دعوة إلى العيد
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
أنا حزينة هذا المساء ويأخذ بي الضيق. سأحدث صديقتي الطبيعة عن ضجري وتعبي. ها أنا أسير الهوينا أتمتّع بجمال لحظة المغيب، غير أنه يحتجب من أمام ناظري قبل أوانه. واقترب من الأشجار أسمع حفيف أوراقها فإذا بها صامتة. الشلالات والأنهار هدأت، توقفت عن المسيل لئلاّ تعكّر صفو هدوء الكون. وأتوغل أكثر بين أشجار الغابة. الغابة ساكنة تلفّها البرودة، لا تدبّ في أعطافها نسمة حياة. كل شيء صامت، الحيوان، النبات والمياه تتناغم في صمتها.
أين هي الغزلان، تقفز هنا وهناك على طريق عودتها إلى مبيتها؟ أين الماعز والخراف؟ ما لها لا تؤوب الى مُراحها عند المساء؟ أين عطر الصعتر والخلنج، ما به لا يضوّع كعادته يستقبل المساء؟
ورحت أسير، أدنو من المحيط فإذا مها بتة سكنت ولم يعد يأتي بأي حراك، ونسيم البحر المُنعش لا يهب لملاقاة نسيم الأرض المُحيي؟ فكلاهما لا وجود لهما! حتى الرياح العاصفة عزفت عن الهبوب من الأفق البعيد. الطبيعة بمجملها يلفها السكون فنفسُها مُحتجبة عن هذا العالم، إنه دون حياة.
تملّكني شعور بالشؤون أثار أحزاني. حتى صديقتي المُفضلة، الطبيعة، موضع اعجابي وحبّي، فقد تخلّت عني. ترى، أهذا عِقاب؟ فالله يحرمنا أحيانًا أجملَ واحبَّ الأشياء إلينا.
استلقيت على رمال الشاطئ يلفني حزنٌ مرير، لعلّي أستطيع التفكير قليلاً فأطبق جفوني نعاس ثقيل، ورحت كما في حلم، وتخيلت نفسي على متن عربة صيغت من الغيوم راحت ترتفع بي في الفضاء وكلما ارتفعت في الفضاء كانت الغيوم تصبح مُنيرة حتى تغدو متوهجة، وسمعت صوتًا أدخل الطمأنينة إلى قلبي وأزال القلق الذي اعتراني. سمعته يقول لي:
عالمك نائم اليوم كيما يشارك في عيدٍ للموسيقى. فكل نوعٍ من الأزهار والنبات، من الطيور والبهائم ملأ بالهدايا عربات لا عد لها، فكل شيء في الطبيعة في ارتحال: رياح الأرض الأربعة تعانقت وسارعت إلى الحفل، البحار والمُحيطات جعلت أمواجها تتراقص، نجوم الفلك تتوهج بكامل ضيائها، الصخور والأحجار والحصى تندفع فرحة مبتهجة فقد حان العيد وانفتحت بوابة الفردوس لنلجه جميعنا كل بدوره.
المحيطات والبحار والمياه تألقت بدخولها فأبهجت العالم بسمفونياتها، الشلالات جعلت مياهها تتساقط أغانٍ، الزهور ترقص معانقة النسمات وتنتشر زغردات عطرة النغمات. رفيف أجنحة الفراس يلامس أذنيّ، أجنحتها الفرحة ترتعش في زرقة السماء، وفي الأشجار تزغرد الطيور نغماتها الساحرة فتبلل حناجرها ومناقيدها رشّة من الأكسير العطر النَّدي.
اليوم تُوِّجت الموسيقى ملكة، فالطبيعة توّقع على بيانها كل نغماتها. إني أسمع أجمل السمفونيات التي وضعتها الطبيعة رمز العبقرية. السماء مبتهجة، ملائكتها ملأت سلالها من جمالات الموسيقى التي راحت تأخذ لنفسها شكل نجوم صغيرة لكي تبقى خالدة حتى الأبد. ألوف سلال موسيقى تتدلى من غصون الأشجار كأنها ثمار ثمينة.
وكما في حلمٍ، الجميع يصغون وأنوار الشموس تشع على وجوههم، وجاءت الأقمار والنجوم جاءت كذلك لتستمع لهذا الحفل الموسيقي الرائع والعيون تزرف دموع التأثر. ولكي يتوّج هذا العيد وقع أورفيوس نشيد النصر على قيثارة، وأطلق أبولون ملك هذا العالم معزوفة اهداها إلى الشمس، عربته. إنه جوق رائع لا ينساه كل من سمعه.
وبكثير من الأسى سلكت أنا والطبيعة درب الرجوع بعد أن تمتعنا بهذا العيد الفردوسي. أدرت عينيَّ مرة أخيرة نحو هذه الأماكن الساحرة. رأيت جمعًا من الملائكة تتقبل سلام النجوم، فموسيقاها وبخورها سيرتفعان نحو الإله المُبدع. وعدتُ فارتميت من جديد في عالمنا غير أني أصبحت شديدة اليقظة الآن.