العميد الدكتور أنيس مُسَلِّم
صحافيٌّ وجامعيٌّ لبنانيّ. يحمل دكتواره دولة في العلوم السياسية من جامعة باريس (1974). تولى عمادة كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، وإدارة فروعها في البقاع. رأس تحرير جريدة "البلاد" الزحلية (1952 – و1979)، وكان صاحبها. حاضر وشارك في عدة مؤتمرات عُقدت في لبنان وخارجه. من مؤلفاته: "الصحافة اللبنانية محطات ومفارق" (1984)، "هواجس" (1998)، "تساؤلات" و"سلة الفاكهة" لطاغور (1999). وله أبحاثُ ومقالات كثيرة منشورة في الصحف.
الدكتور داهش كما لا أزال أذكرُه
سمعتُ الكثير من أخباره الطريفة، وتحدثتُ غير مرةٍ عنه، وزرتهُ في بيته برفقة الزميل الصديق جان بخاش والمرحومين: الشاعر خليل فرحات والزميل جميل ألوف. ومن يومها وأنا أترجحُ بين الوهم والحقيقة، ولا أجدُ الحد الفاصل بين التخيل والتذكر. وما أكتبه، الساعة، لا يشذُّ عن هذا المنحى.
لم أعد أذكر هل حدثني عنه الشاعر حليم دمُّوس؛ وقد كان يتردد، أواخر الخمسينيات، إلى مكتبي في زحلة، أيام الصيف. على أنني لا أنسى، أبدًا ما كان ينقله إليَّ من أخباره نسيباي الدكتور موريس معلوف – رحمهُ الله – وموسى دياب المعلوف – مَدَّ الله بعمره. فقد سأل الدكتور داهش موريس ذات يوم: من هو أحب إنسانٍ رحل عنك عنكَ وتودُّ رؤيته؟" فأجابه على الفور: "جدتي سليمة." فقال له الدكتور داهش: "سأريك إياها شرط ألا تلمسها أو تتحدث إليها. "قبل موريس الشرط. وما هي إلا دقائق حتى رأى جدته سليمة تدخلُ من الباب، كما اعتادَ أن يراها في بيت والديه، وبالرداء عينه!
لدى الدكتور داهش، كما لدى معظم العظماء من فنانين وأُدباء وشعراء ورجالِ فكر، نزعةٌ قوية إلى العدالة، يرفدُها حِسٌّ إنسانيٌ سامٍ يُعبِّرونَ عنهُ، غالبًا، بازدراءِ الكبرياء واحتقار المال وعطفٍ لا يحد على الفقراء والبسطاء والمنبوذين. لنسمعه يردد في إحدى قصائده النثرية:
"أنا أحتقر شرائعكم وقوانينكم، آراءكم ومعتقداتكم.
أنا أحتقر مطامعكم ومطامحكم، بواطنكم وظواهركم...
أنا أحتقر فضَّتكم وذهبكم، نارضكم ودخانكم."1
يؤكد الذين يوثقُ بكلامهم أن الدكتور داهش كان يتصرفُ كفنانٍ وقياديٍّ يطمأنُّ إلى شجاعته وبصيرته ورجاحة رأيه. لم يتحدث، يومًا، عن شاعريته وطاقاته الهائلة، بل كان يدعُ الآخرين يبوحونَ بما أتاه من أعمالٍ خارقةٍ لا يأتيها غيرُ الموهوبين, ويعجزُ العاديون عن فهم طبيعتها ومختلف أبعادها.
اللافتُ، فعلاً، في هذا الرجل النادر النظير هو الإخاءُ، البينُ والثابت، بين أتباعه، وهو الذي صارَ يسيرًا وعسيرًا في أيامنا المُترعة بالأذى وسوءِ الظنِّ. ولعل هذا ما حمل الشيخ عبد الله العلايلي على تشبيه الداهشيين بإخوان الصفاء، مُبديًا عميقَ إعجابه بأُلفتهم وصفوِ نفوسهم ومتانةِ علاقتهم، فقال: "لقد امتلكني، حقًا، ما تواصلَ بينهم ] رفاق داهش وأتباعه[ من إخاءٍ، وما تعاقد بين قلوبهم من وِدٍّ... في دُنيا جمحت بالإنسان عن قاعدةٍ إنسانية، لتستوي به على قاعدة دناوتها."2
ولأنه رفضً بحزمٍ أن يُخضع الإنسانُ إلى حالاتٍ خاطئةٍ وحاجاتٍ مختلفة ومزورة، فقد سعى، على مدى حياته، إلى أن يعيش وأتباعه الحاضرَ بكثافةٍ ورويةٍ لا تتجاوزان الحدود، ولا تُسيئان إلى توازُن الشخص النفسيِّ والاجتماعي.
الزُّهدُ والتقشُّفُ والبساطةُ في العيشِ... لم تُبعدهُ عن الرواقية، ولا أفقدته روحانيته المثلى وإيمانه العميق بالله. فهو، من حيثُ زُهْدُه وتقشُّفُه ورزانتُه وصلابةُ مواقفه، أقربُ إلى الرواقيين. ولأنه عانى حالاتٍ عسِرةً ومعقدةً، ثابرَ على البحث عن الطرق والأساليب التي تجعلُ الحياة أسهل على الناس ومحتملةً في الظروف الصعبة.
--------------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "ناثر وشاىعر"، والجزء الأول (دار النار والنور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1984)، ص 231.
2- الشيخ عبد الله العلايلي: "كيف عرفتُ الدكتور داهش" (دار النسر المُحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979)، ص 46.
----------------------------------------------------
لهذا حاول، جاهدًا، أن يؤمن لتلامذة أوفر شروط الطمأنينة والسالم الروحيين، أي أن يُعينهم على التحرر من الرعب الوراثي من القدر والموت، ويبسط لهم فهم قيمةِ الزمن. فمن يتغلب على الخوف ويعلُ على جراحه وآلامِه، يستمتعُ بوجوده. إن مثل هذه "السعادة" يستحيلُ أن يبلغها إلا من تألم كثيرًا، كما يقول نيتشه الذي عانى، بدوره، أشد الآلام. ومن يقرأ كتاب الدكتور داهش "ناثر وشاعر" يدرِكُ ما عناه نتشه. لنسمعه:
"نفسي حزينةٌ في صباحي وفي ديجوري
وشعورٌ غريبُ من الأسى يهيمن على كياني وىفاقي"1
فهو، حينًا، المؤمنُ المتألمُ المحزون:
"آه! تباركَ اسمُك، يا الله، يا مُخففَ حزني.
يا إلهي، لقد تحطم قلبي، وناحت مناحي نفسي في غمرة الجهاد...
يا إلهي، ولكنني بشريٌّ ضعيف؛ ورحمتُك شاملة، وحنانُك عميق، فارحمني".2
وهو، حينًا، المُدرِكُ لزوال كل شيءٍ في الكون المادي:
"كلُّ ما في الكون يسيرُ إلى التلاشي والعدم والفناء...
والأرض بما حوَتْ من حيوانٍ وإنسانٍ سيكون نصيبُها التلاشي والنسيان والعفاء"3
الأمر الذي ينسحبُ على الإنسان نفسِه:
"هكذا هي حياةُ الإنسان المسكين تتلاشى
وإذا به مفقودٌ غير موجود!".
وهو: حينًا، المتوحدُ المنتظرُ إرادةَ الله تُبعدُه عن بني البشر:
"حزينةً نفسي في أشد حزن، وملتاعةٌ في أعمق لوعة وعناء!...
وإن أيامي على هذه الأرض ليستْ إلا سلسلةً من الألم الذي استنزف دموعَ آماقي، إلى أن تشاءً (الإرادة) ردي إلى دار البقاء، دار العزاء".
----------------------------------------------------
1 "ناثر وشاعر"، ج1، ص 180.
2 المرجع نفسه، ص 189.
3 المرجع نفسه، ص 63.
4 المرجع نفسه، ص 93.
5 المرجع نفسه، ص 203.
-------------------------------------------------
على أنه لم يغرق في المادية المحضة . وعلى غرار إبيقور، لم يرَ المرأة من خلال الرحم، بل كان يحترمُها ويتعامل معها تعامل الند:
"عندما تتغلب الأحزان على نفسي المحطمة وقلبي الحزين
وعندما تتملك روحي التعسة أحزانُ الحدثان وتُرهقني بأحمالها...
أهرعُ إلى (رسمك) وأتملاَّ بنظري بعد بُعدك عني".1
وهوَ، لفرطِ وفائه، لا يرى، بعد رحيل الحبيبة، حسنًا على الأرض:
"لا أرى أية روعةٍ، بعد الآن، للطبيعة التي كانت بها النضارةُ تحف".2
إنه لا يحيا بدون الحب: من "إلى معبودتي" و"إلى من أهواها" فـ" دعوني أنساها" و"الظبيةُ النافرة" و"مُناجاةٌ في سكون الليل" و"أسمُكِ" و"أين أنتِ" و"رسمك..." ففي غزله براءةٌ وصدقٌ مجبولان بالحزن والألم. إنه يحبها في جميع الفصول، ويرى في كل فصل دعوة إىل الحب: في الربي والصيف والخريف والشتاء.3
كان يتقن تنشق طيب الأرض ونسم السماء. لهذا، جاء شعره الغزلي تعبيرا راقيا عن وجودية متسامية، عن هذا الزواج المدهش بين الأرضي والسماوي. تألم وتحمل آلامه بقدرِ ما تنعمَ بخيراتِ الأرضِ وخيورِ السماء.
من يطلع على قصائده الغزلية، يدرك كم تشي هذه برهافةِ حِسه ورحابةِ قلبهِ. وهذا، في ظني/ مؤشر يُنبئُ بأن الرجل كان كبير القلب بقدر ما كان راجح العقل ونقي الروح. ومن أروعِ ما كُتب عنه هذه الخلجةُ البهيةُ لعبد الله العلايلي: "تقع منه العينُ، أو ما تقعُ، على خلقِ استوى بنيانه (...) ورُكب عليه وجهٌ صبيح جاء نموذجًا جميلاً للطابع الشرقي، واغضح التقاسيم، ينطق بالعذوبة والبراءة والبشر".4
ما لا أزالُ أذكُره عن الرجل مثاليةٌ مُخضَّبةٌ بكآبةٍ مُحببةٍ وغيرِ مُدَّعية؛ مثالية جعلت رِفقتَه سائغةً، لذيذةً، ولكم أنست نديمة مواعيده. وبقدرِ ما كان يعير كلامه الانتباه، كان الدكتور داهش يرُدُّ ذلك أضعاًفا مُضاعفة. أما قراءتُه، فلها نكهةُ المغامرة، وأرجُ السعترِ البري الذي لا يُنسى بالهين.
---------------------------------------------------------
1 المرجع نفسه، ص 39.
2 المرجع نفسه، ص 42.
3 المرجع نفسه، الصفحات: 55 – 58.
4 "كيف عرفتُ الدكتور داهش"، ص 29.