عباقرةُ الإصلاح والإعلام
في كلِّ يوم نُشاهدُ عشراتِ المقابلات التلفزيونيّة، كما نسمعُ عشرات الحوارات الإذاعيّة، كذلك نقرأُ العديدَ من المقالات على صفحات المجلاّت والجرائد.
فمن سياسيّ مخضرم، يصوغُ أقكارَه بطريقة المواربة والمُداهنة ليُقنعَ المواطنين بأنّه يقول الحقيقة، وبأنّ ما يعرفُه يجهلُه الجميع، وبأنّه لا يعملُ إلاَّ الصواب، وما يفعلُه قد تعجزُ عنه الجبابرة. وما ذلك إلاّ لكَسبِه التأييدَ الشعبيّ في حملته الانتخابيّة المقبلة، أو لامتصاصِ نقمةِ الشعب وغضبه، ذلك الشعبِ المغلوب على أمره ولا حولَ له ولا قوّة. مثلُ هذا تهتمُّ به وسائلُ الإعلام!
إلى مُمثّلٍ، يصولُ ويجول على ميدان مسرحه مُعتقدًا أنَّه من أبطال هوليود، فيصنعُ من أوهامه الخرافيّة حقيقةً يُؤدّيها بأدوارٍ أُلعبانيَّة، مُتفنِّـنًا بالتعبير عنها بحركاتٍ قد تكون بهلوانيّة أحيانًا، ومُحزنة أحيانًا أخرى، وكلُّ همِّه أن يحاولَ إيصالها الى جمهوره بلغةٍ تكون أقرب الى عقولهم وميولهم، فيعبّرون له عن امتنانهم واستحسانهم بالتصفيق. مِثلُ هذا تحتفلُ به وسائطُ الإعلام!
إلى مُطرِب، يظنُّ أنَّ اللّه أنعمَ عليه بالصوت العذب والوجه الجميل والقَدِّ الرشيق والثقافة الواسعة، وليس له من ذلك شيء. فتتبنّاهُ إحدى المحطّات المرئيّة، وتبدأ ببثِّ الإعلان تلو الإعلان، والأغنية تلو الأغنية، فتارةً على قرقعة الصحون وطوراً في الأندية الليليّة، حتَّى يصبح بين المُطبِّلين والمُزمِّرين من أشهر المشاهير. فتنهالُ عليه العُروض، ويصبح من أصحاب الأموال المنقولة وغير المنقولة، ويجتمعُ بالرؤساء، ويُقلَّدُ الأوسمة، وكأنّه البطلُ المظفّر. فكيف الحال إذا كان المطربُ أُنثى، تتمايلُ فيتمايلُ المُشاهدون معها يحلمون بها! مِثلُ هذا تُصفِّقُ له الصحافةُ ومحطَّاتُ التلفزة!
إلى موسيقار، لَعِبَ بآلته الموسيقيّة، موقِّعاً ألحانًا تشدهُ الألباب! معزوفةٌ فريدة، تسمعُها، فتصعدُ بكَ إلى عالم السعادة، وتغمرُك نشوةٌ تُذكّركَ بسحر موزارت وبيتهوفن وشوبّان وغيرهم من عباقرة الموسيقى في هذا العالَم، الذين زاروا عالمنا التعيس، ثم رحلوا عنه كحُلُمِ نائم. وبينما أنت في العجب من عبقريَّةٍ محلّية طالعة، تتلقّفُ الأخبار من كلّ حدبٍ وصوب، مُعلنةً لكَ أنّ هذه الألحانَ العظيمة قد نقلها "موسيقارُنا المبدع" عن بعض أرباب الموسيقى في العالم. مِثلُ هذا تحتفي به وسائلُ الإعلام المطبوعة والمرئيَّة!
إلى أديبٍ، صاغ من بنات أفكاره عباراتٍ لا يؤمنُ بها، هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة؛ يصوغُها في قالبٍ قصصيّ، أو شعريّ، لكنَّك عند إنعام النظر فيها تراها بلغَت من الركاكة مكانًا عاليًا، ومن سخف المعاني شأوًا بعيدًا، فهي لا تُغْني ولا تُسمن، وليس لها من هدفٍ يُذكَر. اللّهم سوى المكسب الماديّ، وإذا أمكن الشهرة. مِثلُ هذا تُفسِحُ له الصحافةُ والإذاعاتُ والتليفزيونات صدرَها الواسع!
أَمّا أن تكون من أصحاب العقول النيّرة والضمير الحَيّ، ترى مشاكلَ قومك، فتحاولُ إيجادَ الحلول الصائبة لها، داعياً المجتمع للعودة إلى جذور الدين وأصوله النقيَّة، بعيداً عن العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة، وتحثُّ الجميعَ للتمسُّك بأهداب الفضيلة، ونَبذ الرذيلة؛ وتهيبُ بالإنسان ليكون أخا الإنسان بغَضِّ النظر عن لونه وفكره وإنتمائه، وتنظرُ إلى الحقِّ بعين المساواة، ومن خلال منظور العدالة ومبدإِ الحرّية، وتُنادي بأن يسري القانونُ على الجميع، فلا فرقَ بين غنيٍّ وفقير، وتاجرٍ وفاجر، وصاحبِ سلطان وابن شارع، ورجُلِ ودين ورجُل دنيا... أمَّا أن تكونَ مِثلَ هذا الداعية إلى القِيَمِ الروحيَّةِ الحقيقيَّة التي تُنقِذُ الإنسانَ من الهلاك فردًا ومُجتمعًا، فلا مجال لك لأن تُبدي رأيك ولو بينك وبين نفسك، لأنّ ذلك يُعتبر جريمةً يحاسبُ عليها القانون وتنفرُ منها الصحافة.
وأمَّا أن تكون صاحبَ قلمٍ حرٍّ، جريء، مدادُه لا ينضب، وزادُه الكتبُ السماويّة، ومَعينُه التعاليمُ الإلهيّة، يستمدُّ منها نوراً، ليملأَ العالَمَ وما فيه قسطاً وعدلاً، كما مُلئَ جَوراً وفجورا؛ أديبٌ لا يكتبُ للّهو، ولا يغرفُ إلاّ من حبر الحقيقة، ولا يكتبُ إلاّ للحقّ، ولا يخافُ أنّ يقولَ الحقّ سرّاً أو يجهرَ به على رؤوس الجماهير؛ لا يُباع لرجال السياسة، ولا يؤجَّر لرجال الدين، ولا يخضعُ إلاّ لكلمة اللّه عزّ وجلّ... أمَّا أن تكونَ مِثلَ هذا الأديب المُصلِح المثاليّ، فقد حُرِّمَ عليك أنْ تطلَّ حتَّى من نافذةٍ على أبناء هذا الوطن، بل إنَّ مؤلَّفاتكَ تستحقُّ أن تُحرَق في الساحات! أما فعلوا ذلك بكتُب جبران خليل جبران!
وأمَّا أنْ تكونَ صاحبَ إنجازاتٍ مُبدعة قلَّ مثيلُها؛ روائعُ تدلُّ على ذوقٍ رفيع، وتسمو بالنفس إلى عوالم الروح، عوالم الحقِّ والخير والجمال، وتُعيد إلى الأذهان ذكرى عباقرة الفنّ أمثال جيروم، ودوغاس، ودومنيك، وبوغورو وغيرهم، وُتضيف الى المتاحف العالميّة متحفاً أدبيًّا يُضاهيها فنّاً وجمالاً... أمَّا أن تكونَ الدكتور داهش، صاحبَ القلم الحرّ والإنجازاتِ البديعة والعقلِ النيّر والضميرِ الحَيّ والنفسِ السامية؛ المُصلح الكبير الذي خاض في غمار الأدب على مختلف أنواعه، فأربت مؤلّفاته على المئة والخمسين كتاباً، ودُرِسَ أدبُه الفذّ في جامعات الغرب، وقُدِّمَت فيه أُطروحات الماجستير والدكتوراه؛ الرجُل العصاميّ الذي أسّسَ في قلب نيويورك، عاصمة الدنيا، مُتحفًا يحملُ اسمَه، يُعتبَر من أغنى المتاحف العالميّة، وتتحدّثُ عنه الصحافة الأميركيّة بإعجاب؛ داعيةٌ روحيّ يُنادي بالإبمان بوحدة الأديان ونَبذِ الخلافات فيما بين الطوائف جميعاً... أمَّا أن يكون الدكتور داهش، رجل التعاليم المُلهَمة السامية والمُعجزات الباهرة، فوسائطُ الإعلام بمعظمها لا تُقدِمُ على نشر أفكاره ومُناقشتها، لأنَّها تخافُ صاحبَها، وليس كالحقيقة تُخاف!
فإلى متى سيبقى الإعلام في لبنان يتجاهلَ النوابغَ والعباقرة، ويقف إلى جانب السلطة العارضة الزائلة، والشهرة المزيَّفة، والقيمةِ المزوَّرة، وتحت رحمة رجال دين يرضَون ببثّ كل ما هو تافه وسخيف ويمنعون كلمة حقٍّ تُوحّد أبناءَ الوطَن، بل أبناء حميع الأديان والطوائف تحت راية الخالق الواحد! إلى متى؟