حرب وسلم
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
ذات يوم كان كوكبان رائعان يتنزّهان في أفق لازورديّ سماوي الزرقة، غير معروف في عوالمنا الأرضيّة. كان جمالهما الفائق يثير غيرة وحسد أصدقائهما، فواحدهما بلونه الأحمر القاني تنبعث منه السنة من اللهب هائلة، مخيفة، وتؤجّجه نار دائمة الاتقاد تنبعث اشعّته القاتلة من جميع جوانبه. كانت مقاليد هذا العالم واعنَّته بين يدي ولد شعره السنة لهب متوهج. كان ذلك الطفل الحبيب وليد احدى فراشات الصيف الطريات العود، وكان مليئًا بالبشاشة والحيوية.
وكان العالمُ الثاني متالق البياض كغيمة طاهرة، يقوده ويمسك باعنَّته طفل أشقر محبوب يجسّد في كيانه عذوبة الحملان واليمام.
هكذا كان هذان الشيروبيمان يجولان سائحين في الفضاء اللامتناهي إلى أن جاء يوم بات فيه لقاء الكوكبين محتومًا وكادا يصطدمان لولا أنهما توقفا عن السير في الوقت المناسب مُتجنبين بذلك كارثة لا مثيل لها.
وأطلّ من نافذتين وجهان طفوليان وسأل الواحد منهما الآخر مستفهمًا من يكون.
وكان جوابان تلقائيان ومختصران، "أنا الحرب" "وأنا السلم" كان الولدان ممسكين بمقاليد السلطة في عالمين مجهولين يكتنهان اسراراً بعيدة المنال. ان هذان السيدان بالغي السرور فهما في عمرٍ يرغب فيه المرءُ باقامة الصداقات.
صوت "السلام" العذب كان ذا رنينٍ موسيقيٍّ، فبعدَ أن ألقى هذا الحبيب الأشقر السلام على الآخر وعلى ثغره ابتسامة ملائكيّة، قال مُخاطبًا ايّاه: السلام، ليعمَّ السلام في بلادك أيها الصديق. فأجاب الحرب غاضبًا: أتتمنى لي السلم وأنا الحرب؟ أما علمت من أكون؟ ألست ترى اسلحتي الرهيفة البتارة التي تبيدُ الرجال؟ فبالرغم من صغر جسمي أنا مارد هائل.
أنا أيضاً صغير الجسم، قال السلمُ، لكنني عملاق عظيم ينير كوكبي العديدَ من الممالك وبقبلة واحدة استطيع أن أضرم الارض شموسًا من نار".
عجبًا، أضاف الحرب، وهل أنت مثلي أيضاً لك سلطان على الأرض؟
أجل غير أن احلال السلم والمحافظة عليه عمل صعب مرهق!
أنا أتفهمك. أنت محق في ما تقول وأحلف لك بشرفي كملاك بأنني أضع نفسي في خدمتك، وبالقدرة الجهنمية التي أتمتع بها سأحقق مراميك. أنا أملك جميع الآلات الجهنمية التي أوجدت منذ ولادة الارض، ومثلها ما هو أكثر تطورًا، وهذا أمر يجهله أهل الأرض، وأنا سأعطيهم إياها مع مرور الأعوام، فأنا الموحي لهم بجميع آلاتهم، أرسل لهم الكوارث والنكبات. أنا أمسك بزمام الأمور على الارض منذ نشأتها ومسؤوليتي هي في مثل صعوبة مهمتك. أنا أراقب الأمور بنظري الخارق في اقطار الأرض الأربعة ولا يغيب عني ما يجري في اية قرية أو دسكرة مهما كانت صغيرة. أنا سبب جميع النزاعات والخصومات على الكوكب الأرضي، يضيف الحرب، وأنا سعيد بالمهمة التي أوكلت إليَّ، فهذا برأيي واجب وضرورة أن تكون ساهرًا على تكفير البشر عن ذنوبهم.
وفي معرض حديثه، ضغط "الحرب على زر مثبت في لوحة علميّة في مقرّه فانطلقت حزمة من النيران المتقدة وتفجرت في جهة من الأرض فابتهج الملاك الصغير في عالمه.
أنظر، هيا انظر! قال الحرب للسلم، باشارة بسيطة أطلقت عقال حربٍ كارثية في واحدة من قارات الأرض الخمسة، وباشارة من أصبعي الصغير استطيع أن أحلَّ الطقس الجميل أو الرديء! أنظر إلى الأسفل، ها هنا! أنظر كيف أن اسلحتي تصبح مشهورة وذات قيمة كبيرة. أنظر كيف هي وبرضىً مني راحت تنتقل من يد إلى يد حتى اجتاحت البلاد البلاد جميعًا. رؤوساء الدول يبنون نفوذهم وسيطرتهم على كميّات السلاح التي يمتلكونها وستكون أسلحتي سبب دمارهم هُم ذات يوم.
لقد اصبح الناس قساةً مُنحرفين وستلتهمهم نيران عالمي. أنا أرسل أوامري بواسطة الأزرار التي تطيعني، التي هي في خدمتي وتنفذ مشيئتي. لقد حباني الله بهذه القدرة، ومهما كنت صغيراً، فأنا بعضٌ من ويلات وكوارث الله.
أيها الصديق، أجاب "السلم" أنا أخشى قدرتك وسطوتك وليس من قبيل الصدفة أن نلتقي أنت وأنا! لكنك، وبالرغم من اختلافنا، تروق لي وافكارك تستحق الدراسة والتفكير. أنا السلم وقد حباني الله نعمة محبّة القريب غير أن رسالتي هي موضع سخرية، فغالباً ما تتلفظ الشفاه باسمي بشيء من الريبة وعليها ابتسامة ساخرة، وغالباً ما يطئني الناس باقدامهم فهم لم يتمكنوا بعد من فهم حقيقة ومعنى السلم. أنا مسرور جدًا للقائي بك.
أنا، أجاب الحرب، أنا أقدّر وأحترم مشاعرك النبيلة وطيبتك العظيمة، لكن أريد أن ألفت عنايتك إلى أنه إن لم يكن هناك حرب، لا يمكننا إدراك معنى محبَّة القريب، فالإنسان عامّة لا ينال الخير إن لم يتوسل القوة. يجب أن يخنق الإنسان جنبين الخبث والشر في داخله حتى يعود فيدرك ما خسره من هبات السماء منذ سقوطه الكبير المدوّي. لقد فسُدَ الإنسان وأنا مولج بتأديبه وتعليمه.
وما كاد الحرب ينهى جملته حتى دوّت صاعقة وتفجر صوت رعد ملأ السماء ومادت له الأرض. والتهب "الحرب" وتأجج شعره شفارًا من لهب راحت تسقط على الأرض فاعلة فعليها.
يا للبشر المساكين! قال "الحرب" أنا بطول ابهام اليد وأجعلهم يتصرفون تبعًا لمشيئتي وكأنهم أشخاص آليّون. أقول لأحدهم مُتْ فيموت وللآخر عد إلى الحياة فيحيا، ولهذا ليكن جرحك دائمًا فيصاب بجرح لا يندمل. أنا آمر ولا مناص من إطاعتي. ليتمحقَّ أيها الصلف الأرضي، فأنا من يسمح بالانتصار المبارك. الضباط تزدان صدورهم بالأوسمة لكنها زائلة، أنا قائد النصر الحقيقي العظيم!
أجل، أيها الحرب، أنت محقّ أجاب "السلم".
أنا أسير في ركابك فأنت سيدي وأنت بذلك تحلَّني في مملكة جديدة، فلا أستطيع أن أكون مُستتبًّا دون اللجوء إلى القوة، فبدون الحرب لا وجود للسلم وأنا لا وجود لي بغير ذلك. فهيًّا أيها الحرب، أعِدّْ طريقي كما أعدَّ المعمدان طريق السيد المسيح. إمضِ وأنا اتبعك إلى كل مكان.
نحن كوكبان سابحان في فضاء الكون، اليد باليد، وعند إشارتك سأنشر غيمة بيضاء لتكون راية للسلم وهدية فجر جديد.
وسأتحول إلى يمامة نورانية، أحضن الأرض بجناحي وسأتخذ القوس قزح قوسًا لي أطلق به سهم المحبة في العالم. سأكون شجرة الاتحاد تمتدُّ أغصاني في كل مكان، وسأغرق ثماري على هذا النجم الجديد.
هكذا، وفي هذا اليوم، اتحدَّ الحرب والسلم وتعانقا في قبلة أبدية.