الشاعر نزار الحُرّ
شاعرٌ لبنانيٌّ عمل في الإذاعة اللبنانية مراقبًا للنصوص. له تسعة دواوين شعرية، والعاشر قيد الطبع. كتب قصائد بالعامية وبالفصحى. غنى له كثيرون من المطربين والمطربات اللبنانيين والعرب. كرمته جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى العالمية في باريس بمنحه اليوبيل الذهبي تقديرًا لإسهاماته وعطاءاته كعضوٍ في الجمعية لمدة خمسين عامًا.
الدكتور داهش كما عرفتُه
تعودُ بي الذكرى إلى سنواتٍ وسنوات، حين بادرني في يومٍ من الأيام، وأنا في مكتبي، صديقٌ هو الآن في عالم الذكريات بالقول: "هل ترغبُ في التعرُّف إلى الدكتور داهش؟" فقلتُ: "بكل سرور." فما كان من صاحبي إلا أن أمسك سماعة الهاتف، وتحدث إلى الدكتور الذي حدد لنا الساعة الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم موعدًا للقاء.
لا أخفي أنني كنتُ توَّاقًا إلى معرفة ذلك الرجل الذي سمعتُ عنه كثيرًا من القصص التي تقرُب من الخيال بقدبر ما تبعدُ عن الواقع. كانت الأحاديثُ عن الدكتور داهش تدور باستمرارٍ في مجالس تُعقدُ في منزلنا. وكنتُ على صغر سنّي أُصغي بشغفٍ إلى هذه الأحاديث من بعض الزائرين، ومن والدي الذي كان صديقًا لداهش ولم يكن داهشيًا.
وصلنا في الوقت المحدد إلى منزل الدكتور الكائن في محلة القنطاري ] ببيروت[، فدخلناه بعد أن أشرعت لنا زينة1 الباب الذي لا يُشرع عادةً الا لأصحاب المواعيد.
جلسنا في الصالون ننتظر وفي اعتقادي أنني سأقابل رجلاً ناهز الثمانين أو التسعين من العمر. كيف لا وجميع أصدقائه، ومنهم والدي، قد فارقوا الحياة منذ سنين طويلة لو أضيفت إلى الأعماء التي عاشوها لقارَبت المئة!
قامتْ زينة بواجب الضيافة، وقدمت لنا المشروبَ المفضل عند الدكتور، ألا وهو الشاي.
---------------------------------------------------------
1 هي زينا حداد، ابنةُ الأديبة والفنانة الداهشية السيدة ماري حداد. (الناشر)
---------------------------------------------------------
وتمر دقائق، حسبتها ساعات، ويدخل علينا رجلٌ معتدل القامة، سريعُ الخطو، يفيضُ حيوية ونشاطًا يُخيل للناظر إليه للمرة الأولى أنه لا يتعدى الخمسين من السنوات، ويُلقي التحية، فأحييه بمثلها، ويقدمني إليه صديقي على أنني من المعجبين بشخصه.
قلت في نفسي وأنا في بحر من الحيرة والدهشة: هل يُعقل أن يكون الدكتور داهش بذاته؟ وتتزاحمُ الهواجس، وتتوزعُ علاماتُ الاستفهام، وتكثُر الأسئلة التي هي بحاجةٍ إلى كثير من الأجوبة. أمام هذه التساؤلات والاسترسال في الأفكار التي تجاوزت بي حدودَ المساحة التي نحن فيها إلى اللاحدود، فاجأني الدكتور بسؤاله: ""بِمَ تفكر، يا أخ نزار؟" قلتُ: "لا شيء." قال: "بل قل لي." حينئذٍ لم أجدْ بُدًّا من البوح بما أُضمِر، فقلتُ له: "هل تعرف المرحوم الشيخ مصطفى الحر؟" قال: "بكل تأكيد... لقد كان صديقًا عزيزًا." قلتُ: "إنه والدي. وأظنُّك تعلم أنه توفي منذ 15 سنة وله من العمر 83". وهنا نظر إليَّ الدكتور بابتسامةٍ تُخفي كلامًا كثيرًا لم يشأ الإفصاح عنه. وابتسمت أنا بدوري دون أن أزيد شيئًا.
استمرتْ علاقتي بالدكتور داهش من دون أن ألتزمَ الخط الداهشي، فكنتُ أزوره بين الحين والحين، وكان يزورني في بعض الأحيان. وبلغت الصداقةُ بيننا ذروتها حين صرتُ مرجعًا لكثيرين من الراغبين في لقائه.
كانت الداهشية كمذهب، في ذلك الوقت، حديثَ الناس اليومي. فقد اعتنقها وآمن بها نخبةٌ من رجال الفكر والعلم والأدب والسياسة أمثال الدكتور البروفسور جورج خبصا، والدكتور فريد أبو سليمان، والأديبة الفنانة ماري حداد، والشاعر حليم دمُّوس، والوزير الأسبق المحامي إدوار نون، وغيرهم. وكان للظواهر المُدهشة التي ظهر بها الدكتور داهش والتي قيل عنها ما قيل وقع عند أكثر الناس. وها أنا أضعُ أمام الأعين وأُثبتُ في هذه الصفحات ما بقي منها في الذاكرة.
ففي أحد الأيام أتاني الصديق الفنان سعد عبد الوهاب راغبًا في تحديد موعدٍ لزيارة الدكتور مع آخرين. وفي الموعد المحدد دخلنا المنزل، فإذا الدكتور داهش جالسٌ في الصالون، ومُسترسلٌ في مخابرةٍ هاتفية. وقبل أن نجلس أومأ إليَّ بيده للتوجُّه نحوه وهو يرفعُ صوتَه سائلاً المُخابِر عن أسمائنا، نحن الزائرين، ثم يضعُ سماعة الهاتف على أذني لأسمع صوتَ داهش الذي تعوَّدتُه يذكر جميعَ الأسماء بدون عِلمٍ سابق ببعضها. وأسأله، وهو الحاضر بيننا، عن الأمر، فيجيب بأن المتحدث على الهاتف كان شخصية من شخصياته1.
زرتُه يومًا مع سيدة جاءت تستعلمُ عن سيارتها التي سُرقت. فقال لها: "الأمر بسيط". وتابع حديثه الذي كان قد بدأه معي. وبعد مدةٍ قصيرة نظر إليها ليُعلمها أن السيارة قد استعملت لغرضٍ ما، وهي موجودةٌ الآن في آخر طريق الأرز. وفي صباح اليوم الثاني اتصلت بي السيدة لتخبرني بأنها وجدت السيارة في المكان نفسه، ولأبلغ الدكتور شكرها على جميله.
وفي إحدى الجلسات التي لا تُنسى، جاء الدكتور داهش بورقِ لعب مؤلف من 52 ورقة، وقال لي: "إختر واحدة من بينها". فاخترتُ الـ 10 ديناري، ثم أعدتُها إلى مجموعة الورق من غير أن أُطلعه عليها. فقال: "دع الورق معك، وأمسِكه جيدًا". ففعلتُ. ثم سأل: "هل اخترت الشاب؟" أجبتُ: "لا". قال: "إذن الختيار." قلتُ: "أيضًا لا." فقال: "لم أعد أعرف". وطلب إليَّ أن أُعطيه الورقة التي اخترتُها. قلبتُ ورق اللعب بحثًا عن الـ 10 ديناري، فلم أجدها. عندئذٍ قال لي: "قِفْ." فوقفتُ وكل ظني أنني سأجدُ الورقة تحت المقعد، فإذا بنظري يقعُ على مفتاحٍ حديديٍّ قديم، فأُمسكُه بناءً على طلب الدكتور، أذهبُ به نحو غرفةٍ بعيدة عن الصالون، فأُشرع بابَها لأجد زهريةُ وُضِعت على طاولة، وفوقها الـ 10 ديناري!
والتقيتُه مرة مع ابن أختي الذي أراد التعرُّف به، فسألنا هل قرأنا ملحَق جريدة "النهار" الصادر في ذلك اليوم، فأجبنا بالنفي. فقدم لنا الملحق لنقرأ فيه مقابلةً أُجريت معه2. وأمضينا عنده ساعةً من الوقت عُدنا بعدها إلى شقة ابن أختي الكانئة في محلة الزيدانية. وما إن دفعنا باب الشقة حتى وجدنا عدد الملحق ذاته داخلها.
ومن روايات الدكتور داهش لي أن شخصية من شخصياته أُعدمتْ بالرصاص على الحدود الإيرانية. وأطلعني، في أحد اللقاءات، على صورةٍ له في إحدى الصحف وهو واقفٌ معصوب العينين أمام عمود الإعدام. فقلتُ له: "أُمنيتي أن أرى شخصياتك
---------------------------------------------
1 للدكتور داهش ستُّ شخصيات علوية تشبهه تمام الشبه، لكنها تنتمي إلى عوالمَ أرقى من الأرض. وكان يُسمَح لها أن تتجسد على الأرض لاسباب روحية. (الناشر)
2 نشرت المقابلة في ملحق "النهار" الصادر ف 21/3/1965. (الناشر)
--------------------------------------------
الستَّ مجتمعةً". قال: "أَعدُك بذلك." وبعد مرورِ شهرٍ أو أكثر اتصل بي ليلاً، وقال لي: "تعال الآن. نحن هنا ستةٌ في انتظارك". لبستُ ثيابي وهممتُ بالخروج. وعند عتبة منزلي فكرتُ طويلاً بالمفاجأة التي تنتظرني، ثم قررت البقاء في المنزل.
وعن الحملة التي شنها عليه رئيس الجمهورية الأسبق الشيخ بشاره الخوري، قال "الأديبة المعروفة السيدة ماري حداد اعتنقت الداهشية ودانت بها، فأغاظ هذا التحول في حياتهاشقيقتها السيدة لور وزوجها الرئيس بشاره الخوري الذي أظهر لي العداوة، وحاول أن يوصل إليَّ الأذى بشتى الوسائل. فاضطررت بدوري لأن أدفعَ عني أذاه بوسائلي الخاصة. وكان ما كان".
كان داهش يأنف من الأحاديث التي تُروى عنه وتُصورُه وكأنه يعبث أو يهرِّج. سألته يومًا عن قصته مع الحلاق الذي دخل صالونه لدقائق، ثم خرج تاركًا رأسه على الطاولة ليحلقه في أثناء غيابه، فما كان منه إلا أن أجاب: "أنا لست مهرجًا أو عابثًا... أنا صاحبُ عقيدةٍ، وأعمل للخير، وأكره أن يُلصَقَ بي مثل هذه الأكاذيب".
ومما شاهدتُه من عجائب الرجل، تحويل الورق إلى مال. فكان يقصُّ أوراقًا على قدر ورقة المئة ليرة لبنانية، ويحوِّلُها إلى قِطَع نقدية من الفئة نفسها.
وكان يطلبُ إليَّ أن أضع ساعتي، قبل أن أزوره، في أي مكانٍ أريد. وعند حضوري إليه، يُسلمُها إليَّ. وأعود لأبحث عنها في المكان الذي خبأتها فيه، فلا أجدُ لها أثرا!
وفي إحدى زيارات الدكتور داهش لي، رن الهاتف في غرفةٍ ثانية. وقبل أن أنهض لأتكلم قال لي: "دعك منه، فالمخابرة لي." وهكذا كان. وفي بعض الأحيان، كان يرنُّ، فأتأخر، فيقول لي: "المخابرة لك. قمْ وتكلم".
وفي أحد الأيام أعطاني ثلاثين ورقةً رُسِم عليها "الرمز الداهشي"1 وفوقه عبارة "بحق الله والنبي الحبيب الهادي". وطلبَ إليَّ أن أكتبَ كل يومٍ على كلِّ واحدةٍ منها التاريخَ والساعة، ثم أُحرقها. وبعد مرور ثلاثين يومًا زرتُه، فسألني هل أحرقت الأوراق، فزعمتُ أنني فعلتُ. فقال: "لا، لم تفعلْ. ولو فعلتَ، لجعلتُك تربح جائزة اليانصيب الوطني الكبرى كما فعلتُ مع القاضي محمود نعمان".
--------------------------------------------
1 الرمز الداهشي" نجمةٌ خماسية تُرسم بطريقةٍ معينة. (الناشر)
--------------------------------------------
وأعود إلى حكايا ورق اللعب لأذكر حكايةً أخرى: طلب إليَّ الدكتور داهش أن أختار ورقةً من الأوراق، فاخترتُ البنت البستوني. وبقي الورقُ في يدي. فقال: "هل اخترت الشاب؟" قلت: "لا". قال: "العشرة؟" قلتُ: "لا". فادَّعى أنه لم يعد يعرف، وقال لي: "ارفع هذا التمثال (وهو واحدٌ من مجموعة تماثيل صغيرة كانت موضوعةً في الغرفة)". فرفعتُه، ووجدت ورقة كُتِب عليها بالأحمر: "إن نزار الحر سيختار البنت البستوني".
هذا بعضَ ما شاهدتُه من عجائب الدكتور داهش، فهل أستطيع أمام الواقع تكذيبَ عيني؟ لقد كان لي معه لقاءاتٌ متعددة حفلت بكثيرٍ من الآراء والتطلُّعات، ولم يُخفِ فيها نظرته في التقمص، واقناعَه الكلي بأن الأرواح غيرَ المطمئنة تتقمص لتكفرَ عن آثامٍ ارتكبتها، ولتصعدَ السماءَ بعد ذلك مُطهرة. وكانت الأديبة ماري حداد تشاركُنا في بعض الجلسات، وتُقضي معظمَ أوقاتها في مكتبة داهش الضخمة مُسترسلةً في المطالعة والتأليف على رغم تقدمها في السن.
والآن نسمعُ كثيرًا من أقوالٍ تردَّدُها الألسُن عن داهش. منهم مَن يقول إنها مات. ومنهم مَن يقول إنه لم يمت، وهو الآن في أميركا. ومنهم مَن يقول إنه ما زال في لبنان.
ورجال الدين، بشكلٍ عام، لم يُولُوا هذه المسالة منذ البداية أي اهتمام؛ فكانوا يتهمون الدكتور داهش بالشعوذة. وأمَّا هو، فكان يأنف من الاجتماع بهم.
ويطول السؤال من غير أن يحظى بجواب صحيح. وأذكرُ هنا أنَّ المرحوم الوزير الأستاذ ماجد حمادة سألني قبل وفاته ببضعة أشهر: "ما هي أخبار الدكتور داهش؟"
قلت: "إنه مات."فقال لي: "أخبرني صديقٌ بأنه التقاه عدة مراتٍ في بيته القديم في محلة المزرعة". فأجريت على الفور اتصالاً هاتفيًا بمنزله في محلة القنطاري وسألتُ عنه، فقالوا: "من يتكلم؟" قلتُ: "صديقٌ له. "قالوا: "كيف تكون صديقه ولا تعلم أنه مات!"