[ 186 ]
ومن خطبة له عليه السلام
في التوحيد وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ، وَلاَ صَمَدَهُ (1) مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ. كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَُصْنُوعٌ (2) ، وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ. فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَةٍ، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَةٍ. لاَ تَصْحَبُهُ الْأُوْقَاتُ، وَلاَ تَرْفِدُهُ (3) الْأَدَوَاتُ، سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَالْإِبْتِدَاءَ أَزَلُهُ. بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ (4) ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ (5) . مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِداتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا (6) . لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وَتُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا، مَنَعَتْهَا «مُنْذُ» الْقِدْمَةَ، وَحَمَتْهَا «قَدُ» الْأَزَلِيَّةَ، وَجَنَّبَتْهَا «لَوْلاَ» التَّكْمِلَةَ (7) ! بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ. لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَةُ! إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ (8) ، وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ، وَلاَمْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ، وَلاَلْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ. وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ، وَخَرَجَ بِسُلْطَانِ الْإِمْتِنَاعِ (9) مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤثِّرُ فِي غَيْرِهِ. الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ (10) . لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً (11) ، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ. لاَ تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ، وَلاَ تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ. وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ، وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالي وَالْأَيَّامُ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلاَمُ، وَلاَ يُوصَفُ بِشَيءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ(12) ، وَلاَ بِالجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، وَلاَ بِعَرَض مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ والْأَبْعَاضِ. وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ، وَلاَ انْقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ، وَلاَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ (13) أَوْ تُهْوِيَهُ (14) ، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ. لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ (15) ، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِجٍ. يُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهَوَاتٍ (16) ، وَيَسْمَعُ لاَ بِخُروُقٍ وَأَدَوَاتٍ، يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ، وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ (17) ، وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ. يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ. يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ: (كُنْ فَيَكُونَُ)، لاَ بِصَوْت يَقْرَعُ، وَلاَ بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً. لاَ يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ. خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ. وَأَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ، وَحَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدَ (18) وَالْإِعْوِجَاجِ، وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ (19) وَالْإِنْفِرَاجِ (20) ، أَرْسَى أَوْتَادَهَا (21) ، وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا (22) ، وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا، وَخَدَّ (23) أَوْدِيَتَهَا، فَلَمْ يَهِنْ (24) مَا بَنَاهُ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ. هُوَ الظّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْعَالي عَلَى كَلِّ شَيْءٍ مِنهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ. لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ، وَلاَ يَ