القلب المُحطَم
يا قلبي
يا قلبي المعذَب، ويا عواطفي المُحطَمة،
ويا ميولي الجبَارة، ويا إحساساتي البائسة !
أنا ابن الأسى ووليد العذاب !
فطَهريني ، أيَتها الألام،
وانتشليني يا إلهة الطُهر
مما أنا فيه من تعسٍ بالغ ، وعذابٍ كبير .
داهش
من كتاب " كلمات "
فاتحة الكتاب
أهلا بالقلب المُحطَم المُلهم
يا أخي،
أرأيت الروض الناصع الزاهر بأزهاره ؟
والبحر الواسع الزاخر بتيَاره ؟
والفضاء الشاسع الباهر بأنواره ؟
هذا هو الدكتور داهش الرائع الساحر بأسراره !
فمن بساطة مُتناهية إلى عبقرية لامُتناهية !
ويشهد عليَّ هذا القلم الجاري على هذه الصفحة
يسوِدها كما تسوِد فحمة الليل وجنة النهار ،
أنَني ما دخلت مرَة على هذا الأخ العجيب ، والانسان الغريب ،
وهو في سرِ خلواته ،
إلا خرجت من غرفته حائراً مدهوشاً
لما أراه وألمسه من عجائبه وآياته !
فمن مطالعات دائمة ، ومراجعات ملازمة ،
وظاهرات روحيَة علويَة ،
إلى مباحث أخلاقية ،
إلى نشر آثار قلميَة ، وألوان أدبيَة فنيَة ،
هي بالإعجاب والدهشة حرية !
وأمامي ، الآن ، مخطوطة " القلب المحطَم " ،
من نتاج ذلك القلم ( السحريَ ) والفكر ( المُلهم ) ،
وهي صفحة من صفحاته ، ولمحة من لمحاته ، ونفحة من نفحاته !
وفيها الشعر والنثر ، والمعنى العميق الدقيق ،
والمبنى الرصين الرشيق ؛
وفيها العناوين الفريدة ، والمباحث المُفيدة ،
وكلها ترمي الى المرامي البعيدة والأهداف السديدة .
وأنت إذا طالعت هذه المجموعة من الألف إلى الياء ،
كما طالعتها أنا ، خشعت نفسك مثلي
لمثل هذه الرسائل البديعة ،
والتأملات الرفيعة ، والأحلام الصريعة ،
والصرخات الداوية ، والكواكب الهاوية ، والآمال الذاوية ،
إلى ما هنالك من نفثات صادقة ، وقلوب خافقة ، ودموع دافقة ،
وذكريات مؤلمة ، وثورات مُهدَمة ، وأجنحة مُحطَمة ،
ونفوس جائعة ، وحوادث رائعة ، وتنبؤات واقعة ،
الى غير ذلك من روائع بدائع الأقوال ،
حيث يتعانق الخيال بالحقيقة والحقيقة بالخيال !
وعندئذ ، تخشع الروح النقية فترتفع إلى العلياء ،
وتسمو الى أسمى سماء !
فيا أخي ،
إن كتاب " القلب المُحطم " تحفة ، بل طرفة !
وهو عندي همسات الهام ، ولمسات أقلام ،
وإن كان في نظر سواي عصارة يأس ودموع وآلام !
وإذا كان ( الألم واليأس ) ينبثق منهما ،
مثل هذه النظرات الأدبية المُذهَبة ،
والخطرات الروحية المهذَبة ،
فمرحباً باليأس ، وأهلاً بالآلام ،
ومرحى لنوائب الزمان ومصائب الأيام !
لم اشْكُ من وقع المصائب مرةً إن المصائب هذَبت أخلاقي
هذا بيت من أبيات قلتها من سنوات ،
واليوم ، جاءت هذه المجموعة الفريدة تؤيد هذا ( البيت ) وتقوِيه ،
وتدعمه بأدلتها البالغة البليغة وتعليه .
نعم، هذا ما لمسته وشعرت به ،
بعد أن طالعت بلذةٍ روحية هذه المجموعة الفنية الرائعة ،
وبعد أن أتيت على آخر كلمة من آخر سطرٍ
من آخر صفحة من صفحات هذا المؤلف العجيب !
أهلاً بالقلب المُحطَم المُلهم !
أهلا بالقلب الخافق الدافق !
فمنه ستتفجر مياه الرحمة والحب والحنان !
وحبَذا ( صخرة اليأس )
تغالبها الرياح الهوجاء ،
وتشقُها عواصف الأرض والسماء ،
فتحيينا بمثل هذه الينابيع الروحيَة الصافية ،
وتنعشنا وتقويّنا بالأسرار الإلهية الشافية !
حليم دموس
بيروت ، 12 حزيران 1942
شاعر يموت
ربَـــة الشعــــر الهمينـــي معجـــزاتٍ خالــــداتْ
وادنـــي منـي تسعدينــــي أنت يـــا سر الحيـــاةْ !
علِلينـــــي ، أملينـــــــــي أخبريني ، يـــا فتـــــاة
أصدقينــي ، يـا ملاكــــي هل تعود الماضيــاتْ ؟
يــا لقلبـــي من معنًــــــى يا لها من زفــــــراتْ !
أعلمينـــــي ، يا فتاتــــي ، أين تلك المبهجــــــاتْ؟
فَتَنَتْنــــــي إذْ رمتنــــــي بعيــــون ناعســـــــاتْ
وحَنَتْ نحـــوي عطفــــاً كحنــــوِ المرضعـــاتْ !
قبَلتْنــــــي ، أنعشتنــــي أصعدتني السمــــواتْ !
غمرتنــــــي بزنــــــودٍ يانعـــاتٍ رائعــــــاتْ !
يــــــا لسعدي ونعيمــي يا لها من مفرحــــــاتْ !
كـــم رقصنــا وشدونـــا في المروج العامــراتْ !
ويح قلبي ، بعــد هـــذا ، قطعـــت كلَ الصـــلاتْ
فغـدتْ روحي حيــــرى كالحيارى التائهــــــاتْ !
هجرتنـــي ، نبذتنـــــي سلبـــــت مني الحيـــــاةْ
هل سمعتم عن عذارى ذات دَلٍ فاتكـــــــــاتْ ؟
ضاق عيشي بعد هجـرٍ ذقتُ فيه المهلكـــــــاتْ
غاب أنسي ، يا لبؤسي ! يا لها من محرقـــــــاتْ
يا لنفسي ! يـا لتعسي ! بعد تلك الذكريــــــــاتْ
هدَمتنـــي ، قوضَتنــــــي حطَمتنـــــي النائبــــاتْ !
بخشــــــــوعٍ وخضـــوعٍ ودموع ساقطاتْ
وخــنــــــوع وركـــــوعٍ وذهولٍ وشتاتْ !
يــا لتعســــي وشقائــي ! يا لها من طاغياتْ !
ذكريــات قـــد طوتهـــا _ السنوات الغابراتْ !
لا تزيدي فـــي شقائـي ، يا نعيمي في الحياةْ
واذكريني ، يـــا هنائي واغفري لي السيئاتْ
طمئنيني ، يا ( عنايَتْ ) يا نواةَ الذكرياتْ
طمئنيني ، إنَ قلبـــــــي ناشدٌ منك النجاةْ
ربّـــة الشعر ارحمينــي واصنعي ذي المعجزاتْ
ليت شعــري ! بشِريني هل تزول المنغصاتْ ؟
يـــا لقلبي من حزيــن ! هل مضى عهدي وفاتْ ؟
ليتهـــا ترجع يومــــــاً قبل أن يدنو المماتْ !
كم وكم جبتُ الفيافـــي والقفار الشاسعاتْ
كم مخرْتُ البحر حتى كدت أن ألقى المماتْ !
بعد أن أقضي شهيــداً يا طيوراً حائماتْ
بسكونٍ غرِدي لي واسرعي نحو الفلاةْ
أخبريها ، يا طيوري ، كم سكبْتُ العَبَراتْ
ونفثتُ الزَفراتْ في الليالي الداجياتْ !
أيقظيني من سباتي انا لا أهوى السباتْ
ودَعيني في حياةِ _ الخُلد خَيْرٍ الحَيَواتْ !
أشعريني بحفيفٍ يا غصوناً رائعاتْ
أطلقي لحناً شجياً في الليالي الساطعاتْ
غاب بدري ، عيل صبري ، ضاق صدري في الحياةْ
هاكِ قبري قُرْبَ زَهْرِ وورودٍ يانعاتْ !
القدس ، 25 كانون الثاني 1934
صلاة الفجر
اتبعيني ، يا بنيتي ، لنذهب الى ( بيت الله ) ،
لنرفع له الصلوات الصادرة من قلوب أفعمتها الأحزان ،
وتآمرت عليها حوادث الزمان .
هيا أسرعي ، يا بنية ، قبل أن ينبلج الفجر،
وترسل عذارى النور خيوطهن المتألقة ،
فتبدد هذه الظلمات المتكاثفة .
هيا بنا ، يا بنية .
أنصتي جيداُ...
ألا تسمعين خطوات النسوة وهن يسرن بسكون في الطريق
ذاهبات حيث ( بيت الله ) ،
ليقدمن له طلباتهن ،
ويستغفرن عما أتينه من ذنوب وأسرار خفية ،
يكتمنها حتى عن أنفسهن ؟
أسرعي ، أسرعي ، فإن الدقائق تمر متتابعة ،
وتلحق بها الساعات متسابقة .
هيا قبل أن يولي الوقت ، ويأتي الفوات .
هلمي لنضرع إلى العليّ ليباركنا .
أسرعي ، أسرعي . ما بالك تتوانينْ ؟
أولا تعلمين أنه لم يبق من الوقت سوى مدة قصيرة لا تفي بما ينبغي ؟
دعينا نجثو في المعبد باحترام ،
ونقدم الى الخالق ، عزّ وجلّ ،
كل ما تجيش به دخائلنا من ميول ورغائب مكنونة مستورة .
في الصلاة عزاء، يا بنية .
إنها فرصة لا تتاح كل حين ،
فأسرعي معي ، هيا ، هيا
حيث نشعر بالسعادة تتملكنا بعد ذلك .
لنترك شرور هذا العالم وما فيه عند تطلع قلوبنا الى السماوات .
لنتناس الهموم والأتراح والمنغصات وكل ما في هذه الحياة .
لننس ويلاتها وشرورها ،
لننس آثامها وغرورها .
لنتناس كل شيء ، يا بنيتي ، ونتجه نحو القدير ،
فنشعر ببردِ السلامة والسكينة يُخيمان فوق رؤوسنا ،
ونستشفَ العذوبة الروحيَّة ،
وتستكين قلوبنا المتألمة من هذه الحياة ،
فنسعد ، وإن كنا ما نزال بعد في الحياة .
أنصتي جيداً... إنها أناشيد سماوية !
إنهم يرفعون كلماتهم (المصوغة) في قالب شعري
يسبحون بها خالق السماوات ، وباسط الأرض ،
كي يغفر لهم ما أتوه من أعمالٍ يستحقون عليها الحساب .
أنظري إلى عيونهم كيف أقفلت ،
وتمعني في ملامح وجوههم ، وفي أسارير جباههم ،
إنها تدل على خشوع مُتناه كليّ أمام الخالق العظيم .
فلنخشع ، يا بنيتي ،
ولنضرع إلى الله كي يزيل عنا هذه الأوزار المُثقلة بها ذواتنا من ساعة ولادتنا إلى ساعتنا الحالية،
وحتى يأتينا داعي الموت فنذهب إلى حيث ينتظرنا العقاب .
أسجدي ، أسجدي ، أيتها الطاهرة ،
لأنك ما تزالين صغيرة السن ، يا طفلتي العزيزة .
ليتني مثلك ، يا فتية !
إنك ما تزالين نقية ،
فاحرصي على طهارتك كي تبقي كالحمامة الوديعة .
لا تدعي الشرَ يتغلب عليك ، يا بنية ،
لا ، لا ، وأبعدي الأفكار الرديئة إذا ما ساورتك .
ها هي خيوط الفجر قد ابتدأت ترسل أشعتها النورانيّة ،
فتبدّد الظلمات المُكتنفة الهيكل .
أكملي صلاتك ، يا بنيتي ،
قبل أن يعمَ النور أرجاء هذا المكان المقدس .
أنظريهم يغادرون أماكنهم مُسرعين ، بعد أن أنهوا فروضهم الدينية .
ها قد احتلّ النور أرجاء المعمور ،
وها قد لبس المعبد حلَة بهاءٍ ، وسطوعٍ وصفاء !
فهيا بنا ، يا بنية ، نرجع إلى منازلنا .
ويا لحياة الانسان !
إنها أحلام تمرُ بنا ونحن لا ندري !
أنظري ، ألم نكن ، قبل أن نجيء الى هذا المكان ،
نرى الظلام يعمُ الأرجاء ؟
ولكن انظريه أين هو الآن !
ها قد تبدد وكأنَه ما كان !
وهكذا سيحلّ في المساء ، كما اعتاد ، وسيولي هذا النهار .
وهكذا حياتنا تنقضي !
فما أشبهها بتوالي الأيام ، وكرور الأعوام !
القدس ، 27 كانون الثاني 1934
أنا غريب
نعم ، أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عني .
نعم ، أنا جئت من عالم مضيء غير هذا العالم الكئيب .
نعم ، أنا أشعر بثقل الثواني وهي تمر بي مرَ الخاطر .
نعم ، أنا سرعان ما أراها تتحول إلى دقائق فساعات .
نعم ، أنا أشاهدها وهي تصير أياماً فأسابيع ...
نعم ، ثم كأني بها بها وقد صارت شهوراً فسنين !
نعم ، إنني أحصيها بعد أن تتكاثف وتتكاثر .
نعم ، وأحسُ بنفسي أنمو من سني الطفولة .
نعم ، وأستقبل طور الشباب فالرجولة .
نعم ، ثم أرى السنين تحطُ عليَ بكلكلها الثقيل .
نعم ، وسيتقوس مني الظهر ، ويخبو فيَ الشعور !
نعم ، وأفتش عن العكاز المعقوف ، فإذا هو لا يفارق يدي !
نعم ، ثم أحسُ بالضعف العام الشامل
يسير في جسدي متمشياً في مفاصلي !
نعم ، ووشكان ما أراني هِماً عديماً بالياً .
نعم ، ثم أشهد الجدث القاسي فاغراً فاه لابتلاعي !
نعم ، ثم إذا بي أجد نفسي صريعاً
بين يدي حبيبي ( الموت ) المُهيب الجبَّار !
نعم ، فترتعش روحي ، وينتعش جسمي ، إذ أطرب لهذا اللقاء !
نعم ، ثم يُهال التراب فوقي ، ويذهب القوم .
نعم ، وأبقى وحيداً فريداً لا مؤنس لي في وحشتي .
نعم ، فأنا هكذا أتيت ، وهكذا سأعود.
نعم ، إذ غريباً أتيت الى هذا العالم...
نعم ، وغريباً سأغادره كما أتيته !
القدس ، كانون الثاني 1934
أضحوكة الحياة
ما الحيـــاة غير وهــــمٍ باطــلٍ سوف يــزول !
فالدراري سوف تخبـــو بعد وقت لا يطــــول !
وذكــــاء سوف تفنــــى بعد ذيـــاك الشمـــول !
والليالـــــــي ستولّـــــي عندما يأتي الأفــــول !
وقصـــور عامـــــرات سوف تغدو كالطلول !
وشعوب الأرض طرّاً دوَلٌ سوف تـــــدول !
وملوك الأرض جمعاً حكمهم سوف يحـول !
ويجول الخــــوف في هذي البرايا ويصـول !
كل ما فيهـــا قريبــــاً سوف يعروه الذبــول !
يا له من يـــوم رعبٍ إنّــــه يــــوم مهــــول !
والطيور الحائمات والصروح العاليات سوف تهوى !
والمروج العامرات والورود الناضرات سوف تذوى !
والجبال الشامخات والصخور الراسيات سوف تعفى !
والبوادي الشاسعات والصحارى الواسعات سوف تمحى !
ودموع العاشقات وحنين الوالهات سوف ينسى !
والغواني الفاتنات واللحاظ الفاتكات سوف تسلى !
والعيون الناعسات والشعور الحالكات سوف تبلى !
والخطوب الطاغيات وغرور الماضيات سوف يفنى !
والدراري اللامعات والنجوم الساطعات سوف تطفا !
والمياه الساقطات والبحار الهائجات سوف تطغى !
وأضاحيك الحياة وسخافات الممات سوف تطوى !
القدس ، في 29 كانون الثاني 1934