الأستاذ عبد الكريم الناعم
شاعرٌ وناقدٌ سوري عمل في التعليم، والصحافة، والإذاعة. إنخرط باكرًا في النشاط الحزبي السياسي، ثم انصرف عنه إلى النشاط الأدبي، فشارك في عدة مؤتمرات ومهرجاناتٍ أدبية شعرية دُعي إليها، داخل سورية وخارجها. صدر له تسع عشرة مجموعة شعرية، وكتابان في النقد التنظيريِّ التطبيقيِّ، وكتاب "سيرة زمن" (سيرة ذاتية)، وكتاب "الحزن والناي" (بالمحكية البدوية).
إطلالةٌ داهشيَّة
ذات يوم من أواخر شهر آب 2009 اتصل بي الصديق الشاعر عبد القادر الحصني، وأبلغني أن كتاباًا سيصدرُ بمناسبة مرور مئة سنةٍ على ولادة الدكتور داهش. واقترح عليَّ أن أكتبَ مساهمةً ما فيه، مُراهنًا على تلك الجُذوة الروحية التي في داخلي، من خلال حُسنِ ظنِّه بي، ومن خلال جلساتٍ نادرة وقليلة وجدنا فيها متِّسعًا لشيءٍ من الكلام عن ذلك الَّلوبان والحنين إلى ما لسنا ندرك، ومن خلال قصائدَ لي حملتْ رائحة ذلك الحريق. هو يُحسن الظن بي، وأنا أعلَم بنفسي وكم فيها من النواقص والعيوب التي كم تمنيت لو أنها لم تكن، ولكن ما كان كان. فوعدتُه خيرًا.
لعلَّه من المقيد هنا الإشارة إلى أنني من جيلٍ فتح عينيه على الوعي، فوجد الدعوات والأفكار الفلسفية والسياسية مفرودةً بين يديه، فانتميتُ إلى ما قدرتُ أن فيه وحدةَ العرب وقوتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية. وما زلتُ شديد الميل لكل ما يحملُ بذرةَ "العدل النسبي"، لأن العدل المطلق هو شأنٌ إلهيٌّ بضحت، لا طاقة لنا، كبشرٍ، بتحقيقه، في المساحات المعروفة والمتاحة، وذلك بسبب نواقصَ هي جزءٌ من تكويننا الإيجادي، ومن ترتيبنا الوجودي. وما زلتُ أنحاز لأي موقفٍ أرى فيه أنه هو الحق، مبتعدًا قدر ما يسَع التعليل عن "الجبرية" التي هي من توليفات حاجات ذوي التسلُّط الدنيوي، والخالية من نُسميات العدل الإلهي، (ولا يظلمُ ربك أحدًا). ونظرُنا كبشرٍ هو نظرٌ نسبيٌ، وعلى قدنا، ونحن مسؤولون عما نراه ونعقلُه وليس عمَّا لم نُكلفْ به؛ وتلك منطقةٌ لم تُترك غُفلاً، بل ثمة فيها شيءٌ من التكليف الإلهي، والفعل الذي يرفع صاحبَه نحو الأعلى حين يتحقق. فقد جاء في الحديث النبويِّ: "الخلق كلهم عيالُ الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله." فالخلق "عائلة" الله، بمعنى الرعاية، والمخلوقية، لا بمعنى المجانسة؛ وهو ما عبر عنه الإمام علي (ع) بقولهك "الخلق إثنان، إما نظيرٌ لك في الخلق، أو أخٌ لك في الدين." وهذا يوجب على كل ذي وجدان حيٍّ أن يسعى لرفعِ الظلم الذي يقع على عائلة الله.
قد تأتي هذه الدرجة من عُمق الوعي تاليةً للاختيار، وهذا لا يقلل من أهمية أن يجيء الإنسان مفطورًا على الانحياز لكل ما هو عادل. ولذلك فقد كنتُ بجانب الدفاع عن الدكتور داهش الذي ظُلم على أيدي سلطات ذلك الزمن في لبنان، لا لشيءٍ إلا لأن له رأيً يختلف عن السائد، في واحدةٍ من تلك الخانات التي لا تعرف إلا ذاتها، ولا تقبل إلا بما هي عليه، تأخذُه دون تمحيص.
إنها "الأنا" في أدنى "دركات" مُثولها التعصبي الأعمى.
هكذا كانت تلك الأنا في أشد قتامات حضورها مع قابيل حين أراد الاستحواذ بغير حق، فلم يجد سبيلاً إلا الجريمةت الكبرى: قتل النفس التي حرَّم الله بغير حق. فلما ارتكب، دون أن يداخله الندم، وأضناه أن يحمل "الجثة"، ولم يؤرقْه أن يحمل جريرة القتل، جاءه غرابان، وعلماه ماذا يفعل؛ "غرابان" أسودان، رمز النعيق والتشاؤم، لأنه في "دَرَكٍ" لا يتلقى إلا مما هو من جنسه. والجنس لا يفهم إلا من جنسه، وعنه، ولو عن طريق المشاكلة. غرابان جاءاه. ولو جاءه ملكان، ولو على هيئةٍ بشرية، لما كان مستعدًا للفهم والاستجابة. فوصايا أبيه آدم، بذرةِ بدءٍ النشأة، بما فيه من صفاء الفِطرة الطبية، لم تؤثر فيه. وأنى لإشراقة النور أن تخترق الحجرَ الأصمّ، لا لعلَّةٍ في النور، بل لعلةٍ في الحجر!
غُرابان علماه كيف يواري سوءةَ أخيهن لا سوءته. ولو جاءه ملكان لأصدر قرارًا بنفيهما، وتعذيبهما، لأن موجة التلقي الرحماني مغلقة.
لا يحبُّ الظلم إلا الظلمة. ولذا كنت في صفِّ الدكتور داهش؛ (إن الله لا يحبُ الظالمين). وخلال ثلاثة أيام وجدتُني وقد قرأتُ أكثر من أربعة كتب من مؤلفاته، استطعتُ من خلالها أن أقفَ على تلك المشارف، وأن أعرفَ ما لم أكن أعرفُه عنها من قبل. وإذا أنا أمام صورةٍ جديدة للدكتور داهش لا علاقة لها بالصورة التي وصلتني بداية الشباب، فيما يصلُ من أنباءٍ أو حكاياتٍ هي أقربُ "للخرافة" منها "للأسطورة"؛ وشتان ما بين الاثنتين!
ففي "الخرافة" من الاستهانة بالعقل ما يجعلُه سِلعةً لتداول المنتفعين من تصاعد البخور في المعابد، أيا كانت، ومن خداع الشعوذة أنى كانت؛ وفي "الأسطورة" صناديق رموز لا تعالج رموزٌ إلا بمفاتيحها. و"الملكية" المالكة، لا المملوكة، لا تمنح شرف حملِ أختامِها إلا لمؤتمنٍ جدير.
خلال هذه الفترة شعرتُ بشيءٍ من الإنهاك لأنني كنتُ ما إن أستريح حتى أتابع القراءة... وها أنا أتوقف عند نقاطس يشتبك ما فيها اشتباكًا نسيجيًا بين القارئ والمقروء:
1- لفت انتباهي أن معظم أتباع الدكتور داهش، بحسب ما وصلني، هم من المثقفين، ومن علية القوم ثقافةً ومواقع اجتماعية، من أدباء، وفنانين تشكيليين، ,أطباء، وصحفيين، وأصحاب مناصب. وكان مميزًا، في هذا السياق، أن يُصدر ذلك الأديب والعلامة الشيخ عبد الله العلايلي كتابًا بهذا الخصوص: "كيف عرفت الدكتور داهش"، وهو من هو عقلاً، وثقافة، وعمق نظر، وقد اخذته الدهشة من الدكتور داهش، لِما رآه منه، وخبره؛ وعلى مَن يريد المزيد أن يبحثَ عن ذلك الكتاب، ويطلع عليه.
هذه النخبة تُشير إلى أنها ليست ممن يمكن أن يخدعها لاعبُ خدع. وإذا كان من الجائز أن يخدع بعضُهم، فليس من المعقول أن يسري ذلك على هذا الجمع من هؤلاء الرجال.
2- الخوارق التي سردها أكثر من واحد، وقد أجراها الدكتور داهش أمام من شاهدها، أو لنقُل أنها شوهدت، وقد أجريت على يديه، وهو يقول إن الفعل لصاحب الفعل، وليس له – هذه الخوارق لا شك أن لها وظيفةً عميقة الدلالة. ففي العصر الذي تسود فيه الماديات، ويجري الجميع وراء المال والملذات الجسدية، وتنحدر بعض المجتمعات في "دركاتٍ" تبلغُ حد التشريع للزواج المثليّ، ويصبح الكلام عن الغيب أو عوالمِ الله الأخرى مدعاةً لإثارة الضحك، والسخرية، والاستخفاف، والغمز واللمز، وإلصاق التهم بالقصور العقلي، أو بـ"الرجعية"، كحدٍّ أدنى – في هذا الزمن يأتي من يقوم بخوارقَ أكدها العديد ممن لا يُشكُّ في عقولهم. أقول "خوارق" وليست "مخرقات". وذلك يعني أن هذا إيقادُ شعلةٍ ربانية تدعو الناس لعبادة الله الأحد، الذي لا يُحدُّ، ولا يُحاط ولا يُدرَك، ولا يُعلَم ما هو إلاَّ هو، جلَّت قُدرتُه. وهي دعوةٌ بعيدة عن التعصُّب، بل هي تنطلق من أنَّ جوهر الأديان واحد، وأنَّ اللواحق التاي غيَّرت وبدَّلت قد جاءت بفعلِ فاعل أغرقَته مُغرياتُ هذه الدنيا التي ما تلبثُ أن تزول.
"العُروش تزول، واللذاذات تنتهي وترحل، تذهب الشهوات ونتبقى التبعات"، على حد قول أمير الموحدين الإمام علي (ع). إن تلك الخوارق تجيءُ في زمنها المنتقى، لتُذكر مَن يُجيد التذكُّر بمعاجز الأنبياء الذين تفصلُ بيننا وبينهم آلافلإ من السنوات، ولتعيد وصل ما انقطع من صفاءٍ وفطرةٍ شوَّههُما تشويشُ الفكر وتخريبه الشيطانيُّ في نُزوعه المادي البحت النهبوي الظالم؛ تصلُ ما انقطع لتُعيدَ لتلك الخوارق طزاجتها الأبدية. وأعذبُ الماء ما وصلَك وأنت على شَفا هلاكٍ من الظمإ.
إنَّ أجيالاً بكاملها، لدى جميع الطوائف والمذاهب، شكَكَتْ في هذا العصر المادي، التدميري النهاب – شككّتْ بالإتيان بعرشِ بَلقيس من سبأ قبل ارتداد الطرف. فحين طلب سليمان (ع) إحضارَ عرشِ بلقيس، (قال عفريتٌ من الجن أنا آتيكَ به قبل أن تقوم من مقامك). حينئذ (قال الذي عنده عِلمٌ من الكتاب أنا آتيكَ به قبلَ أن يرتدَّ إليكَ طرفُك.) وأحضر العرش قبل ارتداد الطرف. هذه الخارقة الموجودة في القرآن الكريم تحوَّلت عند البعض من سببٍ للغيمان إلى سببٍ للشك، لأنها خارج منطقِ السبب والنتيجة والبرهان المادي المُمكن. وأحدُ مؤججات التشكيك أن أحدًا مِنَّا لم يرَها، والرويات هي قيلٌ عن قال. بيد أنه حين تحضرُ صخرةٌ، بلَمحِ البصر، من جبلٍ في لبنان، كان قد نقشَ عليها الشاعر حليم دمُّوس، قبل أيامٍ قليلة، بيتين من الشعر، بحضور الدكتور داهش وشخصٍ ثالث، وكانوا في نزهة – أن تحضرَ وتظلَّ في المكان حتى يعملوا على تكسيرها وإخراجها من البهو الذي كانوا فيه، ويجري ذلك في القرن العشرين، بحضور أناسٍ يؤكدوننه، وليس لهم غرضٌ مشبوه,، ولا منفعةٌ مباشرة، ويثبتونها لإنسان يقول عن نفسه إن هو إلا بشر، وأن ما يجري هو فِعلُ صاحبِ الفعل، لا فعلُه هو، وهو لا يبحث عن جاهٍ، ولا منصبٍ، ولا مال – حين يجري هذا، فإنه يقول بملء فم التحقق أن هذه أخُتُ تلك، وأنَّ الفاعل واحد: إنه صاحبُ القُدرة الذي لا يُعجزه شيءً في الأرض ولا في السماء.
أقول هذا وأنا مُقِرٌ بذلك القرآن القائم بين العقل والشك، أعني عقولنا نحن في هذه الأرض، مذكرًا بتلك الشواسع بين شك إيجابيٍّ من أجل الوصول إلى الحقيقة، وشك سُدَّته الشك، الذي حين يترسخ يُصبح أول درجةٍ في الهبوط الإبليسي إلى ظُلُماتٍ بعضُها فوق بعض.
لعلَّ من ثمار تلك الخوارق أنها تفتح الباب لإعادة النظر الجذري بالتشكيك الذي كاد أن يكون كتاب أجيالٍ برمتها، وربما كان هذا أحد الأهداف المنشودة في كل ما جرى، ودُوِّن.
نحن في زمن صنميةٍ عصرية لا تقبلُ إلا صنميتها، في كثيرٍ من مواقع المتدينين وغير المتدينين. ولعل أبرزها أن الغالبية، إن لم يكن ما هو أكثر، يتقبلون مقولات العلم على أنها "مطلقات" أو أشباهُ مطلقات، على الرغم من تبدُّلها الدائم، لأنها هي في الأصل ابنةُ المحدود والنسبي. وثمة من يتصنمون عند العقيدة، فيوغلون في التصنيم وهم يحسبون أنهم في الطريق، وأنهم نماذجُ تُحتذى للمتألهين!
لعل مَن يتساءل إذا كان الدكتور داهش قد قام بكلِّ تلك الخوارق، كما ورد، من مشي على الماء وهو طفل، إلى إحياء عُصفورٍ مَيت، إلى قطف سيدةٍ وردةً أعجبتها في لوحة، فقال لها: اقطفيها، إلى... إلى... فلماذا لم يدفع عن نفسه تلك الأذيات التي لحقت به من قبل أعلى سُلطةٍ رسمية في لبنان آنذاك، وهو رئيس الجمهورية بشاره الخوري، فضُرِبن وشُرِّد، وذاق ألوانَ النفي والعذاب؟!
يبدو لي أن الذين تكون تلك مهمتهم، عليهم أن يواجهوا ما يواجهون ليعلمونا كيف يكون الصبر على المكارِه في رحلتنا على ظهر هذا الكوكب الذي تحيط بنا أعباء حاجاته، وعذاباته، لأنه ليس موضع النعيم، بل هو، كما يقول كثيرون من أهل الحجا، دارُ الشقاء. فهذا محمد بن عبد الله(ص) يطردُه أهلُ الطائف حين ذهب ليدعوهم إلى دينه، ويغرون به صبيانهم، فيلاحقونه بالاستهزاء والحجارة، حتى أدموا كعبيه، فآواه أحدُ أصحاب البساتين، فيتوجه إلى مَنِ اختاره لحمل هذه الرسالة بهذا الدعاء الشكوى ورائحة آلام الروح تعيقُ في صدور مَن تتلبسُهم الحالة حتى الآن، فيقول:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت أرحمَّ الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلُني؟ إلى بعيد يتجهمُني، أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، غي أن عافيتك هي أوسعُ لي.
أعوذُ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُلمات، وصلُح عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن يحلَّ بي غضبُك، أو ينزلَ بي سُخطُك. لك العُتبى حتَّى ترضى. ولا حولَ ولا قوة إلا بك". توجَّه بهذا الدعاء في لحظةِ شدَّة، وهو لو أقسمَ على الله لأبَرَّ اللهُ قسمَه، ولو دعا على أُولئك لاستجاب الله دعاءَه، غير أنه رضيَ باختيار الله؛ وهو اختيارٌ رسوليٌّ عالي المقاصد، ليس فيه منفعةٌ شخصية، ولا ربحُ تجارة.
نقطةٌ أُخرى لافتة في تلك الأعاجيب التي قرأتُها، وهي أن الدكتور داهش كان باستطاعته تصوير الذهب على الصيغة المطلوبة، أو المال الورقيّ، ولم يكن يعنيه من هذا "الصنم" المعبود ما يعني الآخرين، بل كان يعيشُ حياةً بسيطة لا بذخَ فيها ولا إسراف، وكأنَّ هذا السلوكَ هو إشارةٌ بعيدةُ الدلالة إلى خطوة "صنمية" الذهب/ المال.
قارون الذي وردَ ذِكرُه في القرآن الكريم، وكان يُضرَب بغِناه المثَل، خُسِفَ به وبِدارِه، فلم ينفعه ذهبُه؛
قومُ موسى (ع) حين غاب عنهم موسى، وأخذَتهم رِدَّتُهم عن التوجُّه للعلي الأعلى صنعوا صنمًّا من ذهب وعبدوه.
إحدى الطرق الصوفية حين تقيمُ المال/ الذهب... ترى أنه إن استعمل في طريق الشرور والمآثم والفجور، فهو مالٌ ذو شخصية إبليسيَّةٍ مَحضة؛ وإن صُرِف فيما ينفع الناس، فهو مِعراجٌ من مَعارج الرقيّ، وطريقٌ إلى باب الله الذي لا يوصد في وجه قاصديه بحقّ.
3 – المَفصِل التالي له علاقةٌ باللغة التي كتب بها الدكتور داهش مُناجياته الرحمانية. وأنا هنا أتكلَّم من موقعي كشاعر، تفتنُه الصورةُ الشعرية، والصياغةُ الجميلة، والبناءُ المُحكَم، الموحي، في النص، لدرجةٍ يكون فيها إشارات أو لطائف. وأنا هنا ابن ما أضافته الحداثة في الشعر العربي الحديث، وما افتتحته من آفاق، وابنُ التراث المشرق. كنت وأنا أقرأ نصوص تلك المناجيات أُقارنُ، بوعي، بين ما في الذاكرة وما في النزوع من جماليات وما بين يديَّ، فأجدُ نصوصَ الدكتور داهش تتقاطع، بشكلٍ ما، مع الأسلوب الجبراني، ربما لأنهما يمتاحان من بئرٍ واحدة، ولأَنهما في زمنٍ لُغويٍّ ناهض واحد ولربما استجرني إلى هذا أنني لا أقرأ لشاعر، ولا لِمَن همَّه الشعر، بل شاغلُه التوجه إلى القدرة الكلية، المُبدعة، الخالقة؛ فهو يؤدي صلاته، ويضرب بأجنحةِ التضرع، وهدفه رفع المناجاة وليس الصياغة الأدبية. بيد أننا نواجهُ، بوعي، بهذا القدر أو ذاك، أننا ما زلنا في أُفقِ مَن أدهشت خوارقُه كل مَن رآها، أو سمعَ بها، وطبيعةُ عقلنا البشريِّ أَنَّه عقلُ مقارنة؛ فـ"الضدية" أساسٌ في تركيبه. هذه المُفارقة بين إعجاز الخارق والصياغة الأدبية لا تستوقفُ إلا من سافر في عوالم الحرف والابتكار الفني، ومَن كان يحملُ طبيعة عين الصائغ الماهر الذي من طبيعته أن يمقل الزخرفة وتجويد الصنعة.
لربَّما لم يكن الدكتور داهش يعاني ما عاناه النفري والحلاج وبقيَّةُ الصوفيين الذين نشمُّ في كتاباتهم رائحة الشَّياط الداخلي. ولهذا كانت تكفيه المناجاة. ولربما كان من الأجوبة، في التقديرات المرضي عنها، الاهتداء لفكرة أن الخوارق كانت تتم بقدرة العلي القدير، وأن صياغة الكتابة كانت تقع في منطقة ما هو بشري. وهذه تفتح ورقةَ ما هو بشريٌّ في كل الذين رُويت عنهم الخوارقُ عبر التاريخ. فهم في تجسدهم يحملون قوانين أي جسدٍ بشريٍّ آخر دون إلغاء الفوارق الشخصية المميزة: إذ إنهم جميعًا "ماتوا" وربما استطعنا من خلال هذه الرؤية البشرية تفسير ذلك الغزل الأنثوي الذي نجدُه في كتابات الدكتور داهش. فهو في غزله ابنُ حنين الروح والجسد معًا. والتنبه لهذه النقطة ربما يؤنس تلك الوحشة عند الذين يعتقدون بتجليات سماوية في عالم الأرض. فالمسافة الهائلة بين الإتيان بالمعجز وتلمُّسِ كلِّ الماجريات البشرية في آن تقع بين تناقضين مذهلين لا يحل إشكالهما في التأولات المُريبة، في كثير من الأحيان، إلا القولُ بأن المظهر بشريٌّ بكل ما في البشرية من معنى، وأن المعجِزَ هو ابنُ القدرة المطلقة الكلية التي لا يُحاط بها. وإلا فأية قدرة "مخلوقةٍ"، عند المتألهين، قادرةٌ على أن تقبض مئاتٍ بل آلافَ الأرواح البشرية في لحظةِ كارثةٍ من الكوارث؟!
إنها ليست قدرة "عزرائيل" وحدَه المعهودِ إليه بذلك، في درجةٍ من الشرف عُليان بل هي قدرةُ العليِّ الكلية تتنزل، فتفعل.
4 – قبل أن أغادر هذه الوريقات، وهي كلها، في أبعاد ما طرحته، وما رمت إليه، لم تخرج من حدود أن مسلك الراغبين في العُروج الأخلاقي، أو الروحي، هو صدق التوجه إلى الله، دون إعراض عن واجبات المقتضيات اليومية، ومحاربةِ الظلم أيًا كان شكلُه، لأنها نوعٌ من أنواع الجهاد، حين التزامها بالاستقامة، الاستقامة التي هي ما ينفعُ الناس. هذا لا يكون دون نية؛ "إنما الأعمالُ بالنيات". والنية لا تكون دون "معرفة". وهذا يستدرج بدوره سؤالاً حادًا، وهو إذا كانت "المعرفة" أساسًا في النية، فكيف أهبطتِ "المعرفة" آدم، بحسب زعمِ البعض، حين أكلَ من شجرتها، وكيف حكمَت على سيزيف بأن يظلَّ دأبُه أن يحمل تلك الصخرة، في تكرارات سقوطها، وتدحْرُجها؟!
بظنِّي أن المركزية الأوروبية الغارقة بالمادية حتى القرف والإقراف، في المآلات، هي التي زرعت هذا التفسير في الأذهان، وعممته، بحكم قوةِ سيطرتها الطاغية. فليست "المعرفة" هي التي أهبطت آدم، لأن المعرفة علوٌّ، ورقيٌّ، وصعود، شريطةَ صدورِ الخير عن العارف؛ وإلا فهي ظرفلإ من المعلومات، والمحفوظات، لا مقامُ إشعاعٍ وهدايةٍ واقتداء. والذي أهبط آدم المعنيَّ بالهبوط، جدَّنا الأول، نحو البرزخ الذي تمتزج فيه الظلمة بالنور هو "عِصيانُ" الأمر الإلهي. والذي دجفع عقوبته بروميثيوس هو إذاعةُ الأسرار لغير مستحقيها، لا سرقة النار. فقد ألقى الجواهرَ بين أيدي الخنازير؛ وهذا عصيانٌ للأمر الإلهي الواجب الطاعة، لأننا لا نستطيع الإحاطة بالمَرامي الإلهية البعيدة، لأننا أبناءُ ما هو محدود. وحين يتأكدُ لنا الأمرُ الإلهي، علينا الالتزام بالاستجابة. والأوامرُ الإلهية هي كل ما خلا من الشر. وهنا من حق أي واحدٍ أن يسال: إذن ما دورُ (العقل) في هذه الحالة، (العقل البشريُّ) الذي ألهته مدنية الغرب في دورتها المسيطرة، فاحتكمت إلى مُنتجاته، على تناقضاتها، فحصدت تلك الصفقة مع الشيطان، التي كان أحدُ نماذجها صفقة فاوست؟
العقلُ في معظم الفلاسفات الغربية "إله"، والله من تصورات العقل. أما في عُمق روحاينة الشرق وبُكورته، فـ"العقل آلة، أُعطِيناه لإقامة العبودية، لا لإدراك الربوبية،" بحسب قول الإمام الصادق جعفر بن محمد.
وسيزيف ما زال يعاودُ تكرار رحلاته وعوداته. وستسمرُّ ما استمرت مخالفته...
لا أدري. لعلني، برغم هذا التخويض، لم أبتعد عن المرمى...
حِمص – سورية، أيلول 2009.