السفير فؤاد الترك
دبلوماسي لبناني. شغل منصبَ سفير لبنان في عدَّة دُوَلٍ منها الأرجنتين وإيران وفرنسا وسويسرا. تبوأَ منصبَ الأمين العام لوزارة الخارجية اللبنانية (1983 – 1988). ترأس الوفد اللبناني الرسمي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وإلى جامعة الدول العربية في دوراتٍ متعددة، وشارك في مؤتمراتٍ واجتماعاتٍ كثيرة، إقليمية ودولية. نُشرت له محاضراتٌ ومقالاتٌ في موضوعاتٍ تاريخية واغترابية ودبلوماسية، ونُشِر عنه عدَّةُ كتب منها "سعادة السفير" (1996) و"فؤاد الترك" (2007).
رأيٌ في الظاهرة الداهشية
كنا في مقاعد الدراسة يوم طرقت أسماعنا أخبارُ الدكتور داهش وما أثاره، في أربعينيات القرن الماضي، من أخذٍ وردٍّ في الصحافة اللبنانية، ثم ما عقب ذلك من إبعادٍ أثار جدلاً ولقد اقترنَ اسمُه بما رُوي من أعمالٍ غير مألوفة كانت تجري على يديه.
والحق أن الرجل كان، ما يزال، مثارًا لكثيرٍ من الأسئلة. وليس من مطمح هذه الكلمة، في المئوية الأولى لمولده، بسطُها والإجابةُ عنها. بحسبي، في هذه المناسبة، الإشارة إلى ثلاثة أمور:
الأول أن الدكتور داهش لم يلجأ إلى فرض آرائه بالقوة أو العنف، بل كان من دُعاة حرية الفكر، بعيدًا عن الإكراه والتعسِّف. إلا أنه وُوجِه بغير ما ارتضاه، وتحديدًا في أول عهدِ الاستقلال، فجرِّد من جنسيته اللبنانية، وأُبعد من لبنان. لكن ذلك كله لم يَفُتَّ عن عضُدِه، بل زاده مَضاءً وإصراراً على ما يدعو إليه. وإذا كان قد أعاق، إلى حينٍ، نَشْرَ فكرته، فإنه لم يقضِ عليها. وهوذا التاريخ أمامنا شاهدٌ أن فكرتَه ما تزال نابضةً في قلوب أشياعه.
الأمر الثاني أن الظاهرة الداهشية لم تُدرَسْ، إلى الآن، دراسةً علميةً موضوعية برغم ما صدر في موضوعها من مؤلفات. فقد غلبَ على كثيرٍ منها النزعةُ التبشيرية، أو المقاربة الأدبية، أو المعالجة الصحافية. ولعلَّ خيرَ خطوةٍ تُتخذُ، بعد انقضاء قرنٍ على مولده، الشروع بها. وإلى أن يُقام بهذه الخطوة الضرورية، فإنه من الصعب جدًا أن يُحكم له أو عليه. ذلك أن الأحكام المرتجلة والافتراضات السطحية أمورٌ لا يُعتدُّ بها، ولا يُبنى عليها.
أما الأمر الثالث فهو أن الرجل كان ذا أبعادٍ كثيرة لا يجوزُ ردُّها إلى بُعدٍ واحد أو حصرها فيه. فإذا اختلف الناسُ في تعليل أعماله "الغريبة"، فما أحسبهم مختلفين في ثلاثةِ أبعادٍ أخرى تفرد بها: "بُعدٍ أدبيٍّ، وبُعدٍ فكريٍّ، وبُعدٍ فني. فهو، أولاً، أديبٌ خلَّف تراثًا أدبيًا لا يُستهانُ به. ولا يتسع المجالُ هنا للبحث في أدبه وتقويمه. على أننا نكتفي بالقول إنه إذا غلب على أدبه منحًى رومنسيٌّ ربما انقضى زمنُه، فإنَّ الإبداع لي وقفًا على المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها الأديب. وما يزال البابُ مُشرعًا أمام النقاد للبحث عن مكامن الإبداع في أدبه.
ثم إنَّ الرجل هو، ثانيا، صاحبُ اتجاهٍ فكريٍّ روحيٍّ يُنسَب إليه، وله مؤيدوه الكُثر. وإذا كان لكَ أن تُخالف آراءه، فإنَّ عليك أن تحترمَها، ولا سيما تلك التي تنطوي على مَنْزَعٍ إنسانيٍّ وتوحيدٍ دينيّ ما أحوجَ هذا الزمن إليهما.
وهو، أخيرا، واضعُ اللبنات الأولى لمُتحفٍ فني أقيم في قلب مدينة نيويورك. ولئن دل ذلك على شيء، فعلى توجُّهه الحضاريِّ في مخاطبة العالَم.
نأمل أن تكون هذه الذكرى مناسبةً يُبادَر فيها إلى دراسة الظاهرة الداهشية، في كل أبعادها، بتجرُّدٍ وحيادٍ وموضوعيَّة.