العطور
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
عندما أُبعِدَ آدم وحواء عن الفراديس، كانت الأرض جرداء بشعة تملاؤها الصخورِ؛ برّية قاحلة لا زرع فيها، لا تنبت شيئًا غير الأشواك المُلتفة على بعضها والمُنتشرة في كل مكان، والأشجار العملاقة المُتداخلة الأغصان وغابات كثيفة قاتمة تمتدُّ حتى الأفق، وطوائف من الأزهار غير المُبهجة والتي لا رائحة لها وتتداخل شاهرة أشواكها المُخيفة.
وهكذا كانت الطبيعة عندما حلّ آدم وحوّاء في هذا العالم غير المضياف فهما لم يؤمّاه إلا للتكفير عن غلطهما. ويا للأسف، قد كانت الخطيئة رفيقة لهما.
كان آدم وحوّاء من حين إلى حين يقصّان ذكرياتهما على أولادهما مُعيدين إحياءَ فراديس الأزمنة الماضية الرائعة في ذاكرتهما. وذلك لا يعدو كونه حلمًا.
يخبرانهما عما كان يقتاتان به من أصناف الثمار اللذيذة العطرة، وعن الزهور الرائعة التي تملأ جنَّات عدنٍ بعطرها وأريجها، فكؤوسها كانت تفيض بالعطور الذكية التي كانت تنتشر في سماء ذلك العالم الفردوسيّ البعيد. وكان ممّا لا يزال عالقاً في ذاكرة آدم من الذكريات الجميلة، نبتة بادرة يفوح منها أريج علويٌّ ساحر كانت على مدى يومه ترفع إلى العليّ بخور صلاته.
كان آدم يُجهش بالبكاء عندما كان يقصُّ على أولاده ذكريات ماضية. كان تعيسًا بائسًا لأنه كان سبب مُعاناتهم وحرمانهم. الفردوس ما يزال حاضراً في قلبه، والحق يقال، والأرض جحيمية. ثمارها وأزهارها عديمة الرائحة ولا وجود لايّة عطور. كان آدم وحواء يموتان حزنًا وندمًا على الأيام الخوالي ويمرُ الآلاف من السنين على هذا المنوال.
وتخطر الأرض وبنو البشر ببال الله في يوم من الأيام، فيرسل لهم رسولاً يرشدهم ويوجههم، فكان عرضة للعذابات ومع كونه إبنًا للسماء فقد كان بائسًا وموضع اهمال، غارقاً في وحول الأرض ومرارات الحياة عليها. كان دائمًا يحنُّ إلى كوكبه حيث أصدقاؤه الأعزاء، وخاصة تلك الحورية التي كان يحبها حبًا عظيمًا. كان يناديها خلال نومه وهي كانت حاضرة في أفكاره وفي أحلامه. وكانت تتألم لغياب حبيبها وترنو إليه من سماءها وتبكي هذا الكائن العزيز راغبة بكل جوارحها أن تلتقي به وتواسيه.
كانت تطلب نعمة الانضمام إليه، غير أنَّ ملكة عالمها جعلتها تعاين الصعوبات والشقاءات التي سيترتب عليها أن تتحملها وتعاني منها على الأرض. غير أنها لم ترد أن تسمع صوت العقل والحقيقة فهي مستعدة لتحمل كل شيء لتكون بجانب معبودها الحبيب.
وتمكنت في النهاية من الحصول على منيتها ومُبتغاها، وأرادت أن تتزود بهدية تحملها له معها، فحاكت لها الطيور من أرياشها سلة كبيرة رائعة، فجمعت الحورية أنواعًا كثيرة من الأزهار التي لم تكن قد تفتحت بعد والتي تختزن بداخلها عطورًا سماويةً رائعة، عذبة الأريج، ورتبتها بتأنٍ داخل السلة، وألقت تحية الوداع على أخواتها وهبطت صوب الحبيب. كان الشفق ينير بطلبانة وجهه الأبهيَّ وهو نائم.
وجثت الحورية أمام الهها الشاب المُستغرق في النوم، وتناولت الأزهار التي ما تزال مختومة اكمامها وراحت تنثرها حوله. وما أن لمسته هذه الأزهار حتى تفتحت ناشرة عليه عبقها وعطورها الخفية.
وفاحت العطور ذات الروائح الناعمة وراحت تتخذ لنفسها مساكنًا في العديد من أزهار الأرض وثمارها مانحة كلاً منها أريجًا خاصًا. وهكذا صار لأزهارنا وثمارنا عطورٌ وروائح والفضل يعود لحورية النجوم ورسول السماء.
كانت الحورية ربة جمال، عشتروتًا لازمت أدونيسها الحبيب الى الأبد.
والآن يمكنك يا آدم أن تفرح وأن تنعم في كوكبك بمشاهدة أزهار نسلك وثمارهم. إنها سببُ عزاءٍ وعربون أمل.
أنا أعرف يا أبَ بني الإنسان بأن ذلك كان هديّة تستثيرها أنت بنفسك كذكرى من الفردوس. ولنمجد الله المُبدع من أجل أزهاره وثماره ولنبارك طيبته اللامتناهية.