ارغوس أو الشجرة
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
أيها الفانون، يا بني البشر! ما أشدَّ حاجة الإنسان إلى العينين، فبدونهما ما العالم سوى ظلمات.
هل يمكن للنفس ألاّ تكون بصيرةً؟ بالطبع لا! فكيف نُبصر إذا زارتنا الأحلام في منامنا؟ إنها عين النفس التي تبصر وترى ما يريد عالمٌ آخر أن يُريها.
نفسنا هي أيضًا تنعم بحاسة البصر، حاسة روحيّة أشد قدرة من الحاسة المادّية ولا مجال للمقارنة بينهما.
ذات يوم، وبينما كان أحد الأولاد ينعم بنومٍ هانئٍ ولذيذ، اغتنمت نفسه هذه الفسحة من زمن نومه فتحولت إلى طائرٍ راح يطوي رحلة في الفضاء السماويّ الرحب في تلك الزرقة المزروعة بالشموس والأقمار والنجوم.
راح الطائر يتنقل من عالمٍ إلى آخر وكانت النجوم له بمثابةٍ أشجار حيث كان يحّط من حين إلى آخر يأخذ قسطًا من الراحة لبضع ثوان. كان ينقر بقدميه وبمنقاره نقرًا خفيفًا على أبواب تلك العوالم لكن لم يكن هناك من مُجيب. أخيرًا وقد استبدّ به التعب والحزن، توقف أمام كوكبٍ أحمر وراح ينقر وينقر على بابه فبرزت له ملكة جانٍ رائعة الجمال لتعرف ما يريد هذا الطائر الحشري.
قالت له بشيءٍ من الأسى، يا صديقي الصغير، لا يمكنني أن أستقبلك لأنك لا تملك عينين مثل عيون أهل هذا الكوكب. عد إلى حيث أتيت وأحضرهما! عندئذٍ نُسعد باستقبالك ونكشف لك أسرار كوكبنا! "أيتها الآلهة المكرَّمة، أجاب طائرنا، أرشديني فحسب إلى حيث يمكنني ايجادهما فأخضرهما.
وفي الحقيقة هذا أمر مُختلف، أجابت الجنية، هناك عالم من الأشجار الخضراء الزمرّديّة، ثمارها عيون شبيهة بجواهرٍ مُنيرة تتالَّق على الأغصان كأنها نجوم.
فمن يتمكن أن يقطفَ من هذه الثمار يتحوَّل إلى جنّيٍ سماويٍ، وكل عين يستطيع أن يقطفها تمكنه من رؤية العالم الذي تنتمي إليه ومن فهم أسرار ذلك العالم. لكن بلوغ هذا العالم عمل شاق بحد ذاته إذ إنه يتطلَّب منك صبرًا كصبر الملائكة، وأنا لا أستطيع أن أرشدك إليه فهذا أمر محظورٌ عليَّ. عليك أنت أن تكتسبه فأنا سأتعرَّض للعقوبة إذا فعلت ذلك وسيجردونني من العين الحمراء التي بسببها صرت أنتمي إلى هذا العالم الأحمر وستنخسر أنت الفضل في أنك وجدته بنفسك. سأفعل جلَّ ما في استطاعتي حتى أمدَّ لك يدُ العون أيُها الطائر الصغير. سوف أزودك بجناحين غير جناحيك.
غابت الجنية لثانية من الوقت لتعود حاملة جناحين أحمرين رائعين وثبتّتهما على جسم الطائر.
والآن، هلاّ تقول لي ما اسمك أيها الطائر؟
أنا ارغوس، خادمك المُخلص. أجل أيها الطائر الصغير، فذات يوم ستكون مُفيدًا جدًّا بالنسبة إليَّ. هيّا انطلق في سعيك فلا فائدة من إضاعة الوقت. أقطف من هذه الثمار السحرية قدر ما تستطيع ولا تنسَ أن تقطف لنفسك عينًا حمراء حتى تتمكن في يوم من الأيام من زيارتي حيث أقيم. والآن، سوف أجعل منقارك صلبًا وشبيهًا بالمنشار فذلك سيكون جليل الفائدة وستتأكد من ذلك عما قريب.
أما وقد تزود بكل هذه الامتيازات حلّق في الفلك وهو يجزل الشكر والثناء، فجناحاه خفيفًا الوزن، رائعان وعلى الرغم من المسافات الشاسعة التي كان يجتازها لم يكن يشعر بالتعب ولا بالحاجة للراحة على أبواب العوالم التي كان يبلغها، فقد كان ينعم بصبًا دائم أبدي. راح أرغوس يطوي الفضاء ضاربًا بجناحيه، باسطًا ريشه للريح وكان يتوقف لهنيهات عند كل كوكب ويحاول بمنقاره القوي أن يحدث فتحة ينظرمن خلالها إلى داخل الكوكب ولكن عبثًا فقد كوّن الله تلك الكواكب من مادة غير قابلة للاختراق.
وينطلق أرغوس من جديد وكان أثناء طيرانه يلتقي بنفس جميلة أكثر بهاءً من الشفق السماوي آتية من كوكبٍ قريب وقد زينت شعرها الجميل بعينين أحداهما زرقاء والثانية حمراء. ويسألها الطائرُ إلى أين أنت ذاهبة يا حلوتي؟ آه! ألست ترى؟ تجيب عروسة السماوات، لقد اقتطفت للحال ثمرتين رائعتين، وهاتان العينان ستساعدنني لأزور عالمين رائعين، الأحمر والأزرق. وبفضلهما سأتمكن من تأملهما وازداد بذلك معرفة. آه، كم أنا سعيدة!"
أنا أغبطك أيتها الصديقة، وأتمنى أن ألتقيك مُجدّدًا في عوالمك إذا سمحت الظروف بذلك، فكوني حاضرة لذلك عندما أمرّ بك وتذكري دائمًا أرغوس، فهذا هو اسمي. حظًا موفقاً ياذا الجناحين الأحمرين أجابت أورورا أو الفجر. وعلى هذا افترقا في ذلك المدى الأزرق.
وبنعمةٍ من الأقدار، وبخفقةٍ من جناحيه الرائعين بلغ الطائر الصغير كوكب العيون والمعرفة، وفي غمرة فرحة الكبير طرق الباب بقوة.
من هناك؟ سأل صوتٌ موسيقى. هذا أنا، أنا عصفور أنا نفس، جئت أَنشُدُ المعرفة المقدَّسة. أنا أعلم أن هذا عالم العيون وأرغب أن أقطف لنفسي بعضًا من ثماره السحرية فأزداد معرفة في ما يتعلق بالعوالم العلوية.
على الرحب والسعة. تفضلْ بالدخول، أجاب الصوت الموسيقي، فقد اهتديت إلى عالمنا، أنا الملاك الحارس لهذا العالم الفردوسي الثمين.
ويدخل أرغوس فيأخذه العجب مما يعاينه في هذا الكوكب ويقع في حيرة، لا يعرف من أين يبدأ بحثه، فهذا فعلاً هو عالم العيون الهائل، فهناك منها الملايين والملايين. هل هناك من عدٍ وحصر لنجوم السماء. إن هذا ليس في متناول أليد. "ما من أحد يستطيع أن يحصي العيون على هذا الكوكب.
أنت أيتها العيون، يا مفاتيح البصر، أنت ثمينة للغاية، أنت أثمن من كل ثروات العالم.
أيتها العيون، يا مفاتيح عوالمٍ لاعدّ لها، بك تغتني الأرواح بالمعارف القدسية التي ما من أحد تمكن بعد من تبيان معانيها.
أيتها العيون، أنتِ نعمة سماوية. الأزهار في السماء هي عيون ملؤها العطر، أسماك البحيرات هي عيون، الأشجار الباسقة بأوراقها الزمرد تحمل على أفنانها العيون ذات الألوان المُتألقة الشبيهة بالشموس، وكلّ عينٍ تُمثلُ بسحرها عالمًا مُصغرًا وبفضلها نُدرك ونُعجب باسرار هذا العالم والغازه.
راح ارغوس، وهو في غاية السعادة، يطير من شجرة إلى شجرة تأخذه النشوة والإعجاب لكل ما يشاهده.
كم هذا جميل! كم هذا رائع! كان يردِّد بلا انقطاع وكان مأخوذًا جدًّا بما يشاهد حتى أنه لم يعد يفكر بالعودة، ولاحظ الملاك الحارس ذلك فأسرع إليه يلفت انتباهه قائلاً: لا تنسى أن ليس لديك سوى بضع دقائق حتى تغادر هذا العالم، فهو ليس مكانًا للاقامة فيه، بل هو محطة عبور فقط، هيا، أسرعْ وأقطف ما جئت من أجله.
ليس سهلاً أن نقطف هذه الثمار، أنها مثبتة على أغصانها بشكل قوي، وينبغي القيام بذلك بانتباه ودقة فالعيون حسّاسة جدًا وسريعة العطب، قد تُخدش وتتمزق فتخسر قدراتها وفضائلها.
عندئذٍ، وبكثير من اليقظة والحضور النفسي أعمل أرغوس منقاره كالمنشار وقطع غصناً مُثقلاً بالثمار. لم يكن هذا الغصن حملاً ثقيلاً، بل كان خفيف الوزن وأوراقه من الريش.
ألقى ارغوس التحيّة على حارس هذا العالم وشكره على طيبته وانطلق قاصدًا عوالم أخرى.
كان على الغصن الذي انتقاه مئة من العيون وذلك يتيح له زيارة مئةٍ من العوالم. أحسّ ارغوس نفسه كبيراً جدًّا، كبيرًا وعملاًقاً فلديه مئة من العيون وهذا أمر نادر الحصول فأقدامه حقَّق له هذه المأثرة. وراحت النجوم تهنئه على ذلك وكمكافئة له تحوَّل الغصن الجميل ذيلاً لهذا الطائر، الأمر الذي سوف يخلّده ويبقيه جميلاً على مدى الأزمنة.
وراح أرغوس يزور عوالمه الواحد تلو الآخر. وكان ختام زياراته في العالم الأحمر لأنه قطف العين الحمراء التي تمكّنه من زيارة هذا العالم. وعاد أرغوس يعبّر عن امتنانه للجنيّة التي منّت عليه بهذه النعمة ومكنته من التنعُّم بكلِّ هذه المسرّات. لقد كانت الإلهة جونون(1).
لقد تحوّل أرغوس إلى معينٍ للمعرفة، فلا شيء يفوته، ما حدا بالإلهة جونون، زوجة الإله جوبيتير(2) أن تجعله تابعًا لها فصار بذلك خادمًا أمينًا لها.
هيا، استيقظ الآن أيها الطفل. كان نومه نزهةً جميلة جدًا. لقد خلدتك نفسك المُرصعة بمئة من العيون خلدتك في الطاووس وفي مئة من النجوم.
1 – جونون: إلهة رومانية، إبنة زحل وزوجة جوبتير. هي شفيعة وحامية النساء المتزوجات. هي الالهة حيرا في الميثولوجيا اليونانية.
2 – جوبيتير: اله روماني. هو زوس لدى اليونان. سيّد الباراثينون، معبد الالهة اثينا. هو ابن زحل وريا وزوج جونون شقيقة ريا. إنه معبود سماوي، إله البروق والرعود وضوء النهار.