الأستاذ سليمان تقي الدين
كاتبٌ لبنانيٌ، ومحامٍ بالاستئناف، وصحافيٌّ في جريدة "السفير" البيروتية. نائب رئيس لجنة الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان في نقابة المحامين اللبنانية. ورئيسُ "المركز المدني للمبادرة الوطنية". حقق عدة مخطوطاتٍ تاريخية، منها "الأُسر في تاريخ الشوف"، "دراسات في تاريخ الشوف"، "سجل الأحكام المذهبية الدرزية". وله، أيضًا، عدة مؤلفات في القانون والفكر السياسي والتاريخ والأدب، منها "المسألة الطائفية في لبنان"، "العرب والمسألة السياسية"، "تحوُّلات المجتمع والسياسة"، "القضاء في لبنان"، "سيرة الأديب سعيد تقي الدين".
داهش: ظاهرةٌ روحية يحاصرُها الجهل
لم أتعرَّف شخصيًا على الدكتور داهش (سليم العشي) لأنني من جيلٍ آخر. عندما صارت ظاهرةُ الدكتور داهش في أربعينات وخمسينيات القرن الماضي على كل شفةٍ ولسان، ومدار الجدل في الأوساط السياسية والثقافية، لم أكن قد وُلدت. لكن هذا الاسم كان يطرقُ سمعي دائمًا، ويحفزُني بداعي الفضول للتعرف على أفكاره وتراثه. وفي ظل الظروف السياسية والأمنية التي عصفت بلبنان على مدى عقدين من الزمن، تراجع الاهتمام بالكثير من القضايا المثيرة على الصعيد الفكري والإنساني نتيجة الانغماس بالشأن السياسي اليومين الطاغي. ومع الاستقرار النسبي، عدنا نبحثُ عن "الحقيقة" في أمورٍ كثيرة، وليس أقلها هذه الظاهراتُ الروحية الخارقة. وفي هذا المجال، لي علاقةٌ خاصة من المهم عرضُها؛ فهي ما يمكن أن يضيء على حكاية الدكتور داهش. قصتي الشخصية هي، إذاً، من صُلب الموضوع الذي نحن بصدده، أعني شهادتي في تجربة داهش.
ولدتُ في أُسرةٍ عريقة من أُسَر لبنان لها عمقٌ تاريخيٌّ ثقافيٌ ورحي؛ أسرة اشتُهرت بوجود علماء الدين فيها والمرجعيات الروحية الكبرى. فجدُّ هذه الأسرة منذ خمسمئة سنةٍ له مؤلفات فلسفية مُشتهرة. تنتمي هذه الأسرة إلى مذهب ديني هو مذهبُ "الموحدين" (الدروز) الذي له نظرتُه الخاصة والمُميزة إلى الله والكون والإنسان، وله طرائقُه الخاصة في العبادة، ويؤمنُ بالعرفان والطاقة الروحية. وفي مكتبتنا العائلية كثيرُ من الكتب (المخطوطة) التي تعالجُ قضايا علوم الفلك والفراسة وقراءة الكف وحساب الأبراج وسوى ذلك. وهذا الطائفة تؤمن وتعتقد بالتقمُّص على كثيرٍ من الغموض في أسرار هذه الفكرة.
في سنوات طفولتي الأُولى، قيل لي إنني "متقمص" لشخصٍ آخر أو إنني "نطقتُ" بذلك. أنا لم أعد أذكر هذه الواقعة. غير أن فكرة التقمّص سائدةٌ في بيئتنا الثقافية التقليدية.
وقد كنتُ، وما زلتُ أسمعُ نوادرَ عن ذلك. وقد قرأتُ فلسفةَ هذا المذهب، ولي رأيٌ خاصٌّ فيه. أما أحدُ أدباء العائلة المعاصرين المشهورين، وهو الأديب خليل تقي الدين، فكتب روايةً حول هذا الموضوع تحت عنوان "العائد" تروي إحدى قصص التقمُّص الذائعة في هذه البيئة الجبلية والتقليدية والمذهبية.
في بيئتنا هذه نسمعُ يوميًّا رواياتٍ وطرائفَ واعتقادات تكوِّن الوعي الأوليِّ لدى الجماعة. تندرجُ كل هذه الظواهر تحت عنوان القدرة الإلهية وتدخلها في حياتنا، وظواهر الروح وقوتها ودور الأولياء في استحضار أو استدعاء الملائكة في مواجهة الشر والشياطين. وفي المأثور الشعبي، تختلطُ هذه الأفكار وتتداخل.
هذه هي خلفيَّة المسرح الشخصي. لكن تجربتي كانت من نوع آخر. لقد كنتُ أشعرُ دائمًا بأنني مزاجيُّ الطبع، أتغيرُ، ولا أدري لذلك سببًا، من حال فرحٍ إلى حال حزين، أو العكس. أشعرُ باقتراب كثيرٍ من الحوادث ولو بصورةٍ ضبابيةٍ وغامضة. أهتمُّ لعلم الفلك ولِعلم الفراسة ولَما يُسمَّى الميتافيزيك والظاهرات الروحية. تأتي بعضُ الأحداث أو الوقائع لتُقوِّي لديَّ الفضولَ في خَوص ميدان البحث عن "الحقائق الروحية". وقد أعادني ذلك إلى وجوب الاطلاع على تجربة الدكتور داهش.
في مخيلتي كان داهش ("رجل الأسرار") شخصيةً شبه أسطورية. كان يُشاع أنها "تلاعبت" بمصاير بعض الشخصيات اللبنانية المهمة، سلبا كالرئيس بشاره الخوري وأنسبائه من آل شيحا وفرعون، وإيجابًا كما هي حالُ الشاعر الكبير حليم دمُّوس، أحدِ أركان هذه المدرسة، وآلِ حدَّاد. وكا كنتُ أسمعُه عن هذا الرجل (داهش) أنَّه ذو شخصياتٍ عدة حاضرةٍ في أكثر من مكان في آنٍ معًا، وأنَّ له خوارق للطبيعة أو معجزات، كما يُقال.
تابعتُ سيرة الدكتور داهش، كما تابعتُ تراثَه وقرأتُ كثيرًا من أدبه، وتعرفتُ إلى بعض أصدقائه. ما يمكن أن يستنتجه دارسُ هذه التجربة وهذا التراث هو أن داهش مدرسة روحية وظاهرةٌ وصاحبُ طاقةٍ روحية، وأن أفكاره يمكنُ إدراجُها في تيارٍ كبير، وأن هذه الأفكار كانت، وما زالت، في دائرة الاختبار المعرفي الذي يتقدم من غير أن يصل بعدُ إلى مرتبة العلم اليقينيّ. لكن المؤكد أن الظواهر التي ارتبطت بالدكتور داهش تدلُّ على حقيقةِ وجودِ "الطاقة الروحية". إلا أن الجهل قد حاصر هذه الظاهرة، وقاومَها، بدلاً من الانصباب على الإفادة منها ورعايتها. الغريبُ في الأمر أن هذه الأفكار لا تخرجُ عن دائرة الإيمان بوجود الله، والروحِ وخلودِها، والسيالات الروحية أو ما يمكنُ اعتبارهُ "الهالة" أو الطاقة، والسببية الروحية، والعدل الإلهي، والتقمُّص، ووحدة الأديان الجوهرية.
هذه الأفكار موجودةٌ لدى مذهب "الموحدين" الذين هم فرقةً دينية تعتقدُ بالكشف التدريجي التطوريَّ! للمعرفة الدينية، وبإتمام الحقيقة عبرَ هذا التطور. وبهذا المعنى، يقول أصحابُ هذا المذهب إن الدين واحد ("ينبوعٌ واحد وجداول متعددة"، كما يقول داهش)، وإنَّ المعرفة هي "بركةٌ واحدة يجتمع من حولِها المؤمنون. كلٌّ يشربُ من هذه البركة، ويقول: ما أعذَبَ ماءَها!".
لكنَّ الأهمَّ هو نظريَّةُ الانبثاق الكوني العظيم منذ ملايين السنوات، وأن الحضارات البشرية تندثر وتعودُ في نظام هائل القوة والتنظيم. أمَّا وحدةُ الوجود فهي جزءٌ مهمٌّ من فكر العِرفان الشرقيّ. ولعلَّ توقعات الدكتور داهش عن وجود الروح في النبات والجماد فكرةٌ يتقدم العِلم نحو إثباتها. يُقال إن الله يُعطي الحشرة غذاءها وهي في كنفِ الصخر!
لقد رأيتُ حشراتٍ حيَّةً في قلب الصخر، فهل كانت هذه روحَ الحشرة أم روحَ الجماد؟!
من الواضح أن سيرة داهش تدلُّ على ظهورِ علائم الطاقة الروحية لديه منذ الصغر. يعني ذلك أنها طاقةٌ فظرية لم يكتسبها، ولم يتعلمها، ولم يعرف فنون السحرة والمشعوذين. فهو، إذاً، من طرازٍ خاصٍّ، بل هو يجزمُ بعدم اقتناعهِ بالتنويم المغناطيسي، ولا بضرب المندل، ولا بمعرفة الغيب بالمعنى الذي يُمارسُه المنجمون والمبصرون. لكنه، بالتأكيد، يؤمن بوحدةِ الكون والوجود، وبجزئية وجود الإنسان الفرد أمام الخلود للنوع الإنساني. وهو يؤمن بوجود كائناتٍ عاقلة على كواكب أخرى غير الأرض. كما إنه يؤمنُ بالعدل الإلهي، ويرى في انتقال النفس، أو السيالات، من قميصٍ إلى قميص، ومن جسدٍ إلى جسد، على دورات، هو السبيلُ الوحيدُ لتحقيق العدالة ومحاسبة الإنسان على خياراته.
هذه الفلسفة ليست، في مبادئها، العامة جديدة، كما قلنأ، لكنها، مع ذلك، تتفرد بإيضاحات وتفصيلات خاصة بها. على أن المهم في تجربة داهش إيمانه بوجود طاقةٍ روحيةٍ عند الإنسان لا تتحصلُ من التعليم أو المجاهدة أو سلوكِ طُرُقٍ معينةٍ، مثلاً، يسلكُها العِبادُ الصالحون ليكتسبوا بواسطتها نوعًا من المعرفة الإشراقية (العِرفانية)، كما يعتقدون.
داهش اعتقدَ أنَّ الله وهبَه هذه القدرة، وهو حاول بواسطتها إثباتَ وجودِ الله، وإثباتَ الطاقة الروحية التي يبثُّها في بعض البشر. هو لم يدَّعِ أنه يُؤسِّسُ دينًا جديدًا أو مذهبًا، بل قال إن ظاهرةٌ من ظاهر وحدةِ الأديان وتقاطعها العميق في المسائل الجوهرية غير الطقوسية. لم يستخدم الرجلُ هذه القوة لأغراضٍ سلبية في حياته. هو لم يُسئ إلى أحد- وهذا ما يبدو في أعماله و"معجزاته" – لكنه أراد إثباتَ نفسه ووجودِه من خلال إظهارِ عناصر هذه القوة بتحويل ورقةٍ عادية إلى ورقةٍ نقدية، أو بمعرفة ما يفكر بهذا الإنسان وما يُضمِرُه أو من خلال محاطبة الآخرين من دون تواصُلٍ مادي.
إن تخلف السلطة السياسية في لبنان حاصرة، وأراد أن يطمس هذه الظاهرة، فشوهها إعلاميًا، وحاول قتلها معنويًّا وماديًّا. لكن داهش صمد وعاش عمره برغم حكاية إعدامه في إيران. لقد آمن به عددٌ من كبار القوم، واقروا بقوته، وشهدو أمثلةً حسية على هذه الطاقة الروحية.
لقد كان حَرِيًّا أن يتحول داهش إلى قيمةٍ إنسانية وعلمية، ويُصارَ إلى الإفادة من تجاربه وأفكارِه، ودرسِها والبناء عليها حقائقَ وقيمًا أخلاقية تتعلقُ بطبيعة الإنسان، والروح، ومستقبل البشرية، لكنَّ العكس هو الذي حصل.