أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

أحزانٌ من أجل إنسَان عَزيز

 

بطريقْ الصّدفة قرأتُ هذا الوَصفَ المؤثِّر لموت إنسان وَذلك بكتاب أسرارٌ في حَيَاتكَ وَحَيَاة الآخرين فأحببتُ أن أصدِّرَ بهِ كتابي . وَهَا هو :

 

موتُ إنسان نعرفه يُحدث هزّةً ما في مشاعرنا ، وحجمُ هذه الهزّة وما قد يعقبُها يتوقّف على مدى معرفتنا بهذا الإنسان . الموت له تأثيره الكئيب على النفوس ، وما من إنسان إلاّ وتُفزعه كلمة الموت ، مجرّد الكلمة . وما مِنْ إنسان إلاّ ويهتزّ حين يرى الموت يختطف الناس من حوله واحداً تلو الآخر . بمجرّد سماع النبأ ، يشعر الإنسان بحزنٍ فوريّ يكتسح النفس ، ويضيق له الصدر ، ويتوقّف الذهن للحظات . مهما كانت هموم الإنسان ومشاغله ، لحظة سماع النبأ فإنّه يتوقّف ، وبسرعة البرق تتمثّل صورة الإنسان الذي مات في الذهن . نتذكّر آخر مرّة رأيناه فيها ، ونجهد الذهن في تذكّر كلماته وحركاته وتعبيراته ... ونشعر بدهشة غريبة قد نكون شعرنا بها مراراً قبل ذلك ، ولكنْ في كلّ مرّة نستشعرها وكأنّها جديدة علينا . كيف يحدث هذا ؟ هي ينتهي هكذا كلّ شيء فجأة ؟ الكلمات والأفكار والمشاعر والحركة والإحساس !! كلّ شيء يتبخّر ، ولا يبقى غير جسد كتمثال من حَجَر ... غريب ذلك الموت ، بل غريبة تلك الحياة التي تتكوّن على مهل في تسعة أشهر ، ولكنّها تنتهي في لحظة ، لحظة قبلها كان كلّ شيء موجوداً : حركة ، تعبير ، صوت ، فكرة ، مشاعر ، ماضٍ ، حاضر ، مستقبل ... ثم بعدها لا شيء على الإطلاق . ورغم أنّ الإنسان ينسى دائماً أنّه سيموت ، إلاّ أنّه يتذكّر تلك الحقيقة ولو لمدّة ثوانٍ حين يسمع عن إنسان يعرفه أنّه قد مات . ورغم أنّها الحقيقة الوحيدة الثابتة الملموسة في حياتنا ، إلاّ أنّنا ننساها أو نتناساها ، وأيضاً نفزع لها ... لا نتمنّاها لأنفسنا ولا نتمنّاها لأحبّائنا .

وموت الأعزّاء يهزّ الإنسان بعنف ، يُعرّضه لحالة نفسيّة تُعرَف بالأسى .

ومشوار الإنسان مع الأسى يطول أو يقصر حسب مسافة المشوار الذي عشناه مع العزيز الذي مات ودرجة معزّته . وحجم ونوعيّة أعراض الأسى تتوقّف على مدى التصاقنا بهذا العزيز .

وأعزّ الأعزّاء هو رفيق مشوار العمر كلّه ... ومشوار العمر الطويل لا بدّ أن يكون مليئاً بالعثرات والصعوبات ، بحلو الذكريات ومرّها ، بفرحة الأيّام ومرارتها ، بأيّام جفوة واغتراب ، وأيّام حبّ ووصال ، بكفاح ونضال ، بانتصارات وهزائم ... كلّ شيء عاشاه معاً...

وقرب نهاية الرحلة ، وحين تخلو الدنيا من حولهما ، حين ينفضُّ جَمْعُ الأبناء والأصدقاء ، وتكون جميع البراكين قد هدأت تماماً يشعر كلٌّ منهما أنّه يتنفّس برئة الآخر ، وأنّ الدم يجري في عروقه بقوّة دفع قلب الآخر ، يشعر كلٌّ منهما ، دون أن يشعرا ، أنّهما كيان واحد ، فلا يبذل أحدهما أيّ مجهود في فهم الآخر والإحساس به ، فكلّ منهما قد احتوى الآخر عقلاً ووجداناً وجسداً ...

وفجأة ينشطر هذا الكيان الواحد ، فجأةً يموت أحدهما ، وكأنّما مات كلّ شيء في الحياة ، أو كأنّما مات هو نفسه . وتظهر أعراض الأسى الواحد تلو الآخر ... تظهر مباشرةً بعد موت الرفيق أو يتأخّر ظهورها قليلاً ...

يموت الرفيق بجسده فقط ، ولكنّه يظلّ حيّاً فعلاً مع التعيس الذي امتدّ به العمر ، ليعيش موت رفيق حياته .

أبداً لا يريد أن يصدّق أنّه رحل . يهرب من كلّ من يريد أن يواجهه بالحقيقة . وتمرّ الأيّام وتتسرّب الحقيقة إلى عقله وقلبه رغماً عنه . فهي الحقيقة الوحيدة الثابتة الملموسة . وتأتي فترة تقبل أنّه ذهب فعلاً ولن يعود . وتبدأ ليالي الأرق الطويلة ، ويفقد أشياء كثيرة . يفقد اهتمامه بنفسه ، بطعامه ، بمصالحه ، يفقد وزنه وتتدهور صحّته ... فتبدأ رحلة الآلام ، آلام المعدة ، آلام الظهر ، آلام القلب ، ويتحوّل التوهّم المرضي إلى أمراض عضويّة فعليّة . هذا الإضافة إلى المعاناة النفسيّة ... فيصاحب المتاعب الجسديّة مشاعر الحزن واليأس وعدم الرغبة في الحياة . وعادة تتحقّق هذه الرغبة ، ويأتي له الموت لينقذه من مشوار الآلام وعذاب الوحدة ....

 

هيهاتِ بَعْــــــدَك أن تَقِرَّ جوانحي               أسفاً لِبُعــــــــدك أو يَلين مِهَادِي

وَلَهِي عَلَيك مُصاحِبٌ لمَسيْرتي                وَالدّمعُ فيك مُــــــلازمٌ لوسَادي

فـإذا انتَبهـــــــــــــــتُ أَوّلُ ذِكــــــــرَتي                  وَإذا أوَيـتُ فَأَنت آخرُ زادي

أمسَيتُ بَعدَك عِبرَةً لذَوي الأسى              في يَوْم كُـــــــــــــــلُّ مُصيبَةٍ وَحَـــــــــدادِ

مُتَخَشّعاً أَمْشي الضَّــــــــرَاءَ كَأنَّـني               أخشَى الفُجَاءَةَ مِن صيَال أعَادي

مَا بَيْنَ حُزْنَ باطن أكَلََ الحَـشَا               بلَهيْب سَورتِهِ وَسَقْــــــــمٍ بَـــــــــــــــادِي

 

 

طَوَاهُ الموتُ فليتَه طَواني

                                                           بقلم :الدكتور داهش

 

في عام 1942 زارني الدكتور خبصا طبيبُ الأَمرَاض الجلديّة المشهور في منزلي ببيروت ، وتكرَّرَتْ زياراتُه لي وزياراتي له ، وتوطَّدَتْ صداقتُنا ؛ ثمَّ اعتنقَ الداهشيَّة .

وَمَضَتْ الأَيَّام تِباعاً ، وتلاحَقَتْ الأسَابيع ، وانطوت الأعوام يُلاحِقُ بعضُها بعضاً ، وتوثَّقَتْ أوَاصرُ الإِخاء بَيننا ، فأصبحنا روحاً واحدةً تحتلُّ جسدَين .

وفي خلال الأعوام الطويلة تأكَّد لي أنَّ الدكتور خبصا نبيلٌ كلَّ النبالة ، شهمٌ الشهامةَ بأكملها ، عزوفٌ ، أنوفٌ وذو شَمَم ؛ يَندفعُ لمساعدة الفقراءِ والمعوزين ، ولا يتقاضاهم أجراً عندما يقصدون عيادته لتطبيبهم ؛ لا ، بل ينقدهم بعض المال ويُقدِّم لهم الدواءَ مجّاناً !

والحقُّ يُقال إِنَّ الدكتور خبصا حاتميّ بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ سامية . فالمال لديه وسيلة وليس غاية إطلاقاً .

وقد بَذَلَ الدكتور خبصا أوقاتاً ثمينة في ترجمة كُتُبي الأدبيّة بالإشتراك مع الأُخت الغالية ماري حدّاد الداهشيَّة . كما ترجم لي ، بمفرده ، كتابَي "الإلهات الستّ" و" ضجعة الموت " إلى اللغة الإفرنسيَّة .

وفي 2 آب عام 1969 سافرتُ برفقته ، وقمنا بجولةٍ حول العالم ؛ واستمرَّتْ رحلتُنا شهرين و19 يوماً . وفي خلال هذه الرحلة أُصيب الدكتور خبصا بتسمُّم في الدم . وبعد عودتنا إلى بيروت في 19 تشرين الأوّل 1969 ، أُدخل إلى مستشفى أُوتل دييه بتاريخ 23 تشرين الأوّل 1969. فمكثَ فيه 16 يوماً ، وتوفّي في الساعة الخامسة والثلث من فجر اليوم السابع عشر لدخوله المستشفى ، الموافق الثامن من تشرين الثاني 1969.

تُوفّيَ فتُوفّيتْ آمالي ، وأُصِبتُ بحزنٍ عميق سحيق ، وتلاشت البسمةُ عن شفَتيّ ، وأَصبحتُ أُشاهدُ عالمنا أَضيق عليَّ من سَمّ الخيَّاط .

لقد فقدتُ أَخاً مُخْلصاً وفاؤه نادر ، وصدقُه لا شكّ فيه ، وشهامته لا تعلوها شهامة .

لقد غيَّبَتْه المنيَّة بجَدَثٍ قاسٍ لا يرحم . فيا لتفاهة هذه الحياة الشقيَّة !

وبعد موته عرفتُ من عائلاتٍ ثلاث أنَّه كان قد خصَّصَ كلَّ عائلةٍ بمبلغٍ مِن المال ينقدهم إيّاه كلَّ شهر لفقرهم . وأُقسمُ على أنّني لم أكن أعرف هذا قبل وفاته ، إذ لم يتفوَّهْ أمامي بكلمةٍ عنه ، مُطَبِّقاً المثلَ القائِل :" لا تَدَعْ يُسراك تعرف بما تفعله يُمناك ".

وقد بكاه الكثيرون ، وتأَسَّفَتْ عَلَيه عائلاتٌ عديدة ، لأنه كان يعطف ، كما ذكرتُ ، على المعوزين ، ويُساعد ، جُهدَ استطاعتِهِ ، المحتاجين . وقد خصَّصَ يوماً من كلّ أسبوع لتطبيب الفقراء مجّاناً .

إنَّ المدَّة التي أمضيتُها برفقة أخي النبيل هي ثمانية وعشرون عاماً ، كان فيها المؤمن والمُجاهد والمحارب في سبيل عقيدته دون كَلَل أو فتور .

وقد كافح ونافح حتى آخر لحظةٍ من حياته في هذا السبيل .

واليوم ، لقد انطوت تسعة أعوام وثلاثة شهور منذ انطلَقَتْ روحهُ للملأ الأعلى ، مخلِّفةً إيّاي في عالمٍ شقاؤه أبديّ وعذابه سرمديّ .

وكم أتوق أن تنطلق روحي لعالمه الذي أصبح يرتع في ربوعه ؛ فأنا مؤمن وواثقٌ بأنَّ حياة المرء بالموت ، بل تبتدئ بالدقيقة التي تُفارقُ فيها روحهُ جسدَه .

فإذا كانت أَعماله صالحة وكان سلوكه في عالم المادَّة خَيِّراً ، انطلقت روحهُ إلى عالمٍ مادّيٍ آخر يُسعَد فيه بمقدار الصلاح الذي كان يُسيِّره ويُوجِّهه في عالم دنياه . وهكذا يتدرَّج من عالمٍ إلى عالمٍ إلى عالمٍ ... حتى يندمج بالقوَّة الموجدة فتكتمل سعادتُه المبتغاة .

وإن كانت أعماله في عالمه الأرضيّ شرّيرة فذهابه يكون إلى عالمٍ عذابه شديد وعقابه مُبيد .

وهذا الأمر ذَكَرتْه الأديانُ المنزَلة قاطبة ، ولم آتِ فيه بجديد .

وها إني أنتظر الساعة التي يدعوني فيها ملاكُ الموت ليصحبني إلى العالم الذي سألتقي فيه بأخي الحبيب الدكتور جورج خبصا ، فتتمُّ سَعادتي بلقائه .

 

                                                       الدكتور داهش

                                            بيروت ، الساعة 11 من ليل 17/1/1979

 

             

توطِئَة

                                                     بقلم غازي براكس

المدحُ والرثاءُ معروفان في آداب الأمم قاطبة ، لكنْ قليلاً ما يكونان صادقَين ، ونادراً ما يكون المادح أو الراثي أعظم من الممدوح أو المرثيّ ، وشبهُ مستحيل أن تعثر في بطون الكُتُب على مديحة أو مرثيّة قالها معلِّمٌ هادٍ في تلميذه المؤمن .

لكنَّ الصعب والمستحيل يزولان في هذه المجموعة الفذَّة التي يُكرّم بها رجلٌ عظيمٌ رجلاً عظيماً .

سنة 1942 كان الدكتور جورج خبصا استاذاً طائر الصيت في معهد الطبّ الفرنسيّ ببيروت ، وأشهر نِطاسيّ للأمراض الجلديّة في لبنان والبلاد العربيّة . وكان محيطه مُشْبَعاً بالتعصُّب الديني الأعمى الذي قلّما نجا أحدٌ من قبضة أخطبوطه الجهنّمي ، كما كان النجاح المهنيّ والاجتماعيّ في بيئته ، مرهوناً إلى حدّ بعيد بولاء المرء التامّ لطائفته ، وباعتناقه القِيَم الدنيويّة القائمة على تجميع الثروات وحشد الأنصار والعائلات .

وذاتَ يوم من العام الآنف الذكر قرَّرت المشيئة الإِلهيَّة أن يتعرَّف الدكتور خبصا إلى الدكتور داهش . فأَتاه ، حاملاً معه نفاذَ بصيرته ، وسَعَةََ علمه ، وصرامةَ نقده ، واتّقادَ ذكائه ، فكان أن شهدَ لظاهراته الروحيّة ، وآمن بتعاليمه صادقاً مخلصاً . فصمَدَ كالطود الشامخ الراسخ بوجه الأعاصير النكراء التي هبّت عليه من محيطه ، نافضاً عنه التعصُّب الدينيّ الذميم ، ليأخُذَ بالتسامح ، خالعاً عنه مفاهيم زملائه وأقربائه وعشرائه وقيَمهم ، ليتَّجه إلى الروحانيّة الحقّة .

لقد آمن بمُؤَسّس الداهشيّة لأنّه لم يكن متكبِّراً مغروراً ، بل وديع متواضع ، وإلاّ لكان الغرور والصَّلَفُ أعمياه كما أعميا الكثيرين غيره ، إذ اعتبروا أنَّ الشهادة للحقّ انتقاصٌ من كرامتهم .

آمن به لأنّه لم يكن جباناً ، بل شجاع جريء وإلاَّ لَكَان جبنُه أبقَاه في قوقعة التقاليد المهترئة كما أبقى الكثيرين ، إذ اعتبروا أنَّ كلَّ عقيدةٍ جديدة لا بدَّ من أن تكون باطلة ، وذلك ليطمئنّوا في خمول أذهانهم ، ويتحاشوا مقاومة المعاكسين لآرائهم في محيطهم .

آمن به لأنّه لم يكن منحرف السلوك ، بل نزيه مستقيم ، وإلاّ لكان تهرَّب كما تهرَّب الكثيرون من تحمُّل مسؤوليَّة الإيمان بعقيدة روحيّة تنقض القيم الدنيويّة الزائفة التي بنوا عليها أمجادهم الكاذبة .

آمن به لأنّه لم يكن مهرِّجاً في ثقافته ، بل عالم حقيقي استخدم علمه في سبيل الوصول إلى الحقيقة ، وإلاّ لكان كالكثيرين ممّن يصحُّ تشبيههم بالبُعران المحمَّلة ذهباً !

فليس عجيباً ، بعدَ ذلك ، أن يكون موقفه كموقف لوقا الطبيب الذي آمن بالسيّد المسيح له المجد . فهوذا ، اليوم ، وقد خلَّد التاريخ اسمه ، يُكرّمهُ مئاتُ الملايين من المسيحيّين ، في حين أنَّ زملاءَه من أبناء التراب أسقطهم التاريخ من ذاكرته ، ولم يحفل بعلمهم وطبّهم .

فإذا أَضفتَ إلى تواضعه ، وجرأته ، ونزاهته ، وثقافته الأصليّة ، وحبّه الحقيقة ، كرَمَه الحاتَميّ ، وعطفه على البؤساء ، وإنسانيّته الصادقة ، وأدبَه الجمّ ، وذوقه الرفيع ، ووفاءَه ، وإخلاصه ، وسموَّ أخلاقه لكشَفْتَ جانباً من سرّ الحبّ العميق الذي مَحضَه إيّاه مؤسّسُ الداهشيّة .

لقد كان الدكتور داهش في موقفه من الرجال أشبه بديوجينوس ، يبحث عن رجلٍ حقيقيّ وصديق وفيّ في عالمٍ مملوء بالكذب والختل ، حافل بالغدر والخيانة ، وإذا الدكتور خبصا يُمثّل له ذلك الرجل ضالَّته المنشودة .

ولا شكَّ في أنَّ الدكتور داهش أحبَّ تلميذه المؤمن به ، منذ اليوم الأوّل لتعارفهما ، حبّاً نقيّاً صادقاً ، لكنّه لم يستطع أن يُبدي له عاطفته إلاّ بعد أن اشتدَّ عليه الزمان ، وأحاطت به مكارهُه ضاغطة صدره ، فكانت لقلبه المعَنَّى الكبير ما تكون الآلة العاصرة لعناقيد الكرمة ، تضغطها فتُسيل من جراحها خمرةً طيّبة .

ولا بُدَّ لمطالع هذا الكتاب بتُؤدَة ورويّة من أن يُلاحظ أنّ الدكتور داهش مرَّ في مرحلتين قاسيتين أنتجَتْ معاناته لهما هذه القِطَع الوجدانيّة الرائعة :

الأولى بُعَيد إبعاده التعسُّفي عن لبنان وسَوْمه الاضطهاد والتعذيب ، والثانية إثر وفاة الدكتور خبصا .

في المرحلة الأولى كان انفصاله القسريّ المؤقَّت عن خبصا بما اكتنفه من آلامٍ وشدائد كافياً ليُفجِّر عاطفته نحو شقيق روحه ، وليبوح له بما يخصُّه به من تقديرٍ عظيم وحبٍّ كبير . في هذا الخطّ تنتظم تسع قطع بينها " أين عيناكَ لتنظراني" المكتوبة في حلب بتاريخ 28 أيلول 1944 ، أي بعد شهرٍ تماماً من اليوم الأسود الذي أُلقي القبض فيه على الدكتور داهش ظلماً وعدواناً ، وفي هذه القطعة يذكر آلامه في ديار غربته القسريّة : جوعه ، وبؤسه ، وشقاءه ، ورثَّ ثيابه ، وأوجاعه ، ووحدته ، ومطاردة الشرطة له ، وأرَقَه ، وتوسُّدَه الثرى ، وضربه بالسياط ، وصيحات ألمه ، والحمّى الفاتكة به ، وشحوبه ... يذكر كلَّ ذلك من تفاصيل مأساته ، متمنِّياً لو كان تلميذه المخلص المؤمن يُعاين عذابه ليكون شاهداً عليه ضدّ الأوباش المجرمين ، ومؤاسياً له في محنته .

لقد سجَّل الدكتور خبصا مواقف بطوليّة شريفة أكَّدَتْ إيمانه الوطيد بمُؤَسِّس الداهشيّة ، وتفانيه في سبيله . فقد قدَّم استقالته من منصبه كأستاذ في معهد الطبّ الفرنسيّ احتجاجاً على نشر جريدة "البشير" اليسوعيّة مقالاً ضدّ الدكتور داهش ، وأبى أن يعود إلى منصبه رغم إلحاح المسؤولين اليسوعيين عليه . إلاَّ بحال تكذيب "البشير" لنفسها واعترافها بعدوانها على الدكتور داهش .

وهوذا في 28 آب يسجل موقفاً بطولياً آخر يُخلِّده المؤلِّف العظيم في قطعته المعنويّة "لماذا أحبّ الدكتور خبصا ؟" بقوله :

" أُحبُّه لأنّه تقدَّم لافتدائي عندما حاول الرعاع الاعتداءَ عليّ ، مع أنّه كان سواه ممّن يُحبّونني حاضرين فلم يتقدّم أحدٌ منهم لافتدائي ".

هذا الموقف البطولي الفدائي يُذكّرنا بموقف الإِمام عليّ بن أبي طالب يوم نام في فراش الرسول العربيّ يُريد إنقاذه ، وتأخير أعدائه عن اللحاق به ، بإفتدائه .

إنَّ إخلاص خبصا العظيم دفع المعلِّم العظيم لأن يجعل غايته في الدنيا عهدئذٍ ، أن يكون برفقة شقيق روحه على الدوام .

وهل من تقديرٍ أسمى وحبٍّ أعمق ممّا يُبديه الدكتور داهش لخبصا إذْ يُعلن في قطعته "إنّني أَرفض" أنه يرفضُ الدخول إلى فراديس النعيم إذا لم يكن خبصا مرافقاً له .

وبعد وفاة خبصا ينفجر حزنُ الدكتور داهش عليه ، وتتعاظم حسرتُه ، ويشتدُّ أسَفَهُ ، ويقوى حنينُه إليه ، وتوقُه إلى لقائه في الملأ الأعلى ، وذلك كلّما بعَثَتْ الذكرياتُ وجهه ، واستدعت الظروف مواقفه ، ودَعَت الأحوال إلى التمثُّل بكرَمِه ، وجِهَادهِ ، ووفائهِ ، وصلابة ِ عقيدتهِ .

فبعد أن يُسجِّل دقائق الأيّام المأساويّة الأخيرة من حياة الراحل الكبير بين 19 تشرين الأوّل 1969- يوم وصوله بصحبته إلى بيروت من رحلة قاما بها معاً حول العالم مدَّة 79 يوماً – و9 تشرين الثاني من العام نفسه ، يوم تشييع جثمان الفقيد العزيز ودفنه ، ينبري الدكتور داهش إلى سكْب خواطره الأليمة ، بل سكْب دماء قلبه في كلمات حزينة يعتصرها من جراحه ، كلَّ يومٍ ، ابتداءً من 10 تشرين الثاني 1969 ولغاية نهاية العام المشؤوم ، أي مدّة اثنين وخمسين يوماً دونما انقطاع .

إنّ هذه الكلمات اليوميَّة هي ذَوْبُ العاطفة الصادقة ، والمحبَّة الدافقة ، والعفويَّةِ الناضحةِ بالبساطة ، الطافحةِ بالجمال ، وإنّي ، وأيم الحقّ ، لم أقرأ في المراثي العربيّة والأجنبيّة ما يُضاهيها تأثيراً ، ويُباريها صدقاً وعمقاً . إسْمَعْه يقول :

"أيُّها الحبيبُ الراقدُ رُقادَ الأبد ،

ليتَني كنتُ النعشَ الذي يضمُّ جُثمانَك الحبيب ،

وليتَ قَلبي يتوقَّف الآن عن الوجيب ".

وابتداءً من مطلع عام 1970 ، تتتابع القِطَعُ الوجدانيّة والقصائد ، على غير انتظامٍ في تواريخها ، فإذا هي ، تارة ، مراثٍ تتوهَّج عاطفةً ولوعة ، وطوراً ذكرياتٌ ونجاوى تسيلُ أسىً ورقّة .

ولعلَّ خير ما أختم به هذه التوطئة العاجزة عن إبراز مدى الحبّ والتقدير العظيمين اللذين يكنُّهما الدكتور داهش للفقيد الغالي – وقد عرفتُه مدّة سبع سنوات – هو أن أدعو القارئ إلى الاستمتاع معي بقراءَة قصيدة "شوقي للقياك"، فهل لا تُضاهى في عذوبتها ، ورقَّتها ، وذوب عاطفتها ، وتأثيرها البالغ في النفس :

"بأبــــــــي أنــــــتَ وأمِّــــــــــــــــي                يــــــــــــا رفيقــــــــــــي وحبيبي

غبتَ عن عيني فتهــــــتُ               ثــــــــمَّ أَطلقـــــــتُ نعيبــــــــي

حزِنَتْ روحــــي عليــــــــــكَ               فَعَــــــــلا منّـــــــي نحيبــــــــي

وهَمَّتْ منّــــي دموعـــــــــــي               فرضيــــــــــــــــــتُ بنصيبــــــي

ويحـــــــــَ قلبي ! كيفَ غبتِ            يــــــــا شموسَهْ ؟ لا تغيبــــــــــي !

وتوارى شخصُك الجذّابُ            عنــِّـــــــــــــــــــي يـــــــــــــــــــا ربيبـــــــــي

هــــــــي نـــــــــــــــــارٌ لاذعَــــــــــــــــــــهْ              سَعَّــــــــرَت فــــــــــــــــيَّ لهيبــــــــي

كيـف أنســـــــــــــــاكَ وأنــــــــتَ              مــــــــلء روحــــــــــــــــي ووجيبي !

أنتَ في فردوس عَــــــــــــدْنٍ              فافرحي ، نفسي ، وطيبي ،

علَّنـــــــي ألقــــــــــــــــاكَ فيـــــــــــه               يــــــــــــــا منـــــــــــــــــايَ وطبيبــــــــي "

                                                       غازي براكس

                                                 بيروت ، 18/1/1979

الفهرس

-                    أحزان من أجل إنسان عزيز ..................................

-                    صورة الدكتور خبصا مع الدكتور داهش .....................

-                    طواه الموتُ فليته طواني ........................بقلم الدكتور داهش

-                    توطئة ..........................................بقلم الدكتور غازي براكس

-                    رسالةٌ لُحمتُها الحزن وسداها الشّجن ............بقلم الدكتور فريد أبو سليمان

-                    صورة الدكتور خبصَا الفوتوغرافيّة .................................

-                    قصائد من المنفى .................................................

-                    ومن غير الدكتور جورج خبْصَا ؟................................

-                    لماذا أُحبُّ الدكتور خبصا ؟......................................

-                    إنّني أرفض !................................................

-                    سأحيا لأجلك ..............................................

-                    أين عيناكَ لتنظراني؟!.....................................

-                    إذا حوَّلت أفكاركَ عنّي ..................................

-                    إلى الصديق النبيل أخي الدكتور خبصا .....................

-                    يهرفون بما لا يعرفون ....................................

-                    حلم فتَّان .................................................

-                    الأيَّام الأخيرة من حياة الدكتور خبصا ......................

-                    صورة جثمان الدكتور خبصا .............................

-                    نعوة الدكتور خبصا في الصحف ...........................

-                    خواطر حزينة وتذكارات مؤسية ...........................

-                    مراثي الدكتور داهش في شقيق روحه الدكتور جورج خبصا ............

-                    تُوفّي الدكتور جورج خبصا .................................................

-                    الحبيب الراحل ......................................................

-                    يأسٌ رهيبٌ مهيمن ................................................

-                    أرثيكَ بحزنٍ عميق .............................................

-                    أخي الحبيب المفدّى ...............................................

-                    أبكيكَ يا شقيقَ روحي ...........................................

-                    روحٌ حزينة ...................................................

-                    رحماك خالقي ...............................................

-                    أبكيكَ يا أخي أبكيك يا حبيبي .................................

-                    سأبحثُ عنك .............................................

-                    أُمنيتي أن ألقاك ..........................................

-                    أيها القبرُ الصامتُ تكلَّم ..............................................

-                    أرثي جهادك ووفاءَك ..............................................

-                    ذكرتُك فحزنَتْ روحي .............................................

-                    ذكريات مُحزنة ......................................................

-                    أخي المفدّى .....................................................

-                    روحٌ غمرتها الأحزان ........................................

-                    مهرجان خبصا التكريميّ ....................................

-                    ذكرك خالدٌ بروحي ........................................

-                    أخي الدكتور جورج خبصا ................................

-                    أرثيكَ بلوعةٍ عظمى ....................................

-                    لتَنْسَني يميني إنْ نسيتك ....................................

-                    روحي تُناجي خبصا ..........................................

-                    ذكرتُك وأذكُرُكَ وسأذكرُك.......................................

-                    غابَ عنِّي فجزعت..............................................

-                    شوقي للقياك .................................................

-                    رحمتُك عليه يا قبر .........................................

-                    طال نومُه ..................................................

                     -                    حُزنٌ أبديّ.............................................

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.