النَّحاتون
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
توغلت ذات يوم في مسالك جبلية بعيدة. ضللت طريقي وداهمني الليل بسكونه وصمته، ومع ذلك، واصلت مسيري حتى بلغت قمة عالم من الصخور.
هناك كانت باقات الوزال والصعتر والخلنج تتمايل فحتالة في الهواء. وكان قمر رائع الوجه يتمرّى على صفحات شلالات تنبجث من بين الصخور وتنسكب في أحد الأودية المخضرة والمُوشاه بالزهور.
وبالتفاتة عابرة منّي تبيّن لي أن هذه الناحية ما زالت تحافظ على حلّة طبيعية لم تمتد إليها بعد يد الإنسان، ولم تُعمِل فيها فتكها وأذاها فلم تشوه جمال هذا اللمشهد الطبيعي.
هنا، الطبيعة هي الملكة. كنت سعيدة بهروبي إلى هذا المكان الساحر الخلاب. وعند واحد من الينابيع، صافي الماء، رقراقها، جلست وروّيت عطشي. لقد ابهجتني الخلوة على هذا الجبل المُنعزل، فقد أيقظت في ذاكرتي صورة حياة النساك الهادئة وعزلتهم:
إلاّ أن شعورًا غريبًا تملكني وجعلني أظن أن هناك لغزًا كامنًا في هذا المكان، وأن كائناتٍ مجهولةً تحيا وتقيم على هذا الجبلِ النائي. لم يكن بإمكاني اكتناه هذا اللغز وجلاء غموضه، لذا أرجأت البحث في ذلك إلى الغد المُشرق.
بسطت معطفي على العشب الأخضر لآخذ قسطًا من الراحة. كنت قلقةً، حائرة، وحيدة تائهة في هذه المجاهل. وعبثًا حاولت أن أخلد إلى النوم.
لقد قارب الوقت منتصف الليل وما زلت مُستيقظة. أخذني الاعجاب بهذا الموقع وهذه الصخور السامقةِ التي شبهتها بأسوارِ منيعة، وبالشلالات الرائعة الجمال، والأزهار العذبة الأريج والأشجار الفردوسيّة المُثقلة وبالثمار اللذيذة التي رحت أقضم بعضها بنهم ولذّةٍ كي أشبع جوعي. غير أن ما أدهشني أكثر كان ألوف "الطيور التي استفاقت وراح ينشد كل منها أنشودته وكأنه في وضح النهار، وفجأة رأيت الليل يستحيل فجرًا والفجر نهارًا وضّاءً تحت أشعة شموس كثيرة متعددة الألوان، كانت ساعتي ما تزال تشير إلى منتصف الليل فقط.
وكلما أزاح الليل أستاره وأبعدها، صارت الصخور تتالق بياضًا أين منه بياض المرمر والرخام.
وعلى قمّة إحدى التلال، تراءى لي رجال ستّة ذوو جمال فائق، يحمل كل منهم مطرقة وإزميل نحَّات، وراحوا يتوجهون نحو ذرى الصخور. هناك بالقرب من الحجارة الضخمة انصرفوا إلى عملهم، ثم، وبصوت واحد هتفوا جميعهم.
تكلّمي أيتها الحجارة، تكلّمي!
وما أن لمستها أزاميل النحاتين، راحت الحجارة العملاقة تتحول إلى تماثيل رائعة تحاكي بجمالها جمال أدونيس وعشتروت.
وراح هؤلاء المثالون الرائعون يسيرون أزواجًا في الجنائن والبساتين. وما أن راحت الحجارة تختفي أولاً بأول، أخذ هذا الموقع يصبح آهلاً بجمالات فتيّة بعد أن كان منعزلاً وخالياً. كنت أسمع ضحكاتهم تتوالى كرنين الأجراس، وكانوا يمرحون في المروج المُوشاة بالزهور، وكانت الفراشات ترفرف كأنها أكاليل وتيجان فوق رؤوسهن، وكان البعض منهن يستحْمِمْنَ فرحات في مياه البحيرات الزرقاء.
يتمتع هؤلاء النحاتون الستة بعبقرية ومهارة تفوق عبقرية ومهارة مشاهير نحاتينا أمثال فيدياس، براكسيتين وميكيلانج، فالمثالون السماويون الستة يتمتعون بنفحة الإبداع والخلق تستحيل الحجارة الصماء على أيديهم إلى مخلوقات تدبُّ الحياة في أوصالها.
أيّها النحاتون، كيف اكتسبتم هذه القدرة العجيبة الساحرة؟ فمن يستطيع الأتيان بمثل هذه الأعمال غير الله؟!
يا فنّ النحت، يا أعظم الفنون قاطبة، أنت متحدّر من لدن الله مباشرة! وكذلك هم الستة الرجال، فهم بحدّ ذاتهم من جوهر الإله نفسه. لقد وهبوا الحياة إلى عالم جميل طاهر رافعين إياه إلى مصاف مدن الآلهة.
سرت متوجهة نحو هؤلاء الفنانين لأعرب لهم عن تقديري وإعجابي بعملهم الجبَّار فوجدتهم ما زالو مُنهمكين بالعمل.
دنوت منهم فلاحظت أن الستة الرجال مُتشابهون ولهم الوجه عينه! فتيقنت أنهم أذرع الله الستة، المشاركون لهم في القدرة! فُتنت بأعمالهم الخارقة التي تخلب الألباب. كنت آنئذٍ في فردوس عَدَني صغير راح يتحوّل إلى عالم غير مُرتبطٍ بعالمنا قبل أن يحلِّق نحو السماوات. واالقيت نفسي على الأرض, تمامًا حيث انفصلت مدينة الإلهة عن أرضنا.
رفعت عينيّ نحو هذا العالم. كان ما يزال يرتفع ويعلو حتى يستقر في السماوات.
وكما في حلم، رحت أدرك ما جاء في الأنجيل: "يستطيع الله أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لابراهيم". (متى – 9:3) وأدركت غيرها أن الحجارة كانت ملائكة في ما مضى وسقطوا! أمّا الآن وقد كفروا عن ذنوبهم وخطاياهم، رفعهم الله إلى كينونتهم الأولى.