الشاعر طلال حيدر
شاعرٌ لبنانيٌّ. له عدة مسرحيات قُدمت في "مهرجانات بعلبك الدولية" وعلى "مسرح بيروت"، منها مسرحية "الفرمان" (1970).
من دواوينه الشعرية "بياع الزمان" و"أوراق المطر، و"آن الأوان" و"خيال برج الأسد". وله ديوان بالفرنسية. كتب سيناريوهاتٍ وحواراتٍ سينمائية. غنى قصائده مشاهيرُ المغنين والمغنيات اللبنانيين.
زمنٌ خارجَ الزمان
كان بحاجةٍ لأكثر من جسدٍ كي تلتقي به أقانيم الروح المتعددةُ الأنوار. هذه الأقانيمُ تبدلُ فيه أجسادً متشابهةً؛ فهي، لأنها ترتدي ذاتًا واحدة، تبدلُ جسدًا ما كلما وقع الموتُ على أحدها، أو كلما اجتازت الروحُ مسافاتها عبر الأزمنة. أما المعجزات والخوارق التي عاينها معاصروه، فقد كانت أموراً بديهية لأنها تعبر عن التقاء الأقانيم الروحية العابرة للأزمنة في جسدٍ كان مركزًا تلتقي فيه الموجاتُ الروحية وهي في طريقها لعبور زمنٍ خارجَ الزمن الواحدِ المألوف.
قيامةُ المسيح من الموت في اليوم الثالث، والحياةُ الدائمة عبرَ الزمان للمهديِّ المنتظر الذي يتجولُ في الأزمنة، حسبَ المذهب الجعفريِّ الإسلاميِّ، وموسى الذي كلمه الله إذ راح يلتمسُ نارًا في النور الإلهي – كل ذلك دعا داهشًا إلى التبشير بوحدةِ الأديان، لأن التيارات الروحية السماوية اجتمعت فيه تجسيدًا جعل من شعره رؤًى لا هي صوفية، ولا هي لاهوتية، ولا هي دينوية، إنما هي "أزمُنية"، إذا جاز لي أن أبتكر التعبير.
فلا بد من جسدٍ للُّغة كي تنتقل من الرائي إلى المرئي. فشعرُه أبعدُ من الرموز التي تُوحيها، لأنها، للمرة الأولى، تُشيرُ إلى معانٍ هي بين الماهية والوجود.
الشعر، بالمطلق، يتجاوزُ المنطقَ الشكلي ليقعَ في الكشف الحدسي. وشعر الدكتور داهش، سليم موسى العشي، برزخٌ بين البساطة والإعجاز. من يقرأه، كما ألف أن يقرأ الشعر الذاتي، يستهجدن بساطته. ومن أنعمَ النظر في الغوص وراءَ جسدِ الكلام يصلُ إلى الاتحاد بذات الشعر، فيخرجُ منه إليه، ويتحدُ بذات الشاعر، ويخافُ ألا يعودَ إلى ذاته فيصيبه خبَلُ تعدُّدِ الذات، ويضيع.
ربَّةَ الشعر، الهميني معجزاتٍ خالداتْ
وادْني مني تُسعديني أَنتِ يا سرَّ الحيـاةْ
كانت ربةُ الشعر صِلتَه بالملاٍ الأعلى، لأنه أدركَ أنها سرُّ الحياة. ومن قبضَ على السر، دانت له تفاصيلُ الزمن اليوميِّ، فامتلكها، وسيطر عليها، فأصبحت ساحةً لممارساته الروحية التي أدهشت، فكان الداهش.
في ديوانه "القلب المحطم" يُلقي الضوء على وجوده في عالم لا يُنالُ، ولا يصلُ إليه إلا المختارون؛ فهو بعيدٌ موغلٌ في البعد: "... إذ إنني أكون بعيدًا، موغلاً في البعد عن عالمك هذا. وسأكون، يا أخي، في عالمٍ لا أستطيعُ له وصفاً وتعريفًا". ولذا يصلُ به الانفصالُ إلى الثورة. ففي قطعته "أنا ثائر" التي كتبها في القدس عام 1939 يقول:
"أنا ثائرٌ على الطبيعة، شمسها وقمرها وأفلاكها.
"أنا ثائرٌ، وسأظلُ ثائرًا حتى تثور لثورتي الكائنات"
إنه يريدُ أن يغير وجهَ هذا العالم، معتمدًا على التيارات الروحية المتعددة التي تتقاطعُ فيه: "يا أشباح نفسي الخفية، أيتها الطيوفُ الأثيرية، أيتها المادةُ المجهولة...
أضرعُ إليك أن تُلهميني السير على النهج القويم".
وهكذا، لا يُمكن أن نلِجَ مساحاته الشعرية قبل أن نحاول أن ندركَ كُنه ذاته العصية على الفهم والمكشوفة كالضوء الروحاني.
وفي ديوانه "أناشيدي" يفتحُ أمامنا بابَ معراجه إلى "مدينة الأنبياء والرسُل" حيث ينهلُ من هناك رؤاه التي لا تخطرُ على بال، ولا يُدركها إلا من أُلهم المنال الأعلى والرؤيا الصاعقة التي إن أُخِذ إليه من غير أهلها صُعقَ، ولا عادَ إلى نفسه فكان (المخبول) الذي رادَ (المجهول).
يقول داهش: "ويستمرُّ اختراقي لأجواز الفضاء اللانهائي، مشاهدًا كواكبَ سماوية وعوالمَ عُلوية". فمَن كانت هذه رحلتَه، فما هي آفاقُ شِعره...؟! البعيد البعيد. ويقول:
"أيّثها القمر،
يا ابن السماء ويا رسول الله،
أيّثها السابحُ في أوقيانوس الفضاء،
يا سميرَ العشاق والشعراء،
أيّثها الزروقُ الإلهي يسري سابحًا في ممالك الزرقاء..."
هكذا يرى القمر. وللمرة الأولى في الشعر الكوني يكونُ القمرُ رسولاً إلهيًّا وزورقًا يسري في ممالك السماء.
يقف العقل عند عتبةٍ يجتازُها داهش ليعبر، بجسدٍ يتسعُ لأرواحٍ كثيرة، إلى مكان لا تُدركُه الجهات، ولا يحدُّه وجودٌ كثيفٌ آخر.
في 21/4/2009