أوراق الأشجار الميِّتة
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
إنه فصل الخريف. فتارة ترسل الشمس الساطعة أشعتها فتبعث الدفء في أغصان الأرض وأوصالها، وطورًا يهب نسيم بارد فيعرِّي الأشجار من أوراقها فتموت وتتكسر فيحملها الهواء ويدور بها مُحدثًا ضجة صمّاء. أنصتوا إن تمكنتم من السمع، فكل من هذه الأوراق صفحة دوّن عليها تاريخها وقصة حياة الشجرة التي تنتمي إليها.
وتروي الأوراق قصة حياتها للريح التي تدوّنها في سفرها لتنقلها إلى عالم آخر. وهذا بدوره يدوّن ما روته الريح في سجل خاص بالشجرة الأم. عندما تخلع كل شجرة ثوبها وزينتها تسقط أيضًا عامًا من حياتها فتحفظه لها سماء غير معروفة فلا يضيع.
في يوم من أيام هذه العاصفة العتية كنت اسير على غير هدىً فوق احدى التلال المكسوّة بالأشجار. كانت أوراقٌ بلونِ الصدأ تتساقط عن الأغصان مُحدثة طقطقة، صوتًا يروي سيرتها وقصة وجودها المفعمة بأحداث حياتها منذ الولادة.
أنا لم أعلم كنه ذلك فحسب، بل إن أصواتًا أخرى غير مألوفة أثارت لدي حبّ الاستطلاع والمعرفة فأصخت السمع وإليكم ما كان:
كانت الأوراق تخبر عن عمر الأشجار التي تنتمي اليها، مُوضحة طبيعتها ونوعها لتعود بعد ذلك فتقص على الملأ مسار حياة أشجارها مُبتدئة حديثها كالتالي: "ولدتنا أمهاتنا في بداية فصل الربيع، فقد استفاقت لتوّها من سباتٍ شتويٍ عميق. كانت مُخدّرة بسبب الصقيع في فصل البرد. وتتابع الأوراق سردها، كنا براعم مُتناهية في الصغر ثم رحنا نكبر ونكبر كلما ازداد الدفءُ وصار المناخ جميلاً. كنّا جميلات وكثيرات نكسو أمنا بثوب جميل، عذب ومفرح. وكان النسيم الربيعي! يهدهدنا ونحن نوقع الألحان تكريمًا له، وكان العديد من الدواب الصغيرة يتخذ له مسكنًا في أعطاف البعض منّا.
وتضيف أوراق أخرى: لقد كنا نؤمن لهذه الكائنات الهزيلة الحماية ونجعل من أنفسنا مرتعًا لها ومكانًا للراحة.
وتقول أخريات: "كنّا نقدّم أنفسنا للطيور أدوات تنسج منها أعشاشها بينما كانت الفراشات تنتقل من واحدة منا إلى الأخرى تمتصُّ منها رحيقها وعصارتها.
هكذا كانت الأوراق تتراكض وتخشخش ساردة كل واحدة منها سيرة حياتها مدونة اياها بحروفٍ غير مرئية بالنسبة إلينا... وكل يوم كان يمرَّ من حياتها كان يُكتب بحروف هيروغليفية ويحفظ جميع حركاتها وسكناتها.
استطعت أن أفهم أن بعض تلك الأوراق كانت أحيانًا تقوم بفعل الخير والبعض بفعل الشر، حتى أن بعضها أعلن صراحة أنه كان يسقط أعشاش الطيور الملأى بالفراخ مُتسببًا لها بالموت ولأمهاتها بالحزن والبكاء، أو يتسبب بسقوط الأطفال ممن حاول تسلق أغصان أشجارها.
إنها جنح وجرائم كان النسيم يحملها إلى عالم آخر من حيث كان يأتي الحكم بحقها. كنت أيضاً أشاهد بعض الأوراق تتطاير نحو السماء وتنجز سعيدة بينما كان غيرها يهبط إلى عوالم سفليّة. فمنها من حلّت عليها اللعنة وعلى موجد حياتها، فالأوراق السيئة تولد من أشجار سيئة والجيدة منها من أشجار جيدة. وهكذا كان بعض الأشجار يقتلع من حين إلى آخر فيصير طعمه للنيران.
عندها فهمت وأدركت أن كلٍ ما هو موجود في هذا العالم، نباتًا كان، حجارةً أو حيوانًا لا بد أن يخضع للمسائلة والحكم عليه بسبب ما يأتيه من الأعمال مثله في ذلك مثل الإنسان.