ( الأمل ) الهانئ الجميل
الذي كاد يُزهرُ ويُعَطِّرُ أجواء الفضاء ،
ثم ذوى ، ومات ، وتحوَّل إلى هباء !
لقد قضيت على الأمل الباسم ( بخيانتكَ الدنيئة ) ،
وحكمتَ عليه بالشقاء !
وداعاً ، دون لقاءٍ أرجوه ،
أو قربٍ أعود فأتمناه .
القدس ، 8 كانون الثاني 1936
حقيقة واقعة
إنّ ( روحي ) مُعذبةٌ حيرى !
والاضطراب يسير في جسدي المُهدّم البالي !
والأسى يشيع في حنايا نفسي الهائمة !
وصراخ ( فؤادي ) يشقُّ أجواز العنان !
ولا راثٍ لبلوتي ،
ولا مفرِّجٌ لكربتي !
بل ليس من يعطف عليَّ ، أو يرقُّ لي !
لكنّي ، لست في حاجة لعطف مخلوق ، أو رقّة إنسان !
أجل ، أنا قويّ ،
وقوّتي لا تقف عند حدّ ، وليس لها نهاية !
أنا ذو بأس ، وبأسي أكبته ، وأمنعُه عن الظهور !
أنا ثائرٌ على الوجود والموجود ،
ولن أنيَ عن هذه ( الثورة ) الجامحة الجبّارة ،
حتى يأتيني داعي الحِمام !
وعند ذلك ،
تنتهي هذه ( الحياة ) الغارقة في اضطرابها !
القدس ، 8 كانون الثاني 1936
نفس تعبة
ما هذا ( الشعورُ ) الغريب ،
الذي أحسُّه يتمشى في حنايا نفسي الحزينة ؟
ما هذه ( الكآبة ) التي تظلِّلُ ( روحي ) ،
وتبعث فيَّ عاطفة السأم الشامل والنفور العميق ؟
ما هذه ( الأخْيِلةُ ) المريرة التي تُدمي قلبي الحزين ،
وتلاشي وجودي المسكين ؟
ما هذه ( الآلام ) الجائحة تقطِّعُ أحشائي ،
وتزيد في بلائي ؟
ما هذه ( الأشجان ) التي تأبى فراقي ،
طولَ أيَامي وأعوامي ؟
ما هذه ( الطيوفُ ) الباهتةُ تحومُ فوق رأسي ،
وتثيرُ فيَّ أعمقَ التنهّدات وأغربَ التصوُّرات ؟
ما هذه ( النارُ ) المتأجّجة
تستعرُ في أعماقي ، ولا ينطفئُ لها أُوار ؟
بل ما هذه ( الحياةُ ) البائسة التي تفرضُ نفسها عليَّ فَرْضاً ؟
ومتّى سيُبَدَّلُ الحال غيرَ الحال ،
وتحلٌّ أيَّامُ الراحة والهدوء والسلام ؟
متى ؟ متى ؟ يا عروس أحلامي !
ألا تسمعين ؟
حيفا ، مساء 20 شباط 1936
زفرة صارخة
نفسي حزينة !
وأشعر بآلامٍ عميقةٍ تحزُّ في نفسي ،
وظلمةٍ مُدلهمّة تكتنفني ،
فألجأُ إلى الدموع ،
أقتل الألمَ بالألم ، والداءَ بالداء !
فيزيد عذابي ، وأغدو أذوب في حنايا البؤس والشقاء !
أنا أكاد ألمس الأسى الصارخ !
ويكاد الحزن المُمِضُّ يجتاح ( روحي ) المتألمة اجتياحاً !
أنا حزينٌ متألِّم ، شقيٌّ حيران !
أنا قلقٌ مُضطرب ، أنشدُ انطلاق ( روحي ) من جسدها في كلّ حين !
نفسي مُحطَمة ، وقلبي كسير ، وأنا والهٌ حزين !
أنا مسكينٌ بائس ، بل أشقى خلقِ الله طُرّاً !
أنا تعبٌ ، أُحسُّ بمرارةٍ لاذعةٍ لا يُحسُّ بها أحد ،
وألمسُ الوحشةَ القاتلة تعصرُ ( روحي ) عصراً ،
وتهصرُ ( قلبي ) هصراً !
أوَّاه ! ما الحافز إلى اكتئابي ؟
وما الدافع إلى اضطرابي وعذابي ؟
لا أدري ، لا أدري !
القدس ، 27 شباط 1936
متى ؟
الآن ، إنتهى كلُّ شيء ، وأُسدِلَ على الماضي السِّتار ،
وتلاشت حتى الذكرياتُ ! واأسفاه !
لقد مضى ما كان ، وعفت آثار الأمس القريب والبعيد ،
وامحت معالم تلك الأويقات السعيدة والسُّويعات الهانئة !
أما ذلك ( الحلمُ ) العذبُ الجميل فقد اضمحلَّ !
وأما تلك ( الشعلة ) المُقدسة الخالدة ،
فقد انطفأ أوارُها ، وخبا لهيبُها ،
وانزوت في زوايا الظلمة والنسيان !
وأوتارُ تلك ( القيثارةِ ) الشجيّة النّغم ، السحريَّة التوقيع ،
تقطعتْ ، وتفرَّقت بدَداً ، وغدت كالقصبةِ الجوفاء ،
تعبثُ بها رياح الصحراء ،
فتوقِّع ألحاناً مشوشةً ضائعة ، لا حياة فيها ولا روح !
وذوتْ زهرةُ العمرِ _ واأسفاه ! _ ذوتْ قبل الأوان !
وأنا ما أزال في ريعان الصّبا ، وعنفوان الشباب !
وتصرَّمَ حبلُ الأمل ، يعتلجُ في قلبٍ محطَّم ،
ونفسٍ قلقة ، وروحٍ حائر !
وأخيراً ، آه ! نعم ... وأخيراً فازت أشباح الليل المرعبة ،
وساد السكون الأبديّ ،
واشتمل حياتي ظلامٌ عميقٌ سرمديّ !
ثم سكت ذلك القمريّ ،
طائر أحلامي الجميل الذي طالما شدا وتكلَّم في سكينة الليل
شدْواً عذباً وكلاماً عذباً ،
سكت عن الشَّدْوِ والكلام .
وحاك ( الشرُّ ) ثوبه المظلم الكثيف ،
ودأب على حوكه ليل نهار حتَّى أتمَّه في خمس سنوات ،
وكانت له الغلبةُ والفوز في النهاية !
أجل ، لقد فرَّق ( الشرُّ ) بيني وبين صديقي ،
بيني وبين أخي ؛
والموت نفسه
ما كان يجرؤ على أن يدنو من ( المكان ) الذي كنّا نجلس فيه
نتساقى كؤوس الصداقة والولاء ، والحبّ والوفاء !
ويا للعجب ! استطاع ( الشرُّ ) أن يصنع ما عجز عنه الموت !
عجيبةً أحوال هذه الدنيا ، وغريبةٌ أسرار هذه الحياة !
أواه ! انتهى ما كان بيننا ، وأٌسدِلَ عليه ستارٌ كثيف ،
والذي ( كان ) مُحالٌ أن يكون !
ثم ( حقيقةٌ ) أثبتها ( نتيجةٌ ) لهذه المقدّمة :
الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الغادر الماكر !
وهذه الأرض ، دار الشقاء ،
أحقرُ من أن تحمل ظهرها ( صديقاً مُخلصاً ) !
حقيقةٌ مؤلمة ! ولكنْ ، ماذا أفعل ، والواقعُ الأليمُ يدعمها ؟
آه ! لا أستطيع أن أُصرّح ! لا أستطيع أن أقول !
يا إلهي ! ترى ، متى تنطلقُ ( روحي ) الصاخبة الجيَّاشة ،
الثائرة المُتمرّدة ، المُتألِّمة الحزينة ؟
متى تنطلق من هذه الحياة ؟
متى ؟
القدس , في 27 شباط 1936