الدكتور مرسي سعد الدين
كاتب مصري باللغتين العربية والإنجليزية. حاز شهادة الدكتواره في علم اللغات المقارن من جامعة لندن.
شغل عدة مناصب سياسية ودبلوماسية في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان الناطق الرسمي باسم الرئيس أنور السادات خلال محادثات "كمب دايفيد". اعتزل العمل السياسيَّ عام 1981، وانصرف إلى الصحافة، فرأس تحرير عدة مجلات باللغة الإنجليزية، منها Egypt today و World Tourism. وهو اليوم من محرري الصفحة الثقافية في جريدة Al-Ahram Weekly من مؤلفاته "نشوء الأحزاب السياسية" و"حفيدتي...
وأنا" وPlain talk.
إشادةٌ برجلٍ عظيم
لا أدري كيف أبدأ بالحديث عن الدكتور داهش. هل أكتبُ عنه كمفكرٍ ومؤلف لأكثر من مئة عمل أدبي من الشعر والنثر أم أكتب عنه كرسول للسلام والحب بين الناس بصرف النظر عن دياناتهم وأوطانهم أم كمصلح اجتماعي يريد أن يرى العالم حوله يعيشُ في سلام وعدالة؟ الواقع أن الدكتور داهش هو كل هذه الأشياء مجتمعةً.
كانت معرفتي الأولى بالدكتور داهش في الثلاثينيات من القرن العشرين. وكنتُ في ذلك الوقت تلميذًا في المدرسة الثانوية، وكان والدي أستاذًا للعلوم، وكان يصحبني دائمًا إلى منزل صديقٍ له، هو أيضًا أستاذ علوم، لكنه من المؤمنين بـ "تحضير الأرواح". فقد كان يعقد في منزله الذي يقع في "الروضة"، أحد أحياء القاهرة جلساتٍ يحضرُها عددٌ من الأصدقاء، ووسيط كان يتمتع بما يطلقون عليه "الجلاء البصري". وفي إحدى تلك الجلسات قدمني والدي إلى شابٍّ في منتصف العشرينيات من عمره، يتسمُ بالوسامة وبعينين لا تستطيع أن تحدِّق إليهما أنت طويلاً. وتُحسُّ، وهو ينظرُ إليك، أنَّه يحاول أن يصلَ إلى قرارة نفسك. وتذكرتُ أني رأيتُ صورةَ هذا الشاب، وهو الدكتور داهش، في الجرائد المصرية، وعرفتُ في تلك المقابلة سرَّ نظرته النافذة.
وزارنا الدكتور داهش عدة مرات في منزلنا. وكان، هو ووالدي، يدخلان في مناقشاتٍ حول الروح والخليقة ومصير الإنسان، وفي موضوعاتٍ كانت، في ذلك الوقت، أعلى من قدرتي على الفهم. وترك الدكتور داهش مصر، ومرَّت سنواتٌ كثيرة...
وفجأةً اتصل بي صديقٌ من القاهرة لا أذكر اسمه، وقال إن لديه رسالةً من الدكتور داهش – وكنتُ في تلك الأثناء قد تخصصتُ في اللغة الإنجليزية للإذاعة المصرية برنامجًا بعنوان "تحت سحر مصر"، وأخرَ بعنوان" ديوان الشعراء" كنتُ أقدم فيه قصائد عربية حديثةً قمتُ بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية. ولعل هذا ما دعا الدكتور داهش، عن طريق الصديق اللبناني، أن يطلب إليَّ ترجمةً أحد كتبه من العربية إلى الإنجليزية.
لم يكن وقتي يسمحُ بالقيام بتلك الترجمة، فاعتذرتُ، وترك لي الصديقُ اللبنانيُّ مجموعة من مؤلفات الدكتور داهش بدأْتُ بقراءتها. ولكن لا بد لي من الاعتراف بأنني لم أستطع أن أقرأها جميعها؛ وتجدرُ الإشارة إلى أنها تزيد على مئة كتابٍ ما زلتُ أُداوم قراءتها. قرأتُ أشعارَه في "أسرار الآلهة" و"قيثارة الآلهة"، وفيهما يستعمل ما يُطلَق عليه الآن "الشعر المنثور". كما قرأتُ له أشعارًا كلاسيكية، لكنها قليلةٌ جدًّا في مؤلفاته. منها:
أيُّهـــــــــــــــــا العصفــــــــــــور غــــــــــــــــــــــنِّ تُبعــــــــــــــــــــــدِ الأشجــــــــــــــــــــــانَ عنّــــــــــــــــــــــــِي
غنِّنـــــــــــي لحنًــــــــــــــــــــــا شجيًّــــــــــــــــــــــــا وأَعِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدْه وادنُ منّــــــــــــــــــــــــــــــِي
***
أيُّهــــــــــــــــــــا العصفـــــــــــــــــــــــورُ حلِّقْ واشدــــــــــُ حُــــــــــــــــــــــــــرًّا في الفضــــــــــــــــــــــــاءْ
ليتنــــــــــــــــي مثلـــــــــــــك أَشــــــــــــــــدو إنَّ قلبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي في عنــــــــــــــــــــــــــــاءْ
وكان من الطبيعي أن أقرأ الرسائل المتبادلة بين الدكتور داهش والدكتور محمد حسين هيكل؛ وهي أكثرُ من مجرَّد رسائل عاديَّة. إنها تعكس فلسفةً عميقة ورشحًا لمفهوم الاضطهاد في عصرنا الحديث. إنَّ ما تعرَّض له الدكتور داهش على يد رئيس جمهورية لبنان الأسبق بشاره الخوري يذكرنا بمحاكم التفتيش في العصور الوسطى. وقد بيَّن مؤسس الداهشية في رسائله أسبابَ ذلك الاضطهاد ومراحلَه القانوية والتعسفية.
ولكنها (أي الرسائل)، في الوقت نفسه، تعكس عظمة الدكتور داهش في مقاومته ذلك الاضطهاد واسترداده لحقَّه بيده.
وهناك أيضًا كتبٌ تعالج الروحانيَّات، ومنها "ابتهالاتٌ خشوعيَّة" الذي يضمُّ صلواتِ الدكتور داهش وأناشيده الروحية التي يتوجه بها إلى الله، إلهِ جميع الأديان التي كان يؤمن بها. وهو يستهلُّ صلواته بأحد عشرَ ابتهالاً اقتبس معناها من مزامير النبي داود، وصاغها بأُسلوبه. وفي تلك الصوات يعترف بالضعف البشري واصطراع الخير والنشر في نفسه، ثم يستغفرُه تعالى ويستنجدُه في سحق الميول الوضيعة. ومن الأناشيد الروحية ما يناجي فيها المؤلف عالم الروح حيث النقاء والبهاء.
وبالإضافة إلى هذا العدد الكبير من المؤلفات الرائعة، فإن الدكتور داهش كان مهتمَّا بالفنون الجميلة بكل أشكالها. وقد استطاع أن يقتني ما يزيدُ على 2000 عملٍ فني، وكان أمله أن يستطيع أن يُنشئ منها في بيروت متحفًا لا يقل شأنًا عن المتاحف العالمية. ولكن أمله تحطم حين قامت الحربث الأهلية في لبنان، وصارت بيروت أطلالاً بائسة. وقد استطاع الدكتور داهش أن ينقل مُتنياته الفنية إلى الولايات المتحدة حيث قام بعضُ أصدقائه ومريديه بتحقيق حُلمه، فأقاموا "متحف داهش للفن" في شارعٍ من أكبر شوارع نيويورك. وكان على رأس هؤلاء الأصدقاء السيدة الفاضلة مرفت زاهد وابنتها أميرة. وقد وُصِف المتحف في إحدى المجلات بأنه "صندوق مجوهرات".
وقد دخل القائمون على المتحف في معركةٍ حين أرادوا الانتقال إلى مكانٍ أوسع من المقرِّ الأول، وكان أمامهم عددٌ من كبار رجال الأعمال، وكان التسابُق محاولةً جادةً وقومية. كانت بمثابة خط الدفاع العربي الأخير. وبالرغم من أن المُتحف كان الأكثر إيفاءً للشروط المطلوبة، وكان في طليعة المؤسسات المتسابقة، وفقًا لكلام الصحف، ولا سيما "النيويورك تايمز"، حتى لقد ذهبت إحداها إلى القول إن السباق بين "متحف داهش" والمنافس الأقوى هو أشبَهُ ما يكون "بمنازَلة داود لجُليات الجبار" – بالرغم من ذلك كله، لم يكسب المتحفُ المعركة – وقد دامت ست سنوات – وكسبها مُتحف آخر مغمورٌ لم يكن أصلاً في عداد المؤسسات المتسابقة. كلُّ ذلك يفيد أن الدول المتقدمة لا تخلو، هي أيضًا، من التمييز العنصري.
وليس "مُتحف داهش" مقرًا للوحات والتماثيل فقط، لكنَّه أصبح مؤسسة فنية عالمية تُلقى فيه المحاضرات، وتُنظمُ المعارض المختلفة للفن. وقد كان لي حظٌّ وشرفُ إلقاء محاضرةٍ في المُتحَف عن الاستشراق الحديث، وكان ذلك بمناسبة إقامة معرض الفنِّ الاستشراقيِّ وتأثير مصر ودول شمال إفريقيا على عددٍ من الفنانين الأوروبيين، وخاصة فناني إنجلترا وفرنسا.
وأَودُّ أن أُدوِّنَ هنا أنَّ دارًا للنشر في نيويورك باسم "الدار الداهشية" أصدرت وتُصِدر جميعَ مؤلفات الدكتور داهش، بالإضافة إلى إصدار كتبٍ بأقلامِ آخرين؛ وقد شرفني أنها نشرت لي أحد كتبي بالإنجليزية Plain Talk.
وأودُّ في النهاية أن أشارك أصدقاء الدكتور داهش ومُريديه في الاحتفال بمرور مئة عامٍ على ولادته. لقد كان الدكتور داهش عبقريًّا قلَّ أن تجود بمثله الدنيا.