الدكتور داهش
مفاتن الشعر المنثور
خيال شاعر
أيّتها الفتاة الطّروب ... صُولي وجُولي في هذا الكونِ الشّاسع
وارقصي واهزجي ... ثمّ ابعثي الآمال في القلوب الحزينة
إنّ لك من صباكِ وفتوّتك حُلّة رائعة متينة
عندما تعبثُ أناملك البضّة بالزّهرةِ تثمل ولا تفيق
والعصافير تُغرّد راقصة عندما تداعبين بتلك الأنامل ريشها الدّقيق
أمّا أنا ... فأشعر بالسّعادة تغمرني عندما أتخيّل حنان قلبك الواسع
داهش
(من كتاب بروق ورعود)
مقدّمة
بقلم ياسر بدر الدين
"مفاتن الشعر المنثور " كسابقُهُ " قيثارة أورفيوس" ربيع حالم أطلّ على دنيا الشعر والأدب بعد غياب طويل أقحلت في خلاله المواسم ، وذبُلت أزاهير الحياة ، وغاضت الأفراح ، وتربّعت الأحزان فوق غمار البيادر . فدفقت الحياة من جديد في جسم الأدب الميت ، وعادت الحقيقة إلى عرش الكلمة الذي تنازعته الأكاذيب والأوهام .
هذا الربيع المحيي يفوح عبقه مع كل إطلالة للتراث الأدبيَّ الداهشيّ الذي يُعتبر بمثابة دعوة أدبيّة إصلاحيّة رديفة للدعوة الإصلاحيّة الداهشيّة في مجالات الحياة الأخرى .
فإزاء الضياع الذي أصاب الفكر العربي ، وحالة التشتّت والانفلات وفقدان الضوابط ، واختلال المقاييس والموازين ، واختلاف الأحكام ، وتنافر الأمزجة ، وانحطاط الدوافع والأهداف ، كان لا بدّ من عودة إلى الينابيع ، إلى الصفاء والنقاء والعذوبة ، إلى "الجميل من الكلام"، إلى الحبيب الغائب المهاجر ، إلى الشعر .
هذه العودة الطيّبة تمثّلت في أدب الدكتور داهش الذي أطلّ على صحرائنا كالصباح ، باعثاً اللغة من رقادها ، متفّحاً زهر الكلمات ، مداعباً ورود البيان ، محرّكاً أزاهير النّغم ، فلا غموض ولا تعقيد ، ولا إبهام أو تهويل ، ولكن عذوبة وبساطة وطفولة وصدق ، كما الينبوع البعيد في أقصى الجبل قبل أن تُلوّثه الأيدي ، وتعكّره الأتربة .
وهل هناك أعذب من قوله في كتاب "عشتروت وأدونيس":
" سألج معه غابة الورود الفاتنة باطمئنان ،
وسنجتاز بصرنا بحديقة البيلسان ،
وسيسحرنا منظر الغاب المتّشح بالأرجوان ".
إنّ العفويّة والعذوبة والبراءة أو الصدق وشاح شفيف يُلقي برقّته على جميع كتابات الدكتور داهش في مختلفِ الكتبِ والمواضيع ، لا سيّما في الكتابِ الذي بين أيدينا "مفاتن الشعر المنثور"، إذ إنّه يحتوي في معظمه ، على مقطوعاتٍ وجدانيّة في الغزلِ البريء المُحبّب :
" سأكتب اسمك الجميل على شاطئ البحر ،
لكي تأتي الأمواج متشابكة متلاحقة ،
لتقبّله بشغفٍ وولهٍ عظيمين !
وسأزخرف اسمك على قرونِ الوعول والظّباء ،
لكي تنطلق في غاباتها البكر ، والفرح يملأ أعطافها ،
فتزدهي وتشمخرّ كبرياء لجمال اسمك المنشود ".
ولا غرو في أنّ الدكتور داهش لا يتّخذ موضوعاً لغزله امرأة كسائر النساء ، وإن كانت أسماء بعضهنّ تتصدّر بعض القطع ... بل إنّ في خياله إمرأة لا تقع تحت حواسّنا ومداركنا . فالغزل في حدّ ذاته ليس غاية عند المؤلّف ، إذ إنّ شأنه شأن الكتابة عامّة بالنسبة إليه ، ومن الطبيعي أن يوظّف كلماته في خدمة هدف أسمى ، ألا وهو الرسالة الروحية التي يُبشّر بها ، والتي وقف حياته من أجلها . ففي آخر المقطوعة ، ومن خلال نشيده الحزين ، يؤكّد وجود العالم الآخر وخلوده وشقاء الأرض وعذابها :
" وفي ساعتي الأخيرة ، سأكتبه بيدي المُرتعشة ،
فوق فؤادي الهائم بك ،
فيرافقني إلى العالم الآخر ويُسعدني ،
مثلما أسعدني في عالم الأرض الشقيّة ،
آه ! لقد نلتُ الهُدى ".
هذه النظرة العميقة الثاقبة للحياة البشريّة تجلّت في غير مكان من الكتاب ، مؤكّدة مدى عمق تفكير المؤلّف وأحكامه الثابتة في أمور الحياة مما لا يترك مجالاً للشكّ أو يفتح باباً للمراوغة والمسايرة .
فالشعر عنده كما النثر ، يعرض من خلاله طبيعة الأرض والحياة البشريّة ورفضه لهما ، وليس ذلك من قبيل التحطيم والتيئيس ، والملل والهروب ، وإنما من أجل أن يتجاوز الإنسان ذاته ، ويقهر ميوله ونزعاته ، ويسمو إلى المكان الأعلى والعالم الأفضل .
وانطلاقاً من هذا الموقف المبدئي الجازم والنظرة الشاملة للحياة ، يخوض موضوعات الحياة التي شغلت عقول الأدباء والمُفكّرين مدى الأحقاب ، والتي وقف البعض منهم إزاءها عاجزاً حائراً .
فالحقّ والحقيقة ، والعدل والظلم ، والسعادة والشقاء ، والموت والحياة ، والجحيم والنعيم ، والحبّ والزواج ، والفضيلة والرذيلة ، والمال والمرأة والرجل ، والدين ، ورجال الدين ، والمُدجّلين والمُتصوّفين وغيرها من الموضوعات تهافتت عبر قلمه السيّال الذي لا يخشى الحدود والسدود ، بل تنفتح أمامه المغاليق وتتحطّم القيود .
وقد توخّى الدكتور داهش ، من حيث الشكلِ في هذا الكتاب ، أن يكتب بمختلف الأساليب ، وذلك حرصاً منه على شموليّة المواضيع وتعدّدها ، فكتب باللغة الشعبيّة اعتقاداً منه بأنّ الشعر ليس وقفاً على الكلمات الرصينة المُنمّقة ، وأنّ للعامّة نصيبهم من خبز الشعر والمعرفة .
والكتاب ، وإن أُطلقت عليه تسمية "مفاتن الشعر المنثور "، إلاّ أنّه يضمّ مجموعة غير قليلة من القصائد الموزونة ومن منطلقِ الإبقاء والمُحافظة على كلّ ما هو جميل ، فقد أولى المؤلّف الشعر اهتمامه الخاصّ ، ونظم بعضه ، في حدود ما تألفه نفسه وأُذنه من موسيقى ونَغم .
وعلى العموم فإنّ حالة شعريّة واحدة تسيّطر على الكتاب في نثره وشعره ، تربط أوصاله ، وتجمع بين أجزائه ، وتُضفي على عذوبته ورقّته عذوبة ورقّة . تنشر فيه الحبّ والدفء والخيال ، وتُقدّمه غذاءً وزاداً لمن أرهق ذماءهم الجوع والعطش إلى كلّ ما هو عذب وشائق وجميل .
ياسر بدر الدين
من سلسلة
حدائق الآلهة
توشّيها الورود الفردوسيّة
رشأ الغياض
يا ظبية نافرة ،
ارحمي عاشقاً بك قد هام .
إنّ فؤادي يا سعادي
تأجّج فيه سعير الضرام .
واعلمي بأنّي أموت
فدى لعينيك الجميلتين ،
ففتنتهما أروع من عيون الحمام !
روحي فداك مبذولة
حتى ولو دهاني الحمام .
إنّي أتوق شوقاً إليك
وأذوب من الصبابة والهُيام .
أنوثتك المغرية أنشتني ،
وسقتني أكؤس الغرام .
وقلبي صباه جمال عجيب
به تدلّه وفيه استهام .
رقّتك الحبيبة أسرتني
وراشتني عيناك بالسّهام .
أتمنّى قربك دون البرايا
فليس لي ثقة بالأنام .
أتوق أن أُحلّق للأعالي
جائساً فيها عوالم الأحلام ،
فالأرض دِيست فيها العدالة
وتجنّدل بوهادها السلام .
القدس ، 16 كانون الأوّل 1928
تحت ظلّ السّنديانة
أيّهــا العصفور غــــنّ تُبعــد الأشجــان عنّي
غنّني لحنــــاً شجيّــــاً وأعــده ... وادنُ منّي !...
أنت عصفور جميــل ! لك صــدح سلسبيــــل !
غنّني آيـــــات (حُبّي)، في دُجى الليل الطويل !...
* * *
أيّهــا العصفور رتّـــل واشدُ آيـــات الفـــرح
إنّ قلبــــي أفعمتــــــه نائبـــــــات وتـــــرح ...
أيّها العصفور حلّــــق واشدُ حُرّاً في الفضاء
ليتنــي مثلــك أشـــدو إنّ قلبي في عنــــــاء !...
* * *
غنّني شيئـــاً كثيـــراً إنّ في صوتـــك سرّاً !
غنّني لحنـــاً مثيـــراً يُطرب الأكوان طُـرّاً !
أيّهـــا العصفور ردّد نغمــــات الخالديــــن ،
وأنا (المسكين) أبقى في قبــور الراقديـــن !...
بسكنتا – لبنان – 16 حزيران 1940