أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

عاشق الحق والمعرفة

بقلم الدكتور غازي براكس

قال المُستشرق الألمانيُّ زاخاو عن أبي الرَّيحان البيرونيّ:" إنَّهُ أعظم عقليَّة عرفها التاريخ."

 

الفصل الأول

العاشق الأبي

كان نهر جَيحون، في خوارزم، يتدفق بجلالٍ ومهابة. أمواجه تصطفق بغير عنف، وعليها تتكسرُ ظلال الأشجار، وشبح مئذنةٍ قريبةٍ ينطرح فوقها كأنه طيف عملاقٍ ماردٍ أفلت من قمقم التاريخ.

على ضفَّة النهر الكبير التي تتراقص على امتدادها أفياء الحور والصفصاف والزيزفون، والتي تغرِّد الأطيار فوق أشجارها الغنَّاء وتتلاقى إلفين إلفين، كان شاب في الثالثة والعشرين من عمره يسير وحيدًا متئدًا. أسمر الأديم، عريضُ الجبهة، سمهريُّ القوام، بسيط الرداء. عيناه النجلاوان كانتا، بين فينةٍ وأخرى، ترشقان الضفة النائية الأخرى بنظراتٍ مليَّة لا تلبث أن ترتد إلى النهر نافضةً مجراه المديد في عكس مسيره، كأنما تصعد إلى حيثُ منبعه في جبال باميرا الشاهقة المعروفة بـ"سطح العالم".

الناس الذين يعرفونه كانوا يُكنُّونه بأبي الريحان؛ فمحمد البيرونيّ كان، دون سائرِ الشبان في محيطه، يتضمخ بعطرٍ طيب كأنه فوح الورود الشذية؛ فهو خبير بالعطور والعقاقير بقدر ما هو عليم بالجغرافية والتاريخ والطب والفلك والرياضيات وسائر العلوم اليونانية. وكان يجيد من اللغات السريانية والعبرية والتركية فضلاً عن العربية والفارسية.

ولذلك هامت النساء به. وكانت الناهدات من العذارى يطمعن في نظرةٍ منه إليهن، فكن يرخين بعض النقاب عن وجوههن بحيلةٍ منهن لطيفة، علَّ عينيه تعلقان بمحاسنهن الخبيئة. وقد شاع بينهن أن إحدى الأميرات هائمة بحبه، ومع ذلك كانت كلٌّ منهن ترغب في أن يغير القدر مجراه، فيسقط النسر المحلِّق في شبكتها.

كانت يد المُبدع الأعظم قد بدأت تذرذر الألوان على قماشة الشفق وقد انتثرت فيها غميمات بيضاء تفسخت، بعد أن كانت مُلتحمة، تفسخ أمةٍ عبثت بها الأقدار العاتية. ومن المحيط اللازوردي اللانهائي تكونت تدريجيًا لوحةُ الضياء الآفل. وقف أبو الريحان، هنيهات، يتملَّى المشهد الرائع محاولاً أن ينفذ منه إلى القدرة المُبدعة التي تسيّر ذلك النير الأكبر من أفق الإشراق إلى شفق الغروب. وفجأة حانت منه التفاتةٌ إلى دوحةٍ كبيرة ما تزال أوراقها مبلولةً بالرذاذ الذي تساقط منذ حين، وقد أصابتها أشعة الشمس الأخيرة، فتلألأت وبدت شعلةٌ متوقدة كأنما الشمس قد بارحت مكانها وأوَت إليها. وكان صبي قد ربط خيطًا طويلاً بجذعها وأمسك طرفه الآخر مشدودًا إليه، وأخذ يدور حول الشجرة راسمًا على الأرض دائرة بقضيبٍ في يده. كانت لعبةً يتبارى فيها الصبية بالقفز من جذع الشجرة إلى الدائرة المرسومة حولها. كان قرص الضياء يتوارى تدريجيًا عن ناظريّ أبي الريحان، فإذا مشهدُ الصبي وهو يدور حول الشجرة المتوهِّجة مُختفيًا وراء جذعها الضخم عن عينيّ أبي الريحان يقدح ذهنه الثاقب، فتشتعل في رأسه فكرة غريبة: الشمس تدور حول الأرض الثابتة! لِمَ لا تكون الأرض تدور حول شمس ثابتة؟ أيكون بطليموس على خطأ؟ ولكن كيف أثبت ذلك؟

وإذا صوت المؤذن يعيده إلى الأرض: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسولُ الله أشهد أن محمدًا رسولُ الله...
      نفضَ أبو الريحان المكان بنظره باحثًا عن رقعةٍ من الأرض صالحةٍ للسجود. فتقدم إليها، وأدار وجهه شطر القبلة وسجد. وكان قد توضًا قبل خروجه من منزله القريب.

  • حي على الصلاة. حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على الفلاح.

وفجأة اختلط صوت المؤذن بجلبةٍ بعيدةٍ سرعان ما اشتدَّت واقتربت، وأبو الريحان لم يبدأ بعد صلاته. وإذا بجيادٍ مسرعة تصكُّ الأرض بسنابكها تتجه نحوه. فنهض وهرول بين لعلعة الأصوات الغاضبة وصراخ المتوجِّعين المتهاوين عن صهوات جيادهم وقد أصابتهم طعناتٌ نجلاء.

كان المؤذن ما يزال ماضيًا في تأذينه:

(ومِنَ الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاةِ الله؛ والله رؤوف بالعباد. يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلمِ كافة ولا تتبَّعوا خطوات الشيطان؛ إنه لكم عدوٌ مبين) (سورة البقرة: 207 – 208).

وإذا أحد الفرسان يشتم المؤذن، ويسدِّد إليه سهمًا، فيخترق عنقه، فيهوي؛ وينثني جذعه الأعلى فوق سور المئذنة القليل الارتفاع، ويتلدى رأسه ويداه إلى الخارج كعثكول من النخيل تمَّ قطافه.

يشعر أبو الريحان البيروني بالخطر الداهم يقترب إليه، فيسرع إلى مُنخسفٍ في ضفة النهر، هابطًا منه متواريًا وراء بعض الصخور عن أنظار الجنود المُتصارعين. وانتظر ريثما يهدأ خفقان قلبه ثم جعل يسترق النظر إلى المتقاتلين وقد أصبح ينظر إليهم من ورائهم. كانت مئات الجثث منطرحة هنا وهناك على طريق النهر، والدماء تسيل على الحضيض مشكِّلةً سواقي صغيرةً كانت تنصبُّ في النهر، فتصطبغ مياهه بالحمرة تدريجيًا.

وهرعت زرافات من النساء الهلعات المولولات مُحجَّباتٍ وغير محجَّبات يبحثن عن أولادهن، عن فلذات أكبادهن، في حومة العراك. وإذا بإحداهن تنتهر فارسًا مسرعًا كاد يطرحها أرضًا؛ فيرتد إليها، وينزع الحجاب عنها خطفًا، ويلتقف طفلها من بين ذراعيها عليه. فيرتد إليها ثانيةً ويبقرُ بطنها، فتتهاوى والدماءُ تنزفُ منها بغزارة.

أسرع أبو الريحان مُنحني الظهر لصيقًا بجدار النهر إلى حيث سقط الطفل، فإذا هو بجانبٍ من النهر ضحل المياه، فانتشله مغميًا عليه، مجرَّحًا مرضَّضًا. فأسرع به، وقد غاب الجندُ، نحو أمه القتيل، فعرفها. إنها جارته، أم ياسمين، فانهمرت دموعه. فتمالك نفسه وحمل جثمانها على منكبه الأيم، والدماء القانية تنزف منه على ردائه، واحتضن الطفل بذراعه اليسرى، وأسرع إلى منزله القريب.

ما إن وصل حتى صرخ مناديًا من في منزل جارته القتيل. فخرجت بضع نساءٍ مولولاتٍ متفجعات، وأدخلن جثمان المرأة إلى منزلها، بينما ولج أبو الريحان غرفته المتواضعة التي كانت تخلو من أي أثاثٍ فاخر، فمدَّد الطفل على مقعدٍ مُستطيل وبسرعةٍ تناول عطورًا وعقاقير وأخذ يدلك بها وجهه وجسمه حانيًا عليه. فانتعش الطفل واستعاد وعيه. إذا ذاك عالج أبو الريحان جراحه وضمَّدها، بينما كان الطفل ينادي: ماما!...ماما...

كانت شقيقة الطفل الكبرى، ياسمين، واقفةً قرب أخيها المُسجَّى كالشِّلوِ على المقعد، والدموع الساخنةُ تتدحرج على خديها الأسيلين، وصراخ الوجع المكبوت يكاد يفجِّر أضلاع صدرها. كانت في السادسة عشرة من عمرها كزنبقةٍ صوَّحها الهجير. فما إن صحا الطفل من غيبوبته حتى اختطفته واحتضنته بذراعيها كأنها تخاف أن يتلاشى إن كان بعيدًا عن صدرها ويديها. ولما هدأ روعها، أنحنت لتقبل يد أبي الريحان. فقال لها مُمتنعًا عنها:

- امكثي في غرفتي، يا ياسمين، ولا تدعي أخاك يرى جثمان أمك والنائحات حولها. فحسبه صدمةُ سقوطه في النهر. ما أظلم الإنسان! ما أكفر الإنسان!

- وبادر أبو الريحان إلى زاويةٍ في حجرته، وأخرج مخطوطاته الكثيرة ووضعها في كيسٍ كبير. ثم جمع ما بقي عنده من خبزٍ وفواكه مُجففة، ووضعها مع زقِّ ماء في وعاءٍ آخر. بعدئذٍ جمع عشرات من القناني والأوعية الصغيرة الملأى بالعقاقيبر أو العطور، ووضعها مع مبضعٍ ومبزلٍ وأدواتٍ طبيةٍ أخرى في كيس ثالث.

- أأنتَ راحلٌ من هنا؟

- نعم، يا ياسمين

   وحدَّق إلى وجهها وعينها الدعجاوين وخديها الأسيلين؛ ثم طبع قبلة على جبهتها، وخرج. فانحدرت دموعها كأن عقدًا من الألئ المصهورة انفرط على وجنتيها.

   كانت الظلماء قد بدأت تكفن خوارزم، وولولاتُ النساء المفجوعات تتعالى من هنا وهناك، ورياح رملية تسفعُ الوجوه.

   شقَّ أبو الريحان طريقه بين الأشجار مُلثَّمًا حتى وصل إلى ضفة النهر، فجعل يحثُّ خُطاه. وما إن سار قليلاً حتى سمع المؤذن يرتّل صلاة العشاء:

- الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر...

وفجأةً قُطِعَ المؤذن وسُمِعت صرخته وهو يهوي طعين الظهر. وإذا صوتٌ جهوري يعلو من المئذنة:

- يا أهل خوارزم، يا قوم، لقد شاء الله أن يقضى على الأمير الكافر الباغية أبي العباس ابن عراق، وأن يكتب النصر المؤزر لمأمون بن محمد، أميرنا الصالح. فليحي شاه خوارزم الجديد، مأمون بن محمد.

   فردَّدت أصواتٌ مختلطة:

- ليحيَ الشاه، ليحيَ الشاه.

   بينما كان أبو الريحان ماضيًا في سيره تلفّه أجنحة الغُراب الدَّجوجي العملاق، كانت الأميرة ريحانة تنزل من على صهوة جوادها وتدخل متلثِّمة غرفة أبي الريحان المفتوحة، فلا ترى فيها إلا الطفل المضمَّد، ثم تخرج وتدخل منزلَ ياسمين والمناحة فيه قائمة. سألت بنبرةٍ صارمةٍ عن أبي الريحان، ولم تلتفت إلى الجثَّة المُسجَّاة؛ فسكتت النساء النادبات، وحدقن إليها بنظراتٍ صارمة غاضبة وقد عرفنَها لأنها كانت تتردَّد، في خفية، إلى منزل أبي الريحان. فعمُّها الذي أصبح شاه خوارزم الجديد، هو المُغتصب القاتل. كرَّرت السؤال عليهن، فلم تلقَ إلا الغضب الصامت المكبوت في عيونهن. وإذا ياسمين تنفرد بها في غرفة أبي الريحان انفراد نعجةٍ وجلة بذئبةٍ متضوِّرة، بعد أن شعرت بخطر الانتقام طافرًا من عيني الأميرة الزئبقيتين، فتعلمها بأن أبا الريحان رحل منذ بضع دقائق، وتشهق بالبكاء مُنطرحة على المقعد بجانب أخيها الجريح كضلعِ زنبقٍ قصفقته الريح.

فتنصرف ريحانه وتعتلي جوادها بعصبيةٍ جامحة مُنطلقة باتجاه النهر، ولا تلبث أن تلمح طيفًا يحثُ الخطى. إنه في طول أبي الريحان وفي ردائه! فتناديه وهي تحاول أن تتنسم رائحته من بعد:

- أبا الريحان، أبا الريحان.

فيلتفت وراءه وقد عرف صوتها المُميَّز، فيقف واضعًا كيسيه الباهظين على الأرض.

- ما جاء بكِ، يا ريحانة، في هذا الليل البهيم، وفي حومةِ الموت والدم! ما جاء بكِ حيث لا تجول إلا أشباحُ الموتى!

- قلبي، يا أبا الريحان، قلبي. أسرعتُ أبحث عنك، وقلبي من الخوف عليك يكادُ يطير، يسبقني إليك. شكرًا لله، فالأذى لم ينلكَ.

- بل نالني يا ريحانة. فخوارزم مسقط رأسي، خوارزم التي أسميت بها أول كتبي... حفرت قبرها اليوم، ودفنت نفسها فيه. وإني لمغادرها في هذه اللحظة.

- إلى أين؟

- إلى حيث يُنصر الحقّ، ويُكرم العلم، ويُحترم الإنسان، ويُخشى الله.

- أخشى أن لا تجد مأملك في أي مكان في الأرض، يا أبا الريحان.

- إذ ذاك لن آسف على حياتي.

- وريحانة... أتتخلى عنها؟ اتدعها فريسة لوحوش الهواجس والمخاوف؟ أتتركها كأرملةٍ تندب حظها في وحدتها القاسية؟

وتترجَّل ريحانة وتقترب منه محاولةٌ ضمه وتقبيله، فينكض عنها متأبيا؛ فتسأله مُتعجِّبة؟

- ما الذي غيرك، يا أبا الريحان؟

- الدمُ المسفوح غيَّرني. الدم الذي لطخ ردائي غيَّرني. الطفل الذي قذف به عمك في النهر غيَّرني. المؤذن الذي قُتِل وهو يُرتل كلامَ الله غيَّرني.

- إنها حال المسلمين يا أبا الريحان. إنها حال المسلمين.

- لعن الله كل منافق.

- وأين ذهبت كلماتُك المعسولة لي: "صوتك، يا ريحانة، سيبقى يصدحُ في ضميري، ووجهك سيبقى ساطعًا في خيالي، وعاطفتكِ ستبقى متأججة مع الدماء في شراييني!" أذهبت كلها أدراجَ الرياح؟

- أخاف أن تكون الرياح القاتلة قد بدأت تعصف بها.

- تعال إلى منزلي، فأطعمك من خبزي، وأحميك بجفوني، وآمُر جواريَّ فيخدمنك. فأنت تعرف أن الشاه الجديد هو عمِّي ولي دالةٌ عليه، فأقربك إليه. دعني أضمُّك فيزيل حناني العنف الذي رأيته.

وتحاول ضمّه مُجدَّدًا، فينفر مُستعليًا قائلًا:

- الوداع يا ريحانة... أنا ابن الصحائف السود، وأنتِ ابنة الأمراء السود، وقلَّما اطمأنَّ أميرٌ لكتاب.

- إنك لمُتكبّر...

- على الشر والطمع والباطل.

_ إنكَ لعنيد...

- في التمسُّك بالحقّ.

- بالله عليك يا أبا الريحان، أرفق بي وبحالك، فأنت في الثالثة والعشرين من عمرك، وفي فجر مجدك الأدبيّ، فلا تسلم نفسك للتشرُّد والفقر والضيق، وأنا قادرة على أن أغمرك بالعطف والغنى والمجد.

- لا كان المجد بلا علم، يا ريحانة، ولا كان الغنى بلا كرام. فالوداع.

وحثَّ أبو الريحان خطاه نائيًا عنها فامتطت جوادها، ومن على صهوته حدجته بنظرة عُقابٍ كاسرة. أما هو فمضى يغذُّ سيره مُسابقًا كتائب الليل الفاحمة المتدافعة حتى أعياه التعب، فقعد يرتاح متكئًا إلى جذع شجرة على ضفة النهر. وإذا بعواء بنات آوى يطرق سمعه بين الفينة والأخرى... ثم تتناهى إلى أذنيه أصواتٍ الخنازير البرية والثعالب. فيخالجه الوجل لحظات، لكنه يتمالك نفسه إذ يتذكر أن في كيسه مُديةً كبيرة يمكنه استخدامها للدفاع عن نفسه، إذا اضطر إلى ذلك، فيخرجها ويقبض عليها ويده فوق فخده. وما إن يقلّب المديَّة في يده ناظرًا إلى حدِّها حتى يراها قد تلطَّخت بالدم الذي لوث رداءه، فينفرُ من المشهد، ويُعيد المدِّية إلى كيسه قائلاً في نفسه: إن الله مُعيني – لا أريد العنف، لا أريده حتى مع الضواري. لعن الله كل قاتل.

ويرسل نظره إلى النهر متأملًا في أمواجه المُتدافعة موجه إثر موجة، فيخال إليه أنه يرى جيادًا منطلقة كوكبةً إثر كوكبة... ولا يلبث أن يتخيَّل مواكب الشعوب والعصور تتوالى على أرض خوارزم وأرض فارس. تخيَّل قورش الكبير تُحيط به مواكب جنوده يبسط سلطته على العراق وبلاد الشام وآسيا الوسطى، وتصمد مملكته طوال قرنين. وإذا بمجرى ذلك النهر البشري يشضهد أمواجًا أخرى تحمل الإسكندر الكبير وجنوده، وكأنَّ ماء النهر البشريّ تغيَّر لونه. ثم تندفع موجاتٌ بشرية أخرى حاملة البارثين فالساسانيين فالعرب. ويحلُّ الله مكان أهُورا مزدا، والنبي العربي مكان زرادشت، والسجود باتجاه القبلة مكان السجود أمام النار والكتابة العربية مكان الكتابة الفارسية... لكن الإنسان لم يتغيَّر، فالمطامع ما زالت تدفعه إلى مزيدٍ من السيطرة والمغانم والمظالم، والشر ما زال غالبًا للخير في نفسه.

لكن ترى، لماذا ولد هو في ضاحية خوارزم، ولم يولد في أثينا مثلاً؟ ولماذا ولدَ سنة 362 لهجرة النبي العربي ولم يولد في عصر النبي فيكون من صحابته؟ ليته كان تلميذًا لسقراط أو أفلاطون، ولم يولد في ديار الإسلام التي تخلَّعت وتفكَّكت، وأصبح خليفة المسلمين فيها مجرد ألعوبةٍ بأيدي الطامعين من سلاطين بني بُوَيْه. ها قد خلع الخليفة المطيع ثم خلع الخليفة الطائع. أما الخليفة القادر الذي يعيش اليوم في بغداد فاسمٌ لغير مسمى. واستدعت صور العنف في ذاكرته صور السلام، فتذكر فجأةً المعلم الهندي الحكيم، راجا، وابنته الصغيرة جونى، جونى السمراء اللطيفة التي كانت تنظر إليه بعذوبةٍ وحنانٍ وابتسامةٍ عذراء. كانت في العاشرة من عمرها. قال له راجا إذ مرَّ عليه، منذ سنة، وهو في طريقه إلى الهند إن الإنسان ما إن ينحلَّ جسده حتى  تنتقل نفسه فتتقمص جسدًا آخر. تُرى، إن صحَّ هذا، فهل كان هو إقليدس أم بطليموس؟ أم كان أرسطو أم أفلاطون؟ لا، يقول في نفسه، هذا غرور، فهم علماء عظام، والمعلم الإلهيّ أشبه بنسرٍ يُخلق فوق القمم؛ أما هو فإنه ما زال واهن الجناحين.

   وسرعان ما يردّه إلى صحوته عواء ثعلب قريب منه، فينهره، وينهض ويتابع سيره حتى يرى نفسه يخوض وعثاء الرمال – إنها الصحراء. هزيم الرياح فيها كأنه عزيف الجنّ، بل عزيف الأبالسة. لكنه يشعر أن الله معه. أليس هو يعشق الحقّ؟ والحقّ هو الله.

وإذا به يسمع لهاثَ مُرهقين أعياهما التجوال، وصوتًا مُتهدجًا يقول:

- اللهم أعنِّي... اللهم أغثني... لا حولَ ولا قوَّة إلا بك.

- من؟ أستاذي أبو نصر؟ يا لله!...

- أبو الريحان؟ أعني يا أبا الريحان... ساعدني يساعدك الله. أبقيت لديك قطرات من الماء؟

- قاتل الله الحروب والمُتحاربين، والطمع والطامعين... هاك اشرب.

- الحمد الله... لولاك لمتُّ إعياءً وعطشًا في هذه الصحراء... شكرًا لك.

- أتشكرني على قطرات من الماء، وأنت قد سقيتني دنانًا من العلوم، يا أبا نصر؟

- عجبًا لك يا أبا الريحان، كنت أحسبك ممن شملتهم نعمةُ الأسرة المالكة جديدًا في خوارزم، فإذا بك تضرب مثلي هاربًا في صحراء جرجان! إذا أنا قررتُ، فأني نسيب شاه خوارزم القتيل، أما أنت فالفرصة الذهبية كانت سانحةً لك لتصاهر أمراء آل مأمون؛ فأمرك، والله غريب!

- ليسَ أمري الغريب، بل أنا الغريب، أنا الغريب في وطني، لأني لا أرتاح للانتماء لبلدٍ يتناهبهُ الغاصبون، ويتناوشُه الوصوليون والطامعون، فلا ينجم عن حروبهم إلا البؤس والخراب، وهروب العلماء، وضياع الكتب الثمينة، وتبدُّد كنز الفكر، وتشرُّد الآباء والأبناء، وتيتّم الأطفال وترمّل النساء. أجل، أنا الغريب في وطني، يا أستاذي.

- لا تدعني أستاذك بعد اليوم. فإنك على صغر سنك، أستاذ في العلوم. وكتابك "التَّفهيم لأوائل صناعة التنجيم" قد سارَ صيته في البلاد، واكسبك المجد والفخار.

- "التَّفهيم لأوائل صناعة التنجيم" كتاب العقل الذي أثمرته العاطفة فأهديته إلى ريحانة ابنة الحسين.

- ابنة شقيق الشاه الجديد!... وأنت لم تعرف أ، تستفيد من منزلتك العزيزة عندها، مع أنَّ كتابك النفيس أحدث إهداؤهُ لها ضجَّةً في البلاط وبين العلماء والأدباء!

- كما أحدث جُرحًا في قلبي ما زال ينزف حتى هذه اللحظة.

- أوَتُحبُ معشوقتك إلى هذا الحدّ؟

- بل إلى ما بعد الحدّ.

- سامحك الله، يا أبا الريحان. ما دمت تهواها صادقًا، فلماذا لم تبقَ بقربها في خُوارزم، وهكذا تُصاهر الأسرة المالكة من آل مأمون؟

- لأن العروس التي سأتزوّجها ليست من لحمٍ ودم.

- ليست من لحمٍ ودم! وما عساها تكون؟

- إنها عروسٌ لا أرتوي من رُضاب فمها، ولا أملُّ من تملِّي نور وجهها، ولا أسأم من الإصغاء إلى موسيقى صوتها، ولا أضجر من الاستماع إلى حكمةِ عقلها، ولا أشبع من خبز يديها!

   - عجيب والله وصفك لها! ومن تكون هذه العروس الخارقة؟

- إنها المعرفة... المعرفة. ريحانة أحبّها... لكن المعرفة أحبُّها أكثر.

واستمرَّ أبو الريحان البيروني سائرًا يخوض مجاهل الصحراء, ويقتحم مخاوف الظلماء، والأكياس الثقيلة الثلاثة على ظهره ومنكبيه، وأستاذه أبو نصر إلى جانبه يتوكأ عليه، والأحداث الدامية كزوبعةٍ تدوم في رأسه...

حتى مضى الهزيع الثاني من الليل. فشعر الإثنان أن طاقتهما قد نفدت، فتهاويا متمدِّدين في كنف كثيبٍ من الرمل. وثقلت أجفانهما. وما كادا يستسلمان لسلطان النوم حتى نبههما كشيشُ حيةٍ كانت تنساب بين الرمال قربهما، فنهضا مذعورين. وبادر أبو نصر فقبض على هراوته الغليظة ليحطم رأسها؛ فأخذت تُنضِنض لسانها وتُعلي فحيحها. فإذا أبو الريحان يُنهي صاحبه عن قتلها وينصحه بالابتعاد عنها قائلاً له:

- لا، لا تبادر إلى استعدائها. فإذا كان في كتاب الأقدار أنك لا تستحق نابها، فإنها لن تلدغك.

وابتعدت الحيَّة وتلاشى قشيشها. وكانت تارةً تتغلغل في طياتِ الرمال، وطورًا تتعرج على سطحها تعرج نزوات البشر وأفكارهم السوداء.

بقي الرفيقان صاحيين مُرهقين تساورهما شتى الهواجس حتى انهلَّت خيوط الفجر الأولى وكأنها ذلاذل معرضٍ عظيم فضفاضٍ هدَّلتها فوق الغبراء إلاهه الضياء. وإذا بهما يسمعان هسهسة بعيدة؛ فاعتلى أبو الريحان الكثيب واستشرف البعيد، فلاحت له قافلة من الجمال كانت تمخر في البحار الرملية كأنها زوارق الخلاص.

   ما إن وصلت إليها حتى التحقا بها، بعد أن اتَّفقا مع صاحبها على أن يوصلهما إلى جرجان. فأنيخ جملٌ، واعتلاه العالمان.

وبعد عدة ساعاتٍ من مُعاناة الهجير، وصلا إلى المدينة. فتعانقا وافترقا.

وقعت هذه الأحداث سنة 385/995م.

الفصل الثاني

مجلس العلماء

بحث أبو الريحان في جرجان عن بيت صغير يكتريه، فوفِّق إلى غرفةٍ واسعة لكن بخسةِ الثمن، في ضاحيةِ جرجان حيث يكثر الأولاد والدواب في الأزقة، ويعلو اللغط والضجيج. فاتَّكل على الله، وسأله أن يُلهمه الصبر والقوة ليتغلَّب على محنته. وبالمال القليل الذي أذخره ابتاع سراجًا وبساطًا وقصعتين، وفراشاًا ولحافًا ووسادة، ومقعدًا ومنضدة، وزنبيلاً وإبريقًا من الفخار. تلك كانت كل أثاث بيته.

      وإذ غمر الليل الكائنات بعباءته السوداء انطرح أبو الريحان على فراشه منهوك القوى، وأخذته سُنَّةُ النوم الرفيق. وما ارتاح إلا ساعاتٍ قليلة حتى طرق مسمعيه صياحُ الديوك، فنباحُ الكلاب، فنقيق الدجاج، فطقطقةُ حوافر الدواب، فثغاء الشياه، فخوارُ البقر – كل ذلك مختلطًا بأصوات البائعين وأقسامهم الكاذبة، وبكاء الأطفال ونشيجهم، ورغاء الإبل وجعجعتها، وحمحمة الخيل وتصهالها... فاستعاذ بالله، واستعظم الأمر، وبدا له كأنَّه يوم الحشر!...

      في تلك الغرفة الحقيرة المُكتنفة بكل ما يُشتت الذهن، انقطع أبو الريحان للقراءة الصعبة نهارًا، وللتأمل والتفكّر والكتابة ليلاً. وكثيراً ما كان في أثناء سهره يقطع كتابته ناظرًا إلى السراج المُنير، فتنبعثُ أشباح الأحداث الماضية من خلال لهيبه، فيسترسل في تحديقه إليه حتى ينفصل عن نوره شبه طيفٍ سرعان ما تولد منه أحاسيسه وأشواقه ومُخيلَّته جسمًا هيوليًا تتمثّل فيه ريحانة ابنة الحسين بقامتها الفارعة وحسنها الأخاذ ونظراتها الشهَّاء؛ فيمدُ يديه في الهواء لاجتذابها وضمها، فلا يعود إلا بالخيبة والمرارة والخواء.

      ومع كرور الليالي بات لا يدري أيحبُّها أم يكرهها. أتكون شهوته الجائعة الأولى قد وجدت فيها الخبز والدسم، فاصبحت صورتها تقفز من أحاسيسه إلى خياله كلما اهتاجت رغباته؟ كان يشعر بالنفور منها إذا فكّر بعمّها وبالدماء التي سفكها. لكن ما ذنبها هي؟ قلبه كان يهتف لها ويهفو إلى ضمّها، وعقله كان يحجم مثبطًا ومرتدًا عنها. هذا التناقض في موقفه منها كان يضنيه.

      وتوالت الأشهر وهو على هذه الحال، ثم داخلته انتفاضة نفسية، فصمَّم على تناسي شؤون القلب من أجل تنمية العقل. فوحدها العلوم، وحدها المعرفة جديرة بالعناء والقلق والسهر. فسعى في جرجان حتى تعرّف إلى عالمها الكبير، أبي سهل عيسى المسيحي، الطبيب والفلكي وعالم الرياضيات، فتتلمذ عليه.

      وانطوت في ذمّة الأبد أربعة أعوامٍ وأمراء أل مأمون يسيطرون على مدينتي كاث وجرجانية وسائر إقليم خوارزم، بينما كان أبو الريحان البيروني يلتهم العلوم التهامًا، ويكتب فيها حتى استوى له، وهو في السابعة والعشرين من عمره، سبعة كتب بينها مؤلف نفيس سارت شهرته، هو "الآثار الباقية عن القرون الخالية". وذاع صيته في الآفاق حتى شرع علماء عصره يؤمُّونه كأنه كعبة المعرفة.

      وذات يومٍ زاره استاذه أبو سهل المسيحي، فوجد لديه آلة غريبة:

  • ما هذه الآلة، يا أبا الريحان؟
  • آلة ابتكرتها لضبط أوقات الصلاة، يا ابا سهل
  • هي، والله، مفيدة جليلة.
  • أطلعت أحد شيوخ الدين عليها، لعلهم ينتفعون بها في ضبط أوقاتِ الصلاة، لكنه رفض استعمالها.
  • ولماذا؟
  • لأن أـسماء الأشهر الرومية منقوشة عليها، كما ترى
  • وما علاقة ذلك بالانتفاع منها؟
  • رفض الانتفاع منها لزعمه أن في استعمالها تشبيهًا بالكفار. والله إن كثيرين من رعاة الدين يفسدونه ويؤخّرون تقدمه. لقد قلت له، بعد أن تحرَّج من استعمالها: "الروم يأكلون الطعام ويشربون، فعليكم إذًا الامتناع عن أكل الطعام والشرب حتى لا تشبهوههم".
  • ما دخلَ التزمُّتُ الأعمى على دين إلا أفسده. فاللله سبحانه دعا على ألسن جميع أنبيائه ورسله إلى التسامح والغفران.
  • إن الله نور، يا أبا سهل، نور عقلي لا تراه العيون البشرية. والعلوم نور، فمن رفضها فكأنه رفضه سبحانه.
  • تعجبني في القرآن تلك الآية الرائعة القائلة:

(الله نور السماوات والأرض. مَثَلُ نوره كمشكاةٍ فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنَّها كوكبٌ دريٌّ يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكادُ زيتها يُضيء ولو لم تمسَسهُ نار، نورٌ على نور، يهدي الله لنورهِ من يشاء) (سورة النور:35). إنها حقًا مُعجزة بلاغيَّةٌ روحيَّةٌ يستحيل إلا أن يخشع لها كل عقل صاف.

  • وتعجبني عقيدة التسامح والغفران عندكم. لعمري إنها فلسفة نبيلةٌ. لكنها توجب رقيًا في الإدراك والعاطفة، وهذا لا يتهيأ إلا عند قلةٍ من الصالحين والفلاسفة ومعظم الناس ليسوا صالحين ولا فلاسفة. والحقّ أنه منذ أن اعتنق قسطنطين الفاتح المسيحية لم يكفَّ النصارى عن استعمال السيف والسوط. فعقيدة التسامح والغفران وضعها سيدنا عيسى المسيح وأخذ بها تلاميذه، لكن المسيحيين بعد قسطنطين نسوها أو تناسوها.
  • والله إنك لعلى حقّ. فبين الأدعياء والأغبياء والغلاة من رعاة الدين يضلُّ بسطاء المؤمنين.

ويسمع طرق على الباب؛ فيفتح البيروني، وإذا أبو علي ابن سينا يدخل عليهما.

  • السلام عليكما.
  • وعليك السلام، يا ابن سينا، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً.
  • - عرجت عليك يا أبا الريحان، وأنا في طريقي إلى بُخارى، بعد أن تناهت إلي أخبار علمك الغزير وفضلك الكبير في مختلف ميادين المعرفة. وقد حملت إليك رسائل فأرجو ألا تبخلَ عليَّ بالإجابة.
  • أبخل عليك ونفسك تتأجج شوقًا إلى المعرفة؟
  • إنَّ البخلَ بالعالِم من أقبحِ المظالم والمآثم، ولا يخلو سواد على بياض من فائدة جديدة تؤدي معرفتها إلى اجتلاب خير أو اجتناب ضير.
  • فيقول ابن سينا:
  • اثابك الله وشدَّد عزيمتك، يا ابا الريحان.
  • عزيمتي بل نفسي بكليّتها مقصورة على الإفادة، إذ انقضت عني لذَّة الاستفادة، وإني أرى ذلك لي من أعظم السعادة.
  • فتؤثر كلماته في أبي سهل فيقول:
  • لعمري، إن كلماتك، يا أبا الريحان، لجديرةٌ بأن تدوَّن للأجيال الآتية في أحد كتبك.

وينظر البيروني إلى ابن سينا مُتعجبًا قائلاً:

  • رسائلك السابقة إليَّ، يا ابن سينا، وأخبارُ تقدمك في العلوم جعلتني أحسبُك أكبرَ عمرًا مما أنتَ عليه. فإن لم تخني ذاكرتي، كانت رسائُلكَ تدورُ حولَ طبيعة الضوء والحرارة وانتقالهما، وحول بعض آراء أرسطو في الطبيعة وما بعد الطبيعة. اليسَ كذلك؟
  • أجل.
  • ما عمرك يا ابنَ سينا؟
  • عشرون سنة.
  • إذًا، أنا أكبرك بسبع سنوات.
  • سُرِرتُ كثيراً بتعرفي إليك، يا أبا الريحان.
  • وسُروري كان أعظم بزيارتك إذ أتاحت لي أن أتعرف إلى أصغر عالمٍ في زماننا.
  • إنك أستاذي، يا أبا الريحان، وفخري عظيم بمراسلتك ومصادقتك.
  • أنتَ تفتخر بي، وأنا أفتخر بأستاذي أبي سهل إذًا، أصبحنا متساويين.

ويضحك الثلاثة. وما إن يطمئنُّ مجلسهم على بساطٍ مُدَّ في زاوية الغرفة حتى يقول البيروني:

  • أتاني مرَّة شاعرٌ يُكنَّى بأبي حسن، يمدحني ويعظمُ حسبي ونسبي، فأجبته بأبياتٍ من الشعر أحمرتْ لها وجنتاهُ خجلاً.

فيساله أبو سهل:

  • وما قلت له؟
  • فيجيبه البيروني:
  • مما قلتُه:

وذاكرٍ في قوافي شعره حسبي         ولستُ، والله حقًا، عارفًا نسبي

إذ لستُ أعرفُ جدي حقَّ معرفةٍ       وكيف أعرفُ جدي إذ جهلت أبي؟

إني أبو لهبٍ، شيخٌ بلا أدب،         نعم، ووالدتي حمالةُ الحطب    

المدحُ والذمُ عندي،يا أبا حسنٍ،       سيَّان مثلُ استواء الجد واللعبِ

وإذا الثلاثةُ يستغرقون في الضحك.   

ثم يقول أبو سهل:

  • إنك لشديد التواضع، يا أبا الريحان.

فيجيبه:

  • العلمُ الكبير والكبرياء لا يتصاحبان، يا أبا سهل. لكني أصارحكما بأنني لا أخلو من نزواتِ الغرور. فأحيانًا يُداخلني أنني إقليدس، وأحيانًا أنني أفلاطون، فأروح أذرعُ هذه الغرفة ذهابًا وجيئةً مُتخيلِّاً أنني في رواق الَّمشائين وأمامي التلاميذ الفلاسفة يصغون إلى تعليمي.

فيبادرُ أبو سهل إلى السؤال:

  • ومن منا كان أرسطوطاليس؟

فيجيبه البيروني ضاحكًا:

  • لعله أبو علي ابن سينا.

فيغربُ الثلاثة في الضحك. وفجأة ينهض البيروني سائلاً:

  • ما رأيكما، الآن، في أن تساعداني بعملٍ ذي جدوى؟ فيجيبه الإثنان:
  • بكلِّ رضا، يا أبا الريحان.

ويتقدم البيروني إلى زاوية الغرفة المملوءة بأشياء غريبة، ويرفعُ غطاءً عن ثلاثة منها قائلاً:

  • أبو سهل يحمل هذه الآلة، وابو علي هذه العدسة الأسطوانية، وأنا أحمل القاعدة
  • فيسأله ابن سينا:
  • ألعلهُ الإسطرلاب؟

فيجيبُ البيرونيّ:

  • أجل، إنّه الأسطرلاب الأسطوانيُّ الذي ابتكرته. سنركِّبه على التلَّة المجاورة. وبه سأتابع رصدي الكواكب والنجوم. كذلك سأستعين به لتحديد بعض الأجسام النائية وارتفاعها لإكمال رسمي خريطة الأرض.
  • - خريطة للسماء وخريطة للأرض! لعمري، لقد حزتَ مجد السماء ومجد الأرض.
  • ويغرق الثلاثة في الضَّحك.
  • وأمضى أبو سهل وأبو عليّ ابن سينا الهزيع الأول من الليل وهما يساعدان البيروني في رصد الأفلاك. ولمَّا أعياهم السَّهر، عاد الثلاثة الى منزل البيرونيّ المتواضع. فدعا أبو الريجان صاحبيه الى العشاء. وبعد فراغهم من الطعام، أفاضوا في التحادث ولهيب السراج يُرقِصُ أشباح الأشياء في الغرفة المتواضعة التي شغلَت المخطوطات منها الحيِّز الأكبر.
  • قال أبو سهل:
  • ورد في الأناجيل أنَّ المسيح صُلِب، بينما ورد في القرآن أنَّه ( ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم ) " سورة النساء 157 "، فما رأيك، يا أبا الريحان، بهذا الخلاف؟ فإنّي أعرفُ أنَّك مُتسامحٌ ولا تكفِّرُ أحداً.
  • إنَّ المفسِّرين اجتهدوا كثيراً في تفسير هذه الآية وخصوصاً معنى التشبيه الوارد فيها. بعضهم قال إنَّ صورة عيسى أُلقيت على يهوذا فصُلِب مكانه، وبعضهم قال إنَّها أُلقيت على القائد الرومانيّ فصُلِبَ مكانه، وبعضُهم قال غير ذلك. لكنّي غير مطمئِنٍّ الى أيٍّ من تفسيراتهم. وهذا السرُّ قد يبقى مُغلقاً حتى يعود عيسى ابن مريم ثانيةً فيفضُّه بنفسه.
  • فيردف ابن سينا قائلاً:
  • قد ورد في الكتاب المنزل عن سيدنا عيسى:
  • (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها، واتبعوني، هذا صراط مستقيم) (سورة الزخرف:61) وهذا يؤكد عودته متى حانت الساعة. وفي أحاديث البخاري حديث شريف يقول: "والذي نفس محمدٍ بيده، ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد".

فيقول أبو سهل:

  • ما المقصود، يا ترى، من أنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية إلى آخر الحديث؟

فيجيب البيروني:

  • الأرجح أن سيدنا عيسى، متى عاد، سيعود مؤدبًا، لأن الصليب عند النصارى شارةُ الفداء والرحمة. أما الخنزير – ولحمه حرام في الإسلام – فقد يرمز إلى السلطة التي تحلِّل وتحرِّم من غير حقّ؛ والقتل، هنا، مجازي أي إبادة السلطة المعنية. أما وضع الجزية فيعني رفعها، كما لو قلت "وضع العمامة" أي رفعها. ورفع الجزية عن غير المسلمين يعني أن سيدنا عيسى، متى عاد، سيساوي بين المؤمنين داعيًا إلى الوحدة بين الأديان.

إذ ذاك يقول أبو سهل:

  • ما رأيكما في الأحلام؟

فيقول ابن سينا:

  • أكثر الأحلام أضغاث أحلام، أما الحلم ذو المعنى فلا يستطيع تأويله إلا نبي أو بار كيوسف الصديق.
  • فيردفُ أبو سهل قائلاً:
  • أو النبي دانيال الذي استطع وحده تأويل حلم الملك نبوكدنصر، بعد أن عجز السحرة والمنجمون عن تأويله.
  • فيقولُ البيروني:
  • سأقص عليكما حلمًا رأيته الليلة البارحة:

رأيتني أخوض في صحراء لا حدود لها، ولا طيف واحةٍ يلوحُ فيها. وكان الهجيرُ يكويني، والظمأ يكاد يقتلني. فسجدتُ على الرمال المحرقة التي كانت تسفعُ وجهي، ورفعتُ يديَّ أبتهلُ إلى الله وأستمطر شآبيب رحمته. وإذا بي أرى وردةً جورية تشقُ الرمال وتتفتحُ فوقها، وتأخذ ساقها تتنامى وتتعالى، وأوراقها الأرجوانية الحريرية تنبسط وتتسع حتى أصبحت وردةً عجيبةً عملاقةً كادت تملأ نصف الأفق أمامي. وكانت أشذاؤها تتفاوحُ فتملأ الصحراء.

وفجأة رأيتُ الماء يفيضُ من أفوافها البهية وينبثُ في الهواء رذاذًا في جميع الجهات، ويتساقط على وجهي؛ فأنتعش، وأفتح فمي أعبُّ من كوثره. وكان الرذاذُ ملونًا بألوانٍ عجيبة.

وإذا من قلب الوردة العملاقة تطلع بطةٌ ناصعةُ البياض باسطة جناحيها. وما إن تعلو قليلاً فوقها حتى تتحوَّل إلى لونِ العقيق الأحمر فإلى حسناء لم أرَ أجمل منها. وكانت عليها ثلاثُ غلالاتٍ متدرجة في طولها: بيضاء، فزهراء فبنفسجية. فتبسمُ لي ابتسامةً تأسرني، ومن عينيها الساحرتين يخرج شعاعان وينفذان في صدري. فتتسارعُ خفقات قلبي، ويتوارى المشهدُ عن عيني، وأستيقظ والتأثر البالغُ قد استولى عليَّ.

كان أبو الريحان يروي حلمه والانفعال بادٍ على وجهه وناطقٌ في صوته. وما إن فرغ حتى قال أبو سهل وابن سينا إنه من أعجب الأحلام وأروعها، ولكن من يستطيع تأويله؟

الفصل الثالث

وتتصاعد شهرة أبي الريحان البيروني، وتنداحُ دائرتها حتى تبلغ قصر السلطان شمس المعالي، قابوس بن وُشْمَكير، سلطان جرجان وطبرستان. وكان هذا من السلاطين القلائل الذين لا تجود دورة الحياة بهم إلا في أحقابٍ مُتباعدة من الزمن؛ فقد جمعَ إلى هيبة السلطة وبُعد النظر حبَّهُ العارمَ للأدب والعِلم، وتكريمه لأهلهما. ولم تصرفهُ شؤونُ السياسة عن الكتابة الأدبية ونظم الشعر بالعربية والفارسية؛ فوضع عدة مؤلفاتٍ، منها "كمالُ البلاغة".

كان البيروني في ريعان شبابه. وعلى صغر سنه، أصبح قبلة أنظار العلماء والأمراء. فاستدعاهُ قابوس إلى قصره للاستفادة من علمه الشَّامل. فحضر أبو الريحان، وقدم إليه كتابه الجديد "الآثارُ الباقية عن القرون الخالية".

كان المجلس حميمًا، حضره جماعة ممَّن تعني الحياة لهم أكثر من أكلٍ وشربٍ ومتعٍ حسيَّة، بينهم أبو سهل المسيحين وبضعة من الأعيان ومن أهل بيت السلطان.

وكانت العيون كلها متَّجهة إلى السلطان وهو يتصفح كتاب البيروني النفيسن إلاَّ العيون النجلاء الكحلاء؛ فوحدها كانت ترنو من وراء النقاب الشفاف إلى العالم الشاب الوسيم.

وإذا السلطان يقطع الصمت بمخاطبته البيروني:

- اعتزازي كبير بالعلماء أمثالك، يا أبا الريحان، وشكري عظيم على هديّتك النفيسة. لكن ما استرعى انتباهي فيه هو تلك الجداول التفصيلية للاشهر الفارسيَّة والعبريَّة والروميَّة والهنديَّة والتركيَّة وغيرها.

فيجيبُ البيروني:

  • أجل، بحثت في الشهر واليوم والسنة عند مختلف الأمم، وما أصاب التقاويم من تعديلٍ وتغيير. وأوضحتُ، في الكتاب، كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض. كذلك لا يُخفى عليكم أني أثبت جداول ملوك آشور وبابل والكلدان والأقباط واليونان قبل نشأة النصرانية وبعدها، وجداول ملوك الفرس قبل ظهور الإسلام، وموضوعاتٍ كثيرةً أخرى، منها ما يتعلق بالأعياد لدى الطوائف المُختلفة.

   فيعودُ السلطان إلى تصفح الكتاب ثم يقول:

  • عمل رائع لم يسبقك إليه أحد. كم عمرك، يا أبا الريحان؟
  • أمدَّ الله بعمر السلطان – سبعة وعشرون عامًا فتتشابكُ النظرات من هنا وهناك استحسانًا وتعجبًا، وتسري الهينماتُ والهمساتُ بين الحِسان المُتنقبات، وتعود عيونهن تحوم حول الشاب العالم كأنه المصباحُ المنير وهن الفراشات!

وإذا السلطان يطلب إلى البيروني أن يجلس قريبًا منه، في الجانب المخصَّص لأهل بيته. فيتقدَّم أبو الريحان ويجلس في المكان المُعيَّن شاكرًا. فيقول له السلطان:

  • يا أبا الريحان، إني، والله، أعجبت بعلمك وفضلك على صغر سنك. ولذا أردت أن استخلصك لصحبتي، على أن تكون لك الإمرةُ المُطاعة في جميع ما تشتمل عليه مملكتي.
  • فيقول البيروني:
  • شكرًا لمولانا السلطان. إنك تُنعم عليَّ بما لا تطيقه نفسي، وما لا أرغبُ فيه، إذ اعتزمتُ وقفَ نفسي على العِلم، والانقطاع للمعرفة التي تفيدُ الناس.
  • أو ترفضُ نعمتي عليكَ بأن أجعلكَ وزيري؟
  • نعمةُ السلطان من نِعَمِ الرحمان. فهلاَّ يُعفيني السلطان مما لا استحقّهُ ولا تتوقُ نفسي إليه.
  • فكر بالأمر، يا أبا الريحان، فإني مُصرٌ على أن يكون رجلُ علمٍ وفضلٍ نظيركَ وزيرًا لي ومدبرًا لشؤون مملكتي.
  • أعزَّ الله السلطان، وأدامهُ شمسًا للمعالي؛ فمولاي يُغبطُ على حُسنِ التدبير والسياسة.

وينفضُّ المجلس، فيدعو أبو سهل المسيحي أبا الريحان مُلحفًا ليكون ضيفه من أجل أن يطلعه على المخطوطات التي بحوزته. فلا يرى العالم الشابُّ مناصًا من التلبية، فيرافقه إلى منزله.

وبينما كان البيروني يتصفَّح مخطوطةً قديمة للإنجيل بالسرينية، دخلت عليهما صبية حييةٌ أحاطت وحهها المُشرق البياضٍ بمنديلٍ وردي، فبدت وهي تمشي متئدة على الزرابيِّ الزرقاء كالبدر يسير وئيدًا في دارة الفلك وقد أحاطت به غميمةٌ زهراء. كانت تمسكُ بيديها الغضتين طبقًا من الحلواء، ما لبثت أن وضعته على سهوةٍ أمام أبي الريحان، وحيَّتهُ بصوتٍ خفيضٍ مُرحِّبة.

فبادر أبو سهل مُعرفًا:

  • ابنتي مريم.

فيقول أبو الريحان مُتعجِّبًا.

  • ها أنا أقرأ عن ولادة سيدنا عيسى المسيح من العذراء مريم.

فيقول أبو سهل:

  • ومريم ابنتي عذراء.

فيبتسم أبو الريحان لها، وقد فهمَ المغزى من كلام والدها، بينما تطرق الفتاةُ رأسها خفرًا، وتحمرُّ وجنتاها. فيختلس أبو الريحان نظرةً إليها، ثم يتبعها بنظراتٍ جانبية مُماثلة. فإذا وجهها والمنديل الأزهر يحتاطه يبدو كوردةٍ تتفتحُ ملء ناظريه. وسرعان ما يتذكر الحلم العجيب الذي رآهُ. أتكون مريم هي التأويل لحلمه؟

وتداعت الوجوه في ذهنه بتداعي خواطره، وتوالت المقارنات... ريحانة وجسمها المشبوب، ياسمين وعاطفتها الصادقة، مريم وبراءتها المُدهشة!... لكن لماذا ما يزال وجه ريحانة يطلُ عليه ملحاحًا! لماذا ما تزال عيناها كنيرين ثابتين ثاقبين في خياله! ويستغرق في تأملاته... ولا ينبهه من استبحاره الخياليّ إلا صوتُ أبي سهل يقول له:

  • ما بك يا أبا الريحان، ساجي الطَّرف جامدًا؟
  • لا شيء، لا شيء.
  • ألا تأكل من الحلوى؟ مريم أعدَّتها بيديها.
  • مريم!

يقولها وكانَّما يستفيق من حلم. ويتناول قطعةً من الحلوى. فيضعها في فمه بتؤدة كأنما يقبِّل فيها يد مريم! وبعد هُنيهاتٍ من السكوت البليغ يقول أبو الريحان وقد خلت الردهةُ من مريم:

  • لا أظنَّ يا أبا سهل أن الأناجيل مثلما استقرَّ حالها عندكم تكرِّم مريم وتعظِّمها أكثر مما يفعل القرآن الكريم. فإنجيل لوقا يقول إن الملاك الذي بشرها قال لها: "السلامُ عليك، يا من حُظيت بالنعمة"، ولم يزد على ذلك في تعظيمها، بينما ورد في سورة آل عمران" وإذ قالت الملائكةُ: يا مريم، إن الله اصطفاكِ وطهَّرك، واصطفاكِ على نساء العالمين) فإذا أنعمتَ النظر في النصَّين، لرأيت تعظيم القرآن لها أكبر، إذا رفعتها الآيةُ فوق نساء العالمين كافةً، وهذا التعظيم لم يرد في الأناجيل.
  • حقٌّ ما تقوله، يا أبا الريحان. لكن التقليد المسيحي يجعل العذراء مريم أما لله.
  • ألا ترى أن نقطة الخلاف هذه لم تأتِ في الأناجيل، بل ظهرت في التقليد المسيحي مع كرور السنين؟
  • لا أخالفك في ذلك.
  • ألا ترى أن مجامع الكهنة والأحبار هي التي وضعت ذلك، وأن الأمر دخيلٌ على تعاليم المسيح وحواريِّيه؟
  • ما ذهبتَ إليه صحيح. لكن الدخيل غلبَ على الأصيل.
  • هل أنت مطمئن إلى ذلك؟
  • لا. لكنه تقليد، والتقليد أعمى.
  • والتقليد سلاحٌ تشهره العامَّة الجاهلة في وجه الحقيقة.
  • آثرَ أبو سهل الصمت على الكلام، لأنه وجد حجَّةَ البيروني دامغة، وليس لديه ما يقاومها به. وازداد إعجابه بالشاب العالم واحترامه لرأيه. وبعد انصراف البيروني،

سألت مريم والدها عن الحوار الذي دار بينه وبين أبي الريحان؛ فحدَّثها به. فجعلت تستزيده إيضاحًا والعاطفة الأنثوية الصامتة تتنامى في قلبها.

في اليوم التالي عاد السلطانُ فاستدعى البيروني، وألح عليه في اتِّخاذه وزيرًا يرعى شؤون المملكة؛ لكن العالم الشاب عاد فرجا من السلطان أن يرفع عنه هذه التبعة مُتذرعًا بأنه غير جديرٍ بها. أما السبب الحقيقي فهو أنه كان يتخوَّف من أن يبدِّد وقته الثمين في توافه الحكم وألاعيبه ونفاقه وفي عرض الجاه الكاذب، كما في اجتلاب نقمة المعارضين عليه، ذلك بدلاً من أن يملأ وقته بالبحث العلمي المُفيد.

ويشيع رفض البيروني للوزارة في البلاط. ويتعجَّب الأعيان والطامعون وذوو السلطان من أمر العالم الشاب الذي يرفض منصبًا يستميتُ كثيرون في الحصول عليه، بل يضحُّون بكلِّ نفيسٍ من أجل الحظوة بما هو دونه، لأن السلطة والجاه الدنيوي والثروة هي القيم العليا التي يطمحون إليها.

      وكانت ابنة السلطان، الأميرة جمانة، متأجِّجة الرغبة في استيزار العالم الوسيم، أشهر علماء زمانه. فقد كانت تحبُّ العلمَ وتتسقط أخبار أبي الريحان. وقد بلغها هيام الأميرة ريحانة به؛ بل إنها عرفت أن ريحانة بثَّت عيونها حوله لترصد تحركاته وتتجسَّس علاقاته. فأشعل الحسد نارًا في نفس جمانة، وزاد الكيدُ النسائي ضرامَها. فأقنعت والدها بالإصرار على استيزار أبي الريحان, وبأن يوكِلَ إليها أمرَ إقناعه. فعملَ برأيها.

      أوعزَت الأميرةُ جمانة إلى جماعةٍ مُنتخبة من جنود السلطان بأن يبحثوا في جميع أنحاء المملكة عن المخطوطات النفيسة بمختلف اللغات، وأن يحصلوا عليها من أصحابها لقاءَ تعويضٍ مالي زهيد وإلا فبالتهديد والوعيد. ثم اختارت ردهةً فيحاءَ بجوار غرفتها، فزينتها بالأرائك والطنافس والزرابيّ، وحشدت فيها مئات المخطوطات المُستحصلة فوق الرفوف وفي الخزائن وعلى المنضدات، وألحقت بالردهة غرفتين خاصَّتين، وزيَّنتهما بالأثاث الفاخر. ولما ارتاحت نفسُها لِما فعلته، طلبت إلى والدها أن يستدعي البيروني.

      حضر العالم الشاب؛ فاقتاده الحارس إلى غرفة السلطان الخاصة، لا إلى البهو حيثُ يستقبل الزائرين عادةً. فرآه وإلى جانبه جمانة وحدها، فتعجب من هذا الاستقبال الحميم.

      كانت جمانة عانسًا تكبرُ أبا الريحان ببعض سنوات. وكان نصيبها من الجمال ضئيلاً. عنيدةٌ مُترجِّلة في حركاتها ومشيتها، تتكلّم بنبرةٍ عالية، وتكثير الأوامر في حديثها... وهذا ما أبعد الخُطَّاب عنها. فالرجلُ الحصيفُ يكره أن يكون في بيته رأسان، فبالأحرى أن يكره أن تكون زوجته هي رأسه!

      كانت جمانة رافلة بأجمل ثيابها وأنفسها. تزيَّنت بعقودٍ وأقراطٍ من اللآلئ، وأحاطت معصميها وأصابعها بالأساور والخواتم الذهبية المرصَّعة بالفُصوص الكريمة، وسفرَت عن وجهها النحيل المستطيل، فبدا الكحل في عينيها كثيفًا زاد نظراتها قساوة، وطفرت الحمرةُ المصطنعة من وجنتيها كأنَّها غيرُ مرتاحةٍ إليهما، وبرزَ الخُضابُ على أظافرها الطويلة كأنه شرارٌ منذرٌ تجمَّد! ومع كل هذه الزينة المجلوبة، خلت من الجاذبية الأنثوية اللطيفة؛ لأن جاذبية المرأة المُستحبَّة تشعُّ من نفسها وتُحيطها بهالةٍ غير منظورة.

      قال السلطان للبيرونيّ، بعد أن ردَّ تحيَّته واستقرَّ على أريكةٍ مُزخرفة:

  • يا أبا الريحان، استقبلتك في غرفتي الخاصة التي لا يدخلها إلا ذويَّ لتشعر بأنك قريبٌ إليّ، وإلى عشيرتي بل أسرتي. سأخصِّصك بمنزلٍ مريحٍ في قصري، وأُسكنك معي لتكون بجانبي ليل نهار، وسأنعم عليك بالمال الوافي الكافي. وقد أكبرتُ فيك العلم وحبكَ العظيم له، فاستحصلتُ لك على مخطوطاتٍ كثيرة نفيسة. فما لك إلا أن تعمل بضع ساعات في تدبير شؤون المملكة، وتصرف وقتك الباقي في ما ترغبه من العلوم. وأصارحُكَ بأن الفضل في جمعِ مئات المخطوطات لتكون بين يديك يعود إلى شقيقتي جمانة.
  • فهي مشغوفةٌ بالعلوم شغفك بها. وهي سترافقك إلى جناحك الخاص في قصري، فآملُ أن لا ترفضَ نعمتي عليك.

ونهض السلطان حتى لا يدع للبيروني أي مجال للردّ. وقادت جمانة العالم الوسيم الواجم إلى جناحه والابتسامةُ تسيلُ على شفتيها عريضة.

فهم البيرونيّ أنه بات أشبه بأسيرٍ للسلطان قابوس، وعليه ألا يعارض مشيئته، وإلا عرَّض حياته للخطر. فكانت نفسُه حزينة كمن حُكِمَ عليه بالإعدام! لكن ما إن دخل إلى ردهة المخطوطات حتى عاوده النشاط كمَن ردَّت إليه الحياة، وغمرتَه فرحةٌ عظيمة، وداخلته نشوةٌ عجيبة، لأنه لم يتوقّع أن يرى ما رآه. فتهلَّل وجهه، وانفرجت أساريره، وقال لجمانة وهو يُقلّبُ المخطوطات بسرعة:

  • إنها بالعربية والفارسية والتركية والسريانية واليونانية... هذه جنَّتي في الدنيا. من جمعها وكيف؟ ومتى؟

فأجابته وقد رشقته بنظرةٍ نافذة:

  • أجل، يا أبا الريحان، هذه هي الجنَّة، ولا ينقصها إلا آدم وحواء.

فقال:

  • نجَّانا الله من الحيَّة.

فضحكت  جمانة واسترسلت في ضحكِها عاليًا.

 

 

الفصل الرابع

نور العقل ونارُ العاطفة

سنة 389هـ/999 م تقلَّد أبو الريحان البيروني منصب الوزارة لدى السلطان شمس المعالي قابوس بن وُشمكير. كان عمره سبعة وعشرين عامًا.

      اضطلع قسرًا بالتَّبِعة الكبيرة؛ فمن جهةٍ أدرك أنه شبه أسير، وأن معاندتهُ السلطان ستثير غضبه ونقمته، ومن جهةٍ أخرى كان يعلم أن تولي سياسة الرعية في تلك الظروف القُلَّب التي تراجع فيها العقل والعدلُ مُخلِيين الساحة لاصطراع المطامع أمرٌ محفوف بالمخاطر؛ فضلاً عن أن الحل والربط النهائيين ليسا بيده ليجري العدالة مثلما يقتضى، بل بيد السلطان وزُمرة أنسبائه. لكنَّ المعرفة المنطوية عليها مئات المخطوطات النادرة التي جُمعت ووضعت في خدمته كانت جاذبيتها الشديدة كافية ليرضى بالمغامرة بل المجازفة حتى بحياته. فالمخطوطات المُنتصبة متلازَّة على الرفوف الخشبية المزخرفة كان يتخيَّل أرواحَ أصحابها تطلُّ من خلالها فتناجيه وتحادثه وتستدعيه للمشاركة في أفضل وليمةٍ في الحياة حيث الطعام لا يبلى.

      ومرتِ الأشهر تباعًا. فكم من مظلومٍ كان يقصده، فيرفع الحيف عنه إذا كان الظالم لا يعني للسطان شيئًا؛ أما إذا متَّ إلى السلطان أو عشيرته بصلةٍ أو تملَّقهم بهدية نفيسة، فإن العدالة تزورُّ عن طريقها المستقيم غصبًا عنه. ومع مرور الزمن كثر المظلومون حتى بين الجنود صغارهم وكبارهم.

      كان أبو الريحان يتألم من العدالة الذبيح، ويشعر أن اللوم يقع عليه، فيصارحُ السلطان بأن نفسه لا تطيقُ ظلم إنسان، وأن ضميره يؤنِّبه لبقائه في منصبه، وأن الله سيجازيه إن هو لم يعدِل أو يستقِل؛ فيجيبه السلطان: "ضع تبعة هذا الأمر عليَّ في هذه الدنيا وفي يوم الدين، فهذه حالُ المسلمين".

      شِعارُ "الحقُ للقوة" كان يسودُ العالم العربي كما الإسلامي كله. والهوس بالسلطة وبالمجد الدنيوي كان كالخمرة يرنّح الرؤوس. أما نور العقل الهادئ فكاد يخبو لدى الجميع إلا في قلائل من العباقرة كانوا يشرقون في الظلماء كأنهم نيازك هابطة من السماء. من تلك النيازك كان البيروني وابن سينا في ذلك العصر.

وكثيرًا ما التقى العالمان في ديوان الوزارة، وانضمّ إليهما أستاذ البيروني أبو سهل عيسى المسيحي وأبو نصر منصور بنُ علي بن عراق، فتحادثوا وتبادلوا الآراء في مختلف العلوم المعروفة.

      وفي مطلع العام 390 هـ / 1000 م، التأمَ الشملُ بناءً على رغبة أبي سهل للاحتفاء بالألفية المسيحية؛ فأخذتِ المحادثة تنتقل من العلوم إلى السياسة فإلى الدين استطرادًا.

قال أبو سهل:

  • إن المسيحين متخوفون جدًا من ختام هذه الألف، فهم يشعرون أن السيد المسيح سيعودُ إلى الأرض، وإذ ذاكَ يحلُّ يوم القيامة؛ لكن قبل حدوث هذا الأمر لا بدَّ من وقوع مصائب وويلات كثيرة.

فيقول البيروني:

  • الويلات والنكباتُ تحلُّ بالناس مذ ظهروا على الأرض. ولم يخلُ عصرٌ من اضطراباتٍ بشريةٍ وكوارث طبيعية.

فيجيبُ أبو سهل:

  • هذا صحيح. لكن لم يحدث للناس ما يحدث اليومَ في مصر.

فسألهُ العلماء عما يحدث؛ فقال:

  • بلغنا بواسطة الكهنة والمسيحيين القادمين من مصر أن الحاكم بأمر الله الذي تولى الحكم فيها منذ أربع سنواتٍ ادَّعى أصحابه أن الله تعالى قد احتله، وبذلك أصبح تجسدًا للذات الإلهية. وقد وضع سُنةً للناس جديدة، فحرم إقامة الموائد وعزف الموسيقى ولعب الشطرنج والنزهة على ضفاف النيل. كما أمر النساء بالتزام بيوتهن. ولئلا يخرجن خفية، سنَّ عقابًا صارمًا لكل من يصنع أحذية نسائية، واصطنع عيونًا من العجائز لرصد تحركات الإناث. كذلك أكره المسيحيين واليهود على ارتداء ملابس تميّزهم عن المسلمين، وألزم رجال النصارى أن يتقلَّدوا في أعناقهم صلبانًا خشبية زنةُ كل منها خمسةُ أرطال، كما ألزمَ رجال اليهود أن يعلِّقوا بأعناقهم أجراسًا ثقيلة.

فاستفظع العلماء هذا الأمر واستنكروه، وأجمعوا على أن القرآن الكريم، بقوله"لا إكراه في الدين" يشيرُ ضمنًا إلى عدم جواز تحقير أبناء الأديان الأخرى أو تعذييهم؛ كما أكَّدوا أن الخلفاء الراشدين والخليفة الفاضل عمر بن عبد العزيز لم يلجأوا إلى إكراه أو تحقيرٍ أو تعذيبٍ لأهل الذُّمة.

وبعد صمت هنيهاتٍ من التأمّل الحزين في ما وصلت إليه حال المسلمين، قال البيروني:

- يا أبا سهل، إن أصحاب الحاكم بأمر الله ما كان ليبلغ الأمر بهم حدّ ادعاء حلول الله تعالى فيه لولا زعمُ النصارى أن عيسى المسيح – عليه السلام – هو تجسيد لله عزَّ وجَلّ. فهذا مهَّد وسيمهد مثل هذه الطريق أمام كثيرين ليعيدوا الادعاء نفسه. ألم تقل لي ذات مرة إن الكهنة يعتقدون أن الله يحلُ فيهم حينما يقومون بالطقوس الدينية؟

      فيقول أبو سهل:

      - هذا استنتاج من بعض العبارات الغامضة في كتابكم المقدس. ومن يدري؟ فقد تكون محرَّفة بفعلِ أهواء الكتبة والناقلين للأناجيل من لغةٍ إلى إخرى ولسوء فهمهم للنصوص؟ ثم أترى من الصواب والمعقول أن خالق الأكوان – عزَّ وجَلّ – يتجسدُ بشرًا ليشتمه ويهينه ويعذّبه أناسٌ جهلةٌ أنذال؟ حاشا الله، يا أبا سهل، وهو العزيز القدير، أن يستسلم خانِعًا لحثالة مخلوقاته! إن النصارى، يا أبا سهل، يتوهمون أنهم يرفعون شأن عيسى المسيح بادِّعائهم أنه هو الله، لكنهم، في الواقع، يُزرون بالله والمسيح بادعائهم أنه هو الله، لكنهم، في الواقع، يزرون بالله والمسيح بادِّعائهم هذا.

فيتدخل أبو نصر قائلاً:

- ألا ترى، يا أبا سهل، أن أبا الريحان على صواب في ما قاله من استهانة النصارى للخالق – عزَّ وجَلّ – بجعلهم إيَّاه – سبحانه – تحت رحمة  الجلاَّدين والأشرار من مخلوقاته؟ فكيف لم تخطر هذه الفكرة الجليلةُ في بال النصارى، على الأقل في بالِ المفكرين منهم، في خلال ألف سنة!

فيجيب أبو سهل:

  • بل هي خطرات في بال قلائل؛ لكن مصيرهم كان نبذهم وحرمانهم من الكنيسة. ذلك عدا استثارة السلطة الدينية للسلطات السياسية الحاكمة ضدهم. فالإكراه في الدين اصبح شرعة الأحبار المسيحيين منذ عهد الملك قسطنطين، أي منذ حوالى سبعة قرون.

فيسأل البيروني أبا سهل:

- قل لي، يا أبا سهل، هل ورد في كتابكم أيةُ عبارةٍ قال فيها سيدنا عيسى صراحةً إنه الله؟

فيجيب أبو سهل:

  • وردت عباراتٌ من مثل"أنا في الآب والآبُ في" فيقول البيرونيّ:
  • ما زلتُ أذكر هذه العبارة التي قرأتها في مخطوطة لديك بالسريانية. ولكني أذكر أيضًا أن المسيح قال لتلاميذه: "في ذلك اليوم (أي يوم عودته) تعرفون أني في أبي، وأنكم أنتم فيَّ مثلما أنا فيكم". فإذا كان الله – سبحانه – حالاً في عيسى المسيح على حد زعمكم، وعيسى حالاً في النصارى، فهل هذا يعني أن كل نصراني أصبح الله؟

فيجيب أبو سهل:

- حاشا أن يكون ذلك!

فيقولُ البيروني:

- إذا إن ما جاء في الأناجيل عن المسيح لا يؤكد أنه هو الله؛ فلا هو ادَّعى ذلك، ولا الذين كتبوا الأناجيل ادَّعوه. كل ما هنالك عباراتٌ غامضة يمكن الذهابُ في تأويلها كلّ مذهب. وإني أرى فحوى ما جاء في الآية القرآنية القائلة (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه) (النساء: 171) هو نفسه ما ورد في الأناجيل. فإذا عمدت إلى المعنى الواضح لا المؤول، فالمسيح لا يعدو أن يكون رسولاً كريمًا ونبيًا عظيمًا، أيَّدهُ الله بروح القدس وبالمُعجزات. أما الخاصتان اللتان ميزتاه عن سائر الأنبياء فهي انه "كلمة الله" و"روحٌ منه".

      إنفضَّ مجلس العلماء في ساعةٍ متأخرة، وانصرف كل منهم إلى منزله. أما أبو الريحان فقد اتَّجه إلى جناحه الخاص وفي نفسه حسرةٌ على ما آلت إليه حالُ المسلمين من جراء المُغالاة في التعصُّب لقشور الدين، وإغفال الجوهر القائم على التمسُّك بالحقّ والخير والعدالة في التعامل بين الناس وعلى التزام التعاون والتراحم والتسامح.

      وما إن ولج جناحه حتى فوجئ بوجود الأميرة جمانة في الردهة وبالمسارج وزخارف الزينة تملأها. فدُهش مما رأى، وسال الأميرة، بعد أن حيَّاها:

- ما الخبر، يا أميرتي؟

- أليس اليوم مطلع العام الألف عند النصارى؟

- وكيف عرفتِ ذلك؟

- أخبرني أبو سهل.

- وما لنا ولأعياد النصارى ونحن في ظلِّ الإسلام؟

- ألم تولِّها أنت اهتمامك في كتابك "الآثار الباقية عن القرون الخالية"؟ أفتظن أني لم أقرأه؟

- قرأته!

- أهديت كتابك "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" إلى الأميرة ريحانة ابنه الحسين، أتظنّ أني غير جديرة بكتبك؟

- معاذ الله.

      وسرعان ما شعر أبو الريحان بأن الغيرة النسائية تقرضُ قلب جمانة وتقضُّ مضجعها، وأن عليه أن يكون حكيمًا وحذرًا في التعاطي معها. وأدرك أن جمانة تستنبش أخباره مع ريحانة، وقد تلجأ إلى حيلةٍ ما لتحرِجَه. فالمرأة المحرومة من الجمال قد يُضاعف الحرمان غيرتها وأذيتها، لأن ليس لها من الحسنِ ما يعزيها ويعوضها باجتذاب قلوب الرجال إليها.

      وبعد هُنيهات سكوتٍ تتصادم فيها النظراتُ، وتتوالد من تصادُمها التماعات كأنها ومضات مُكهربة في عيني جمانة، تنفرشُ على شفتيها ابتسامةٌ عريضة، وتشيرُ إلى مائدةٍ عامرةٍ بالطيبات كانت قد أقامتها بمساعدة وصيفاتها:

- هلا تجلس فنحتفل بالعام الذي سيختم الألف المُولِّية

- إذا كانت هذه رغبة الأميرة فلا بأس:

ثم يستدرك:

  • بل لا يسعني إلاَّ الشكر على اهتمامك بشخصي.
  • أشهرٌ مرَّت، يا أبا الريحان، وأنا أصبُّ اهتمامي على جناحك وراحتك وأنت لا تبادلني ببعض ما أبذُل لك!
  • احترامي لسيدتي كبير. وماذا عساي أن أقدم إليها، وشقيقها السلطان شمسُ المعالي، والمجد يحيطها من جانبيها؟
  • أيطفئ المجد ما شبَّ في جسدي من نارٍ، يا أبا الريحان؟ قلبي قيثار، وأناته الحبيسة لا تُطلقها إلا أناملك. أفلا تشعر بنداءاتي المكتومة وأنت العالم الخبير؟

كان ذلك كافيًا ليفهم أبو الريحان أنه على وشكِ الإبحار في لجةٍ مجهولة الجهات والقرار. فاستعاذ، في نفسه، بالله.

وإذا جمانة تملأ كأسًا كبيرة بسائل أحمر، وتقدمها إلى البيروني مُلتصقة به، فيسألها:

- ما هذا؟

- عصير الفاكهة. أما قلت لي إنه مُفيد للصحة، وهو يُنضِّر الجسم؟

يشم أبو الريحان ما في الكأس، فترتسم سماتُ الدهشة على ملامح وجهه ويقول:

- أهو نبيذ؟

- سمهِ عصيراً.

- لكنه مختمر!

- وما الفرق! عصير العنب الذي تشربه طازجًا أشبه بغادةٍ صغيرة تطرى محاسن أنوثتها وهي لا تبالي؛ أما عصير الكرمة المختمر المعتق فهو كالمرأة الناضجة التي جعلها تقادم السنين مُختمرة بتجارب الحياة وحنكة الأيام. أفتفضل الثمرة الفجَّة على الغضَّة التي تكاد تتفلجُ نضجًا وتتقطر الحلاوةُ منها!

أدرك البيروني أن التشبيه الذي أعطته يوهمُ السامع بصحته، لكنه غير صحيح، وأنه إذا صارحها بما في نفسه سيُغضبها.  فأجابها بأنه غير متزمتٍ في فرائض الدين وأوامره ونواهيه، لكنه لا يحب شرب الُمسكِّرات حتى النبيذ منها، لأنها تكدرُ صفاء العقل، وهو يقدسُ العقل لأنه مفتاح العلوم البشرية.

فتقول له: "في هذا الكاس الحمراء سكبتُ عاطفتي المشبوبة، افترفضُها؟ لو قدمتها ريحانة ابنةُ الحسين إليك، أفما كنتَ جرعت الكأس وترشفت ثغر اللعينة كأسًا أخرى؟"

فيجرعُ البيروني كأس النبيذ حتى الثمالة؛ فتصبُ له كاسًا أخرى، وتجرعُ هي الثانية وتلتزُّ به.

- مِن أينَ أتيتِ بهذا النبيذ المُعتَّق؟
- من أبي سهل المسيحي. قال إنه أجتلبه من كاهن الدير. ففي أقبية الكهنة أعتقُ الخمور.

فيُتمتمُ البيروني مسائلاً نفسه: أيكون الحاكم بأمرِ الله على حقٍّ بما فعل بالنصارى وكهنتهم؟

فتستوضحه جمانة أمر الحاكم؛ فيجيبها بأنه أمر رجال النصارى بأن يتقلَّد كلّ منهم في عنقه صليبًا خشبيًا ثقيلاً جدًا. فتبادرُ إلى تطويق عنقه بذراعيها، وتستلقي عليه قائلة:

- احملني كما يحمل النصارى صلبانهم.

كانت جمانة قد أغلقت باب الردهة وأوصدته من الداخل، بعد أن صرفت وصيفتها. وأخذت سورة النبيذ تحتدُّ في دمها، ويمتدُّ دبيبها في شرايينها حتى أشعلت غريزتها الأنثوية وأطلقت انفعالاتها جامحة هائجة.

      حاول أبو الريحان أن يتمالك نفسه، ويبقى عقله رقيبًا على عواطفه، مُتحكِّمًا بانفعالاته، لكنه، وهو الصيدلي الخبير، عرفَ مقدمًا أن السورة ستمتلكه وتُقيلُ عقله من سُلطته. وإذا هو في صراعٍ بين ذاتٍ فيه أنوفٍ غاضبةٍ على جمانة والوضع الذي هو فيه وذاتٍ أخرى تسترخي رخيَّةً خائفةً مُستسلمة بين ذراعيها...

الفصل الخامس

مرت الشهور تباعًا مُثقلة بالهموم والآلام والمصاعب والمصائب التي يرزح تحتها المسلمون والمسيحيون واليهود في جميع البلدان العربية والإسلامية. فالخليفة القادر ببغداد كان حاكمًا بلا سلطة، ذلك بأن الحكم الفعلي في العراق كان لسلاطين بني بويه الفُرس، وكذلك في الأهواز وكرمان وهمذان وأصبهان. وفي حلب والموصل كانت الدولة الحمدانية، ثم استقلَّت بالموصل الدولة العقيلية. وفي بلاد الأفغان والبنجاب قامت الدولة الغزنوية، وفي مصر الدولة الفاطمية، وفي الجزائر الدولة الزيريَّة... وكما في المشرق هكذا في الأندلس؛ فهشام الثاني ارتقى العرش وهو في الثانية عشرة، فكانت السلطة الفعلية في يد الحاجب ابن أبي عامر الملقب بالمنصور، ثم في أيدي ولديه من بعده، الأمر الذي أشاع الفوضى والاضطراب؛ فإذا الأمراء يتنازعون باستمرار، ومن استقوى استقلَّ بدولته.

      كان البيروني يفكّر بوضع الجسم السياسي الإسلامي، فيراه مفككًا، مجزًا، مصابًا بكلّ مرض: الرأس لا يعمل فيه الدماغ، فهو مشلول؛ والأعضاء كل منها تساوره نوباتٌ عصبية، فتختلج وتتألم وتتحرّك بدون هدف واضح. الاضطرابات إذا نتيجة ضعف السلطة، أو نتيجة اغتصاب السلطة من قبل أناسٍ غير جديرين بها.

      كان البيروني يتخوّف من حدوث اضطرابات في جرجان وطبرستان. فالسلطان قابوس يحب العلم والأدب ويكرم أهلهما. لكن المظالم التي تحدث في الرعية قلّما تسترعي اهتمامه. فكان الوزير يتحمل أوزراها، ويبذل جهده لتقويم مجرى العدالة، لكن كثيرًا ما كانت أزمة الأمور تفلت من يده. وهكذا أمضى عامًا آخر يصرِّف شؤون الدولة لدى السلطان قابوس، وهو يعيشُ شطرًا من حياته للعلم، وشطرًا لسياسة الدولة، وشطرًا آخر كان يشعرُ أنه يذهبُ هدرًا، هو تلك الدقائق أو الساعات أحيانًا التي كانت تزحفُ فيها جمانة بجسمها الأفعواني، فتلتفُ عليه، وتتلوى وتتحوَّى، وتكويه بنارها، وتخدره بزعافها، فيلعن، في سره، الساعة التي تعرف فيها إليها، ويكاد يلعن النساء طرًّا، لأنه لم يكن يشعر بأية عاطفةٍ نحوها. فكان يُرغم إرغامًا على مخالطتها. لكن عبئها الثقيل كان يلطف في عينيه حينما يتملى مئات المخطوطات النفيسة التي ما كان له أن يحظى بالاطلاع عليها لولا جهودُها وحظوته لديها.

      وفي عيد النيروز من العام الثالث لوزارته، انسلَّت إليه الرقطاء فجرًا وهو ما زال في سريره، وظلَّت تساوره وتكايده حتى طلعت الشمس وتقدَّم النهار. وإذا السلطان يدخل على متن جواده فناء القصر، ويأمر باستدعاء الوزير من منزله. فيفاجأ البيروني بطرق الباب وبصوت الجندي يستدعيه بأمر السلطان، فيبطئ قليلاً ريثما تتوارى جمانة ويسوي شأنه.

      وينتظر السلطان بضع دقائق، وإذ يستبطئه، يتصور أن الوزير مستاءٌ لأمر ما أو ركبه استكبار، فيثني العنان نحو جناحه، ويهمُّ بالنزول عن صهوةِ جواده ليقصده، فإذا البيروني يبرز من باب منزله قائلاً:

- بالله عليك، يا مولاي، لا تفعل. فواجبٌ عليَّ أن أمثل بين يديك.

- لا، يا أبا الريحان...

العلم من أشرفِ الولاياتِ                          يأتيه كل الورى ولا يأتي

لولا الشرائع الدنيوية لما استدعيتك، يا أبا الريحان،  فالعلم يعلو ولا يُعلى.

- هذا لطفٌ وتواضعٌ من السلطان شمس المعالي. فبِمَ يأمرني مولاي؟

- نفسي راغبة بجولةٍ في الفلاة، وأود اصطحابك للاستئناس برأيك والاستفادة من علمك.

- عفوَ مولاي، ها أنذا حاضر.

- اركب هذا الجواد المُطهَّم، وابق بجانبي حتى طرف الصحراء. وانطلق السلطان ووزيره يتبعهما كوكبةٌ من الجنود. فكانت سنابكُ الخيل تصكُّ الأرض الصماء فتتعالى طقطقتها في الفضاء، وتصلصلُ الألجمة، ويخشخش السلاح، ويهرولُ المارةُ مُخلين الطريق لمن بيده السيف والصولجان.

      ولم يطلِ الوقت حتى تجاوز الموكب العمران ودخل في منبسطات الرمال. وما إن أوغلوا فيها حتى بدأت تتراءى، من بعيد، الخنازير والأرانب البرية والثعالب وبناتُ آوى والسنانيرُ الوحشية. فوتَّر السلطان قوسه وحناها وأطلق سهمًا، فحنت القوسُ، وأزَّ السهم، وإذا أرنبٌ بريٌّ طريحُ الرمال.

      ومضى السلطان في صيده يقنص أرنبًا تلو آخر حتى اصطاد خنزيرًا بريًا، فقال لوزيره.

  • الآن اطمأنت نفسي. فقد شعرتُ أني أقتلُ بعضًا من ذلك الخنزير البشري الذي جاءَ في الحديث الشريف أن سيدنا عيسى المسيح – عليه السلام – سيقتلُه متى عاد إلى الأرض. فيضحك البيروني مليًا.

ثم يترجَّل الإثنان. وينفضُ السلطان بنظره تلك الفلاةَ وما حولها قائلاً:

  • قرأت يا أبا الريحان، كتاباتٍ شتى وآراءً متضاربة عن الأرض وشكلها ومساحتها. فما رأيك أنت في ذلك؟
  • الأرض كروية الشكل، يا مولاي. ومنذ زمنٍ قريبٍ بدأت أحاول أن أقيس محيطها.
  • تقيس محيطها! كيف ذلك وأنتَ لا تبرحُ القصرَ وجواره؟
  • العلمُ قادرٌ على كل شيء. فإذا كانت الأرضُ كرويةً، فذلك يعني أنها تتكون من درجات. فإذا استطعنا أن نقيس طول درجةٍ منها، أمكننا معرفة محيط الأرض. وهذا ما حاولتُهُ أخيرًا.
  • عمل عجيبٌ، والله!

وتتشعبُ المحادثة بين السلطان ووزيره العالم الشاب، فتتناولُ النجوم والمذنبات والنيازك والظواهر الجوية، والشمس والقمر والمد والجزر، ثم الطب والصيدلة، فالأدب والتاريخ والجغراافية، فضغط السوائل وتوازنها، فالرياضيات... وفي كل ذلك كان البيروني فكرًا ثاقبًا، ورأيًا صائبًا، وموسوعًا عجيبًا.

وقبيل أن تجنح الشمس إلى الغروب، عاد السلطان وموكُبه إلى القصر.

                     ***

   في أثناء غياب البيروني عن منزله، أتى رجل يسأل عنه طالبًا إلى أحد الحراس أن يستأذن له في الدخول عليه. فأجابُه الحارسُ بأنه خرج في رفقة السلطان. فشكَّ الرجل في الأمر وطلب أن يُقابل حاجب الوزير. فأدخل إليه. ولما رآه الحاجبُ سأله عما يريد من الوزير، فأجابه بأنه شأن خاص. فخرج الحاجب بعد أن طلب إليه الانتظار ريثما يعود إليه.

   كانت الأميرة جمانة المتأجِّجة بنار الغيرة على أبي الريحان تتسقط أي خبر يمتُّ إليه، وتتخوف من عودة الصلات بينه وبين ريحانة ابنة الحسين، ولذا بثت العيون حوله، واستمالت الحاجب، وأوصته بأن يزودها فورًا بكل من يقصدُ الوزير ولا يصرح بما يريده منه. فما كان من الحاجب إلا أن قصدها وأطلعها على أمر الرجل الطارئ.

   حضرت جمانة برفقة الحاجب، وسألت الرجل عما يبتغيه من الوزير؛ فأجابها بأنه شأن خاص. فأصرَّت عليه بالتصريح عما يخفيه؛ لكنه رفض. فاستجوبة الحاجب مهددًا إياه بالسجن إن هو لم يفصح عن بُغيته. وعند امتناع الرجل ساقه إلى حجرةٍ مُعتمة تحت الأرض، وقيَّد يديه ورجليه وثبَّتهُ بالحائط، ثم عرَّى صدره وأخذ يجلده حتى أسال دمه.

   وعندما أوشك المسكين على الإغماء اعترف للحاجب بأنه مُرسل من قبل الأميرة ريحانة ابنة الحسين ليوصل رسالة منها إلى أبي الريحان. وكانت الرسالة مطوية في تِكّة سرواله. فانتزعها الحاجبُ وسلّمها مطويَّة إلى الأميرة التي كانت واقفة بجانبه تستمتع بلسعِ السياط ونهشِها لجسم الرجل المظلوم.

   بسطت جمانة الرسالة وجعلت تقرأها في سرها ونارُ الشر والغضب تتشظى من عينيها:

عزيزي أبا الريحان

مُذ غبت عنّي غابت السعادة، ومُذ جفوتني جفاني النوم، فحاجتي إليك حاجةُ الجسم إلى الروح. أفتضنُّ عليَّ بنسمة الحياة وأنت وقفت نفسك على خدمة الحياة! أنا أعرف أني أمر صغير بين يديك، وأنك معنى بأمورٍ أكبر، لكن ألست أنت القاتل: "لا تحقِّر الأمر الصغير، فللأمر الصغير موضع ينتفع به، وللأمر الكبير موقع لا يستغنى عنه".

   بلغني أن السلطان قابوس أنعم عليك ورفع مكانتك وقرّبك منه. فأنا أضمن لك مثل تلك المكانة عند عمي أبي العباس مأمون، شاه خُوارزم، فيبقى لك المجد؛ وعلاوة عليه تحظى بمن يحيطك بالحب والرعاية، وتُبعد عن عينيك اللتين تعشقان الجمال صور البوم المنفرة التي تحيط بك. أنا في انتظارك، فلا تجعلني على نارٍ لا تنطفئ.

                                                         ريحانة ابنة الحسين  

ما إن فرغت جمانة من قراءة الرسالة حتى انتزعت السوط من يد الحاجب، وانهالت ضربًا على الجسم الممزَّق كأنما ترى فيه جسد ريحانة؛ فتعالت صيحات المعذَّب حتى أُغمي عليه.

   واتفقت الأميرة والحاجب على أن يبقيا الرسول في السجن، ولا يخبرا بأمره أحدًا حتى السلطان ووزيره. ولاطفت الحاجب وطلبت إليه أن يعد هذا الأمر شخصيًا لا يعني أحدًا غيرها، وذلك من غير أن تطلعه على فحوى الرسالة. وما همَّ؟ فشأن هذا البرئ المظلوم شأن مئات المساجين الأبرياء في أقبية السلاطين والأمراء في طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها.

   كُتم خبر الرسول عن البيروني، وعادت جمانة إلى سيرتها المتفعِّية معه حتى ضاق ذرعًا بسلوكها المُنحرف، وتقزَّزت نفسه من معاشرتها، فاعتزم أن يضع لها حدًا حتى لو كلفه الأمر التخلّي عن الوزارة.

   وبعد مضي حوالى شهر على سجن رسول ريحانة ابنة الحسين، طرقت جمانة باب مخدع أبي الريحان والليل قد مضى منه الهزيعُ الثاني. كان العالم الشابُ ما يزال ساهرًا يستمتع بمعاشرة الأفذاذ ممن زاروا الأرض وأسهموا في رفع مداميك الحضارة فيها. قال لها وفي نبرته حدَّةٌ نفثها في صوته صبرهُ النافد:

  • ألا تدعيني، يا امرأة، أخلو بنفسي مع من أحب؟ فشعرت بنبرته حادةٌ كالمدية تجرحُ كبرياءها، فانتفضت قائلة:
  • تخلو بنفسك مع من تحب؟ أريحانة من النساء ولستُ منهن، يا ابن خوارزم؟
  • والله أسأت فهمي. قصدت العلماء والمُفكرين، ولم أقصد امرأة معينة.
  • بل قصدت ريحانة. مضى ما يُقاربُ ثلاثة أعوامٍ عليكَ في هذا القصر وأنا أغمرك بعطفي، وأسكبُ عليك جسدي وتحناني. وجسمكَ البالي معي، وعاطفتك مع اللعينة التي في خُوارزم.
  • غير صحيح ما تقولين. فريحانة بعيدةٌ عني، ولا صلةَ بيني وبينها، ولولا ذكركِ إياها لما خطر اسمها في بالي. فاترُكنني وشأني, رحمكن الله.
  • ادعُكِ وشأنكَ لتستأثر بك اللعينة وتعود إليها بعد كل ما أغدقت عليك من شبابي!
  • نسيتني ريحانة كما نسيتها.
  • كاذب أنتَ. فهي ما زالت في الشغاف من قلبكَ، وأنت ما زلتَ في الحبَّةِ من قلبها.
  • كأنكِ تدعين علم الغيب، ولا يعلمُ الغيب إلا الله!
  • بل لديَّ البرهان الملموسُ القاطع.
  • وما هو؟
  • أتصرُّ على معرفته؟
  • نعم.
  • إذا هاكَ البرهان.
  • وتخرج من صدرها رسالةَ ريحانة. فيقرأها مُتعجبًا، ويشعرُ أنه وقع في حرجٍ عظيم. وبعد هُنيهاتٍ من الوجوم تسلَّل فيها الشحوبُ إلى وجهيهما، سألها:
  • كيف حصلتِ عليها؟
  • من رسول اللعينة.
  • أين هو؟
  • يقبعُ في عتمة السجن تقرضُ جسمه الجرذانُ وتنهشُ لحمَهُ السياط.
  • حرامٌ عليكِ تعذيبُ بريء. كم مضى عليه من الزمن؟
  • شهر.
  • سأرفعُ الأمرَ إلى السلطان.
  • بذلك تجازفُ بحياتك.
  • لِمَ تهدِّديني؟
  • لأنَ رسول اللعينة اعترف بأنك ترسلُ أسرارَ الدولة إلى شاه خُوارزم بواسطة ريحانة.
  • ما تقولين يا هذه! أفقدت صوابك؟
  • بل أنت فقدت رشدك. وإذا عاندتني فستفقد حياتك. أدرك البيروني أن الأمر أصبح خطيرًا، وأن مكيدة ضده دبرتها جمانة: فإما أن يطاوعها فيستسلم لها، وإما أن تصبّ عليه جام نقمتها بعد أن طُعنت كبرياؤها. فيا لكيد النساء!

وفي اليوم التالي تستصحبُ جمانة أبا الريحان برفقة الحاجب إلى الحجرة القذرة المُعتمة التي كان الرسول البريء يموتُ فيها موتًا بطيئًا. وكانت جمانة قد أرغمته بالتجويع والتعذيب على أن يصرح كذبًا بأن البيروني يفشي له أسرار الدولة لينقلها إلى شاه خوارزم بواسطة ريحانة ابنة الحسين، وبأنه اجتمع مراراً بأبى الريحان من أجل هذا الغرض. فصرّح أمام العالم الشاب بما أرغم على تلقنه. فاستفظع البيروني ما سمعت أذناه وما شاهدت عيناه؛ ونشب صراعٌ في نفسه: أيخبر السلطان بحقيقة الأمر أم يستسلم للواقع المؤسي المُخزي الذي يعانيه؟ لكن إن أخبر السلطان بأن تلك مكيدة، أفيصدقه، أم يصدق شقيقته والحاجب والسجين المُرغم؟

      مضى أسبوع والأميرة جمانة لا تقتحم مهجع البيروني، لأنه استمهلها أسبوعًا واحدًا ليعمل فكرة في حاله. كانت شتى الأفكار السوداء تساوره مساورة الأفاعي، وتواتبه مواثبة الضواري، لكنه فضَّل تلك الجحيم على جحيم معاشرته القسرية للمرأة الحيَّة. وإذا فكرُه يتفتقُ عن حلٍّ لمعضلته. فاستدعى الحاجب، ولاطفُه، وأكرمه. ثم قال له:

  • أتثِقُ بعِلمي؟
  • نعم. فالسلطانُ نفسُه يثقُ بعلمك. وصيتكَ يملأ البلاد.
  • إذا سأفضي إليك بسر آملاً أن تصونه إلى أن يحين الوقت؟
  • سأصونه. فما هو؟
  • إعلم أن الأميرة جمانة تحبّك.
  • تحبُّني؟ تقصد أنها تكرمني. ولا أُنكِرُ أنها أحيانًا تلاطفني.
  • بل هي تهواك وتعشق طلعتك، لكنها لا تبوحُ لك بأمرها لأنها حيية.
  • كان الحاجبُ يعرفُ أنها من النساء اللواتي طلقن الحياء؛ لكن ربما كان على خطأ في ما يظن، فالوزيرُ العالم أعلم. فاشتدَّت عزيمته، وتحرَّكت مشاعره، وقال لأبي الريحان:
  • لكنها أُختُ السلطان، وأنا حاجبٌ في داره.
  • سأطلعُكَ على أمرٍ تجهله: هل تعلم من مَلِكُ بلاد الأندلس؟
  • لا
  • هشام الثاني هو الملكُ هناك. لكن السلطة الفعلية في يد الحاجب ابن أبي عامر الملقَّب بالمنصور.
  • الحاجب هو الحاكم، وكيف؟
  • تزوج شقيقة الملك فأطلقت يدُهُ في تصريف شؤون الدولة، فنصيحتي إليك أن تغتنمها فرصةً سانحة، ما دامت الأميرة تهواك، فتبوح لها بحبك بل بولهكَ، بل بتدلهك بها.
  • وإذا صدَّتني؟
  • لن تصدَّك. افلا تثق بعلمي؟
  • بلى.
  • هي كتلةً من الجمر المغلَّف بالرماد. انفخ عليها فتتأجج بين يديك.

كان هذا الدرسُ كافيًا ليُغير مجرى الأمور في قصر شمس المعالي. فلم يمضِ شهران حتى تزوَّج الحاجب الأميرة. فاطمأنت نفس البيروني، وشعر أن ذكاءه أفاده للمرة الأولى في تدبير حياته الخاصة فعاش يوزع ساعاته بين العلم والدولة.

أما السجين المسكين فقد أقنع أبو الريحان الحاجب بأن يجعل الأميرة تطلق سراحه في ليلة العرس. فقدَّم له طعام وثياب، ثم أفرج عنه. فخرج وهو يشعر أنه ولدَ فجأة في عالم النور، لاعتياده الظلمة. وأقعى في جانبٍ من فناء القصر وعيناه زائغتان تنظران في البعيد، بعد أن أصابه مسٌّ من الجنون لشدة ما قاسى من الآلام ولكثرة الضربات التي هوت على رأسه.

الفصل السادس

مضت خمسة أشهر والأميرة ريحانة ابنة الحسين تكتوي بنار القلق اكتواء عصفورٍ سجين بوهج شمس الصيف. فرسولها إلى البيرونيّ لم يعد إليها، ولا أخبار عنه! فساورتها الظنون السوداء مُساورة الأفاعي التي هاجها لظى الرمال. تُرى، هل سلاها أبو الريحان بعدما أصبحت الوزارة همَّه، فشغلت عقله وقلبه؟ أم فعل البعد فعله المشؤوم فيه، بعد أن طال الفراق، فتحقَّق المثل القاتل "البعد جفاء"! لكن قلبها يهامسها بأنها ما زالت في الحبَّة من قلبه، وإنما أنفتُه تأبى عليه أن يبوح بسِره. وكان طيفُ جمانة يقفز من خلايا دماغها إلى بؤبؤي عينيها، فتتخيلها متربصة بها، قابضة على خنجر تريد إغماده في قلبها وهي متلفعة بعباءة الليل. وإذ يعودُ إليها صوابها، تتنفض لاعنةً إياها: "تبا لكِ أيتها العانس! أخيرًا، تمكنتِ من إيقاعه بأشراكك!" لكنها لا تلبث أن تقول في نفسها مُستدركة: لا، أنا أعرَف الناس بأبي الريحان. أبو العقل الراجح هو، لن يقع في الأحبولة المشؤومة. وهو يعشق الجمال، فغيرُ معقول أن تأسره بومة.

وعادت ريحانة فأرسلت عيونًا لاستطلاع أمر رسولها. ووافاها من يخبرها بزواج الأميرة جمانة، شقيقة السلطان قابوس، وبقيام الأفراح بمناسبة عرسها. فنزل الخبر عليها نزل الصاعقة، وحبست نفسها في غرفتها، وامتنعت عن الطعام أيامًا، واشتعل الحقد في صدرها على أبي الريحان جمرًا أجَّاجًا لاعتقادها أنه هو الذي تزوج جمانة. فمن أبلغها الخبر الأسود قال لها إنه سمع الناس في جرجان بتناقلون أن الأميرة جمانة اقترنت بساعد السلطان. ولم يخطر ببالها أن العوام يعتقدون أن الحاجب هو ساعده، لأنهم يرونه يتدخل في شؤونهم أكثر مما يتدخل الوزير.

      وبعد مضي عدَّة أيام أنجلت الحقيقة لها، فعلمت أن جمانة تزوجت بحاجب السلطان؛ فانفرجت أساريها، وأزهر وجهها، فبدت كوردةٍ تفتحت أكمامها، وازداد تعلُّقها بأبي الريحان. فعجيبٌ أمرُ الحب! وإذْ عاودها الأمل، بعثت إلى جرجان بمن يبحث مجددًا عن رسولها إلى البيروني. فعُثِرَ عليه، أخيراً، هائمًا يستعطي في طرق جرجان، فأُحضِرَ إليها.

وحال إدخاله إلى جناحها، استقبلته بصفعةٍ رنَّحتهُ. فجحظت عيناه وزعق بوجهها:

  • لِمَ تصفعينني؟
  • لِمَ أصفعُك، يا ابن الفاعلة، وقد تركتني ستة أشهرٍ بين حيةٍ وميتة، وأنتَ هائمٌ في شوارع جرجان؟ ما الذي افتتنك فيها حتى التصقت بترابها التصاقَ الذباب بالمزابل؟

فلم يجبها إلا بنظراتٍ جاحظةٍ فارغة.

  • هل سلمتَ الرسالة إلى أبي الريحان؟
  • ؟؟؟
  • لِمَ لا تُجيبني؟ هل رأيته، أم بقيت الرسالةُ معك؟
  • ؟؟؟
  • وإذ لاحظتِ الأميرة ريحانة آثارًا الجروح ولطخاتٍ سوداء على رقتبه وصدغه ووجهه، تنبهت إلى أمرٍ مفاجئ.
  • هل اعتقلوك وعذبوك؟ هل انتزعوا الرسالة منك؟
  • فابتسم ابتسامة بلهاء عريضة وقال:
  • أطعموني وأعطوني ثيابً جديدة.

وأشار إلى ثيابه فرِحًا، وكرَّرَ ما قاله مراراً؛ لكنه لم يذكر شيئًا عن سجنه وتعذيبه، فالأحداث التي تزلزلُ النفس قد تغور في العقل الباطن، وهناك تقبع تهز أعماقه وهو لا يدري. وما لبثت ريحانة أن عرفت أن الجنون قد أصابه وأن الآثار التي ما تزال بادية في رأسه وعنقه إنما هي ألسنة تشهد على تعذيبه.

وفشلت ريحانة في حلِّ اللغز الذي طالعها: إذا كان أبو الريحان ما يزال وزيرًا للسلطان قابوس، فكيف لم يستطع حماية رسولها إليه؟

وإذا كانت جمانة وراء القبض على رسولها، فهذا يعني أنها تحبّ أبا الريحان؛ وفي هذه الحال كيف تزوَّجت الحاجب ولم تتزوَّجه؟

      مضت أشهر أخرى وهي في حيرةٍ شديدة. فجعلت تفكر في ايجاد طريقة تكون آمنَ لتسليم رسائلها إلى البيرونيّ. وذات ليلةٍ وهي في سريرها تحاول النوم فيستعصي عليها، تمركز في خيالها وجه أبي الريحان، فأخذت تستعيد ذكرياتها معه. تلك الأويقات الهانئة التي أمضياها معًا في القصر... أو في حجرته... أجل، في حجرته المتواضعة تلك إذ كانت تقصدها مُتنكرة لئلاً يكشف جيرانه هويتها. جيرانه؟ بل جاراته! فلم تكن تجد إلا نساء حوله، فالرجال في أعمالهم أو هم مجندون للقاتل. وفجأة التمع في رأسها وجهُ جارة أبي الريحان الصبية، تلك التي قتلت أمها في المعركة التي انتصر فيها عمّها، مأمون بن محمد، على أبي العباس ابن عراق. تُرى؟ هل كانت تحبُّه؟ وأيةُ فتاةٍ عرفته ولم ترغب في أن تكون شريكة حياته! ما اسم تلك الفتاة؟ إنها تعرف أبا الريحان جيدًا، فلماذا لا ترسلها إليه؟ لكنها قد تكون حاقدة عليها بعد مقتل أمها.

      كانت ريحانة في حيرةٍ تسائل نفسها محاولة ايجاد الأجوبة حتى مضى الهزيع الأول من الليل، فشعرت أنها وجدت الطريقة التي تبحث عنها: إنها تلك الصبية. فنهضت من فراشها، وتنكَّرت، واصطحبت وصيفتها، وامتطت جوادها، واتَّجهت إلى الدارة القديمة حيثُ كان يقيم أبو الريحان.

      قرعت الباب مرارًا حتى أتى من يفتحه: صبي في الثامنة من عمره ووراءه غادةٌ في الرابعة والعشرين. إنها شقيقته ياسمين. دخلت ريحانة ومعها وصيفتها، فإذا هما في غرفةٍ وضيعةٍ انطرحت على أرضها الكلسية حصيرة متهرئة وحشيَّتان اندلقت منهما أحشاؤهما. وسرعان ما أسفرت ريحانة، فعرفت ياسمين أنها في حضرة الأميرة؛ فهاجمها الخوف، في الوهلة الأولى، وعاودتها الذكرياتُ الحزينة المُفجعة. فهدأت ريحانة روعها بكلماتٍ لطيفة:

- أسفُ لما حصل لكم، لكنها الحياة ملأى بالأحداث والتقلُّبات. ثم أخرجت ريحانة كيسًا صغيرة من جيبها مملوءًا بالدنانير وقدمته إلى ياسمين قائلة:

- لا شكَّ بأنكم تحتاجون إلى مساعدة في هذه الظروف الأليمة.

إنهمرت الدموع من عيني ياسمين انهار ماء يفيض عن نرجستين، وأوشكت أن ترفض العطيَّة، لكنها سرعان ما فكرت بأخيها الصغير، فقبلتها، وأثنت على أريحيَّة الأميرة؟

      كانت الزيارة قصيرةً. وما إن انصرفت الأميرة ووصيفتها حتى وجدت ياسمين نفسها أمام لُغزٍ محير: ثمانية أعوام مضت على فجيعتها بأمها، فلماذا لم تتحرَّك عاطفة ريحانة إلا في هذا اليوم؟ وهل عاطفتها صادقة؟ هل هي حقًا نبيلة النفس على نقيض ما كانت تظنّ فيها من شرّ؟ ولماذا أتت والليل مُدلهمّ؟

بعد يومين أرسلت ريحانة من يستدعي ياسمين إلى جناحها في القصر؛ فحضرت وخلَّفت أخاها في المنزل على أن تعود إليه حالاً.

دخلت ياسمين القصر وعيناها تلتهما كل ما فيه. كانت مدهوشة مأخوذة بالطنافس والزخارف والفُسيفساء، والستائر المخمليَّة والسندسية والأرائك والخزائن المرصَّعة! هي الفقيرة التي أمضت حياتها في منزلٍ وضيٍعٍ لم تتمنَّع عيناها بما تستمتع به الآن، بل لم يخطر في بالها أن بين عامَّة الشعب الكادحة وطبقة الأمراء المرفَّهة هذا الفارق العظيم.

رحَّبت الاميرة بها، وتظاهرت بالعطف الشديد عليها؛ ثم أبدت انها تريد التعويض عمَّا فقدته بمساعدتها في جعلها بخدمتها. فرأت ياسمين في بادرتها حُظوةً بل نعمةً كبيرة، فأفاضت بالشكر لها. ثم سألتها هل بإمكانها أن تصطحبَ شقيقها الصغير الوحيد، إذ ليس له من يُعولُ عليه غيرها. فلم تمانع الأميرة.

      ومضت بضعةُ أشهر كانت ياسمين في كل يومٍ منها تزدادُ اطمئنانًا إلى ريحانة؛ لكن بمُلازمتها خدمتها وإقامتها في جناحا ليل نهار كان يتسَّربُ إليها، اتفاقًا، شيءٌ من ملابسات حياة الأميرة الخاصَّة واسرارها، فتلزم السكوت، لأن فيه مأمنًا من غوائل القصور، وخصوصًا في تلك الأيام الرديئة التي عمّت فيها المظالمُ والمكايد واستذأب الإنسان.

      وكانت ياسمين تعجبُ حينما تسألها ريحانة هل تعرفُ شيئًا عن عن البيرونيّ؛ وهدفها استنباشُ عاطفتها نحوه. فتنفي ياسمين صادقةً أنها تعرفُ أي خبرٍ عنه؛ لكن حنينها الخفيّ إليه كان يهتاج، فتكظمُ نفسها، وتكبتُ شعورها لعلمها بعاطفة الأميرة نحوه.

      كانت ريحانة تلتذُ بإثارة عاطفة ياسمين، لأن تعذيب النساء، لا سيما منافساتها في حبّها، كان يكسبها ما يشبه النشوة. وياسمين غادةٌ غريرة، فأين هي ممن حنَّكتها التجارب! فلماذا لا تستخدمها ريحانة لتنفيذ مآربها!

      رسمت الأميرة الداهية خطةً مُحكمةً لمراسلة البيرونيّ. إنها لن تبعث إليه بالرجال بعد اليوم. في جرجان يقيم أستاذه وصديقه أبو سهل عيسى المسيحي، وله ابنةٌ صبيةٌ اسمها مريم. ستُرسل ياسمين إلى مريم... وابو سهل يحمل الرسالة إلى أبي الريحان.

غطَّت ريحانة براعتها في المداد الأسود الذي كانت ترتاحُ إلى لونه، وجعلت تكتب:

نور عيني ابا الريحان

الريحان ينتمي إليك، فأنت أبوه، وأنا ضلعٌ منك، فهل تنزعُ عنكَ ضلعك؟

ألمي لبعدكَ عني لا يطاق، وأنت أخبر من يخفِّف الآلام.

أراك في يقظتي وفي حلمي؛ أشعر بك تدبُّ في عروقي مندمجًا في دمي.

أمدُّ يدي لألتقطك في الهواء لأتنسَّم عطر جسدك. فتعال إليَّ لأفيض عليك عجائب أنوثتي وأسكنك ف جنَّتي. وضعت خطة مامونة لمراسلتنا، وليكن أبو سهل الواسطة. فهل تسلَّمت رسالتي السابقة؟ بالله عليك أن تجيبني.

                                                      ريحانة ابنة الحسين

طوت الرسالة بعناية، ثم أحاطتها بلفافةٍ جلديةٍ برقةٍ وحنان كأمٍّ تلفّ الاقمطة حول طفلها. ثم خطَّت على اللفافة بحروفٍ عريضة: إلى الوزير الفاضل أبي الريحان البيرونيّ. بعدئذٍ أحاطت اللفافة بغلافٍ جلدي آخر خطَّت عليه: إلى العلامة أبي سهل المسيحيّ. وشفعَت ذلك برسالةٍ منفردةٍ إلى أبي سهل هذا نصُّها:

من الأميرة ريحانة ابنة الحسين

إلى العلاَّمة الفاضل أبي سهل المسيحيّ

أعزكُم الله

وبعد، علمتُ أنكم تقيمون في جرجان، فأحبَّبت أن أوكل إليكم تسليم أمانةٍ غالية. وإني لن أنسى فضلكم. نلتقي قريبًا إن شاء الله.

                                                            ريحانة ابنةُ الحسين

 

حينئذٍ تنفّست الأميرة الصعداء، وأرسلت في طلب ياسمين. ولما حضرت قالت لها بنبرةٍ حاسمة:

- استعدي لتذهبي، فجر الغد، إلى جرجان. وهناك ستنزلين ضيفةً ليلةً أو ليلتين عند مريم ابنة أبي سهل عيسى المسيحيّ. وليس عليك إلا أن تسلمي أباها أمانةً منّي إليه. وقبل رجوعك يُسلمُكِ أمانةً أخرى منه إليَّ. وفي الطريق، ذهابًا وإيابًا، سيرافقك أحد الحراس؛ وهو يستوضح عنوان أبي سهل.

اضطربت ياسمين، فهي المرَّة الأولى التي يُفوّض إليها مثل هذه المهمَّة. ثم تلك الرحلة الصحراوية الطويلة وأخطارها! وفجأة التمعت في ذهنها صورةُ فتاةٍ صغيرةٍ كانت تمسك بيد رجل طالما طرق باب تلك الحجرة المجاورة لمنزلها، حيث كان يقيم البيرونيّ. وتذكرت أن اسمها كان مريم، وأنها داعبتها ولاعبتها أكثر من مرة. فتحرَّكت الذكرياتُ في ذهنها ودارت، وعاد أبو الريحان يحتلّ المركز في فَلَكِها.

  • ما بكِ ساكتة ساهية؟
  • لا شيء، لا شيء.

فمع تخوّفها من المهمَّة، شعرت بدافعٍ قويٍّ إلى تنفيذها، وذلك لارتباط صورة أبي سهل بصورة أبي الريحان في خيالها، ولانبعاث تلك الهُنيهات اللذيذة  البريئة الآفلة من عمرها.

فجر اليوم التالي، وضعت ياسمين اللفافة والرسالة تحت ثيابها مثلما أوصتها ريحانة، وامتطت أتانًا قويًا، ورافقها ماجد، أحدُ الحراس، على جواد. وكانت الأميرة قد زودته بعنوان أبي سهل المسيحي، وأوصته بأن يعود برفقة ياسمين بعد يومين من وصولهما، وعلى أن تنزل هي وحدها في ضيافة أبي سهل.

      لم تكن ياسمين تعرف شيئًا عن الخطة التي دبَّرتها ريحانة لمراسلة البيرونيّ. فالأميرةُ جمانة، شقيقة السلطان قابوس، كانت قد بثَّت عيونها داخل القصر وخارجه لتتجسَّس اتِّصالات الوزير حتى بعد زواجها بحاجب السلطان، وذلك كيدًا وانتقامًا؛ ففي جبلتها حبّ التسلُّط، وحلمها السيادة على الرجال. لكن ريحانة لم تقلّ عنها حذرًا وقساوةً وعنجهية، بيد أنها كانت أدهى منها، وأجمل طلعة، وأوفر ثقافة، وأكثر تعلقًا بأهل العلم والأدب.

      كانت الطريق بين خوارزم وجرجان طويلةً وشاقةً، وعابرو تلك السبيل الصحراوية ليسوا كثيرين. الشمس من فوق سهامٌ من شواظ، والرمل من تحت يتموَّج كأجساد الأفاعي، فتنبعث منه العقاربُ والأصلال؛ والرياحُ لها هزيم يسمع بين الفينة والأخرى كأنه عزيف الجنّ! فأخذ ماجد بمغازلة ياسمين كلما سنحت الفرصة له؛ لكنها كانت تعرض عنه. فقد كانت تفكر بالوصول السريع إلى جرجان؛ وكان يملأ جرجان، في خيالها، وجه البيرونيّ.

آه! لو تراه! العلامة النابغة الوسيم! هو الوزير الذي يتنافسُ الأكابرُ في خطب ودِّه، وتتهافت غواني القصور على وهج شُهرته تهافت الفراش على وهج النار! فشتَّان ما بينه وبين ماجد! كانت تنظر إلى حارسها شزرًا، فتراه يحدّق إليها وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء، فتشمئز نفسها من جسمه الفيلي المترهّل ونظراته الشهاء واحاديثه الجوفاء، صحيح أنها لم تحصِّل من الأدب والعلم ما حصلته الأميرة ريحانة، لكنها تعرف أن تقرأ وتكتب، وقد طالعت بعض المخطوطات الأدبية التي كان أبو الريحان يمدُّها بها. أما ماجد فَفَدْمٌ غبيّ، شعاره البطش بالناس، وهواه سلب أموالهم ورؤية الدماء تنزف منهم! فأين سمو أبي الريحان وإباؤه من دناءة هذا الحارس! وفجأةً تذكَّرت ما قالهُ لها أبو الريحان قبل رحيله: "ويل لأمة أصبح راعيها ذئبًا يفتكُ بالخراف، وشيخُ دينها متاجرًا بالمبادئ والأعراف، وخفيرها لصًا شره يخاف".

كانت فيالقُ الظلام قد بدأت تتقدم باسطةً سلطانها على الأرض، وعواءُ الذئاب بدأ يشقُّ صدر السكينة، فأوجست ياسمين خوفًا. ماذا تفعل لو حاول ماجد الاعتداء عليها؟ الطريق تكاد تقفرُ، والصحراء حبلى بالاخطاء، وهو ما انفك يغازلها بوقاحة ونذالة. هدَّدته بالأميرة ريحانة، فقهقه قهقه المجانين، واقترب منها محاولاً أن يجتذبها إليه ليجلسها أمامه على صهوة الجواد، ويطلق العنان لشهواته الجامحة؛ فأخذت تسترحمه ودموعها كعقد من اللؤلؤ انفرط على خديها؛ فلا يزداد إلا إصراراً وعتيًا. فصاحت:

  • أستصرخ الله الجبَّار لينتقم منك.

وتمادت في صياحها واستغاثتها...

مضت بضع دقائق كان ماجد فيها يحاول، من جهة، تثبيت ياسمين أمامه وكبح حركات مقاومتها العنيفة، ومن جهة أخرى جمع عناني الجواد والأتان في يده، الامر الذي حضَّهما على العدو دونما هوادة. وإذا أشباحٌ مسرعة باتجاههما من بعيد، كأنما الأرض قد انشقَّت عنها. فما اقتربت حتى انجلت كوكبةٌ من الفرسان، فأحاطت بماجد، وشهرت السيوف عليه؛ فدبَّت فيه الحماسة فقارعها. وكان للسيوف التماعاتها وصلصلتها في هدأة الليل الدجوجي؛ فكأنهم مردةٌ أعداء تمخَّضت بهم رمال الصحراء! جال ماجد وصال وأحجم وأقدم مخترقًا طوقهم، وكان لكِّرهِ نمطٌ عنتري. لكن لم يطل الوقت حتى تغلَّبوا على الخفير الناقض لذمَّته، فقيدوه، واتَّجهوا به إلى سيد القصر في جرجان، بعد أن جعله غباؤه يعترف مفاخرًا بأنه من جنود شاه خُوارزم.

أما ياسمين التي كانت قد أفلتت من قبضة ماجد، فقد أنكرت أنها كانت آتيةٌ الى جرجان بصحبته. ولما استجوبوها، قالت إنها قادمة من خُوارزم وقاصدة أنسباءَها في جرجان. وقد رآها هذا الرجل وحيدةً والليل يهبطُ، فحاول الاعتداء عليها. ورجت منهم أن يوصلوها إلى منزل أبي سهل عيسى المسيحيّ؛ وكان بعضهم يعرفه لتردُّده إلى الوزير البيرونيّ.

ومضى الفُرسان يعدون مُخترقين سرادق الليل حتى نفذوا مع الفجر إلى جرجان، فتابعوا مسيرتهم إلى القصر، بينما انفردَ أحدُهم بياسمين وأوصلها إلى مسكن أبي سهل.

فوجئت مريم بالغادة القادمة، لكنها لم تلبث أن تذكَّرت فيها تلك الفتاة التي كانت تعبث بشعرها وتُربتُ على ظهرها وتلاعبها أيام كانت ترافق والدها إلى أبي الريحان. فرحبَّت بها، ونادت والدها؛ فحضر. وكانت جلسةُ استئناسٍ ومُذاكرةٍ عقبها تسليمُ ياسمين الأمانة إلى أبي سهل.

فنزلت في بيته ليلتين. وصباح اليوم الثالث عهدَ بها أبو سهل إلى جماعة من معارفه من التجار النصارى؛ فاصطحبوها إلى خوارزم. فعادت إلى القصر، وسلمت ريحانة الأمانة من أبي سهل. فاختلت الأميرةُ بنفسها، وفتحت الرسالة المُغلفة، فأضاءت الابتسامةُ وجهها، وقرأت:

إلى ريحانة روحيّ

ما قرأتُ كلمةً فيها راء وحاء إلا تذكَّرتك، فتحركت الحروفُ واكتمل اسمك أمام عيني حتى صرتُ أخافُ أن يكون قد ألمَّ بهما مرض أو داخل عقلي مسُّ جنون.

لقد صرت سادرًا حائرًا في ما اختار: المكوث في هذه الدار مُحاطًا بأهلِ العلم والأدب أم النزوح إليك مُقتحمًا الأخطار. قلتُ ذلك لأن السلطان جعلني أعاهدُهُ على الاضطلاع بأعباءِ الوزارة عشرين عامًا. فإن نقضت عهدي، ما سلمتُ من نقمته.

العيون حولي تترصَّد حركاتي وتتجسَّس أخباري. فحذارِ حذارِ. عسى الله يأتينا بفرجٍ قريب.

                                                      أبو الريحان البيرونيّ

لم تعرف ريحانة هل حملت الرسالة إليها فرحًا أم حزنًا. فشعورها كان مختلطًا. عشرون عامًا لم يمضِ منها إلاَّ زُهاءُ أربعة! وها قد مضت تسعةُ أعوام على انسلاخ أبي الريحان عنها. ستصبح عانسًا، بل عجوزًا، عندما ستراه مجددًا. هي محجوبة عنه، ونساءٌ كثيراتٌ يرينه، بل ربما يجتمعن به. تُرى هل رأته ياسمين؟ ودبَّت الغيرة في نفسها، فنادتها؛ فحضرت.

-  اصدُقيني القول. هل رأيتِ أبا الريحان البيرونيّ؟

- لا، يا مولاتي.

قالتها بحسرةٍ، ونارُ الغيثرة التي تنتفضُ في عيني ريحانة تكاد تلتهمها.

- ألم تتحدَّثا عنه أنتِ ومريم؟

فأنكرت ياسمين لشعورها بالغيرة الآكلة القاتلة في كلمات ريحانة وعينيها.

- وماجد أين هو؟

فتلعثمت لحظاتٍ ثم قالت في خفرٍ:

- حاول... حاولَ الاعتداء... عليَّ ونحنُ في الطريق إلى جُرجان. واتَّفق أن كانت كوكبةٌ من فُرسان السلطان قابوس مارةٌ من هناك، فسمعت صُراخي، فأحاطت بي، واعتقلتهُ.

- اعتقلته، يا فاجرة! فضَّلتِ أن يعتقل على أن تُشبعي نزوةً عابرةً من نزواته؟

فأجابتها بإباء وحدّة:

- المرأة المؤمنة هي التي تصونُ عرضها، ولو كلَّفها ذلك سفك دمها.

- إخرسي، يا غبية. ماجد ملؤُه الرجولة. أتنتظرين رجلاً أفضل منه ليشبعَ شهواتك؟

فطفرت الدموعُ من عيني ياسمين، فكأن مُديةً حادَّة طعنتها في قلبهاّ! لكنها تمالك وقالت مُنتفضة:

- الرجولة، يا مولاتي، ليست في كبر الحجم والبطش بالناس والاعتداء على أعراضهم، بل في المروءة والشهامة وعزة النفس وسمو الخلق، إنها رجولةُ أبي بكر وعُمر وعلي – رضي الله عنهم.

      وإذا الأميرة تهوي عليها بصفعةٍ مدوّيةٍ وتطردها من أمامها. فخرجت ياسمين وصورتا أمها الصرعى وشقيقها الطفل المدمّى قد بعثتا صارختين في خيالها. ويلٌ للحملان في عالمٍ يحكمُه الذئاب!

      كانت ريحانةُ تلتذُّ وهي تُعذّبُ منافساتها تلذُّذ المُدمن بالخمرة المُعتقة، وتسقط عليهن ما في نفسها من شهواتٍ موَّارة، فأسقطت صورة باطنها الخبيث على تلك الشريفة البريئة. ولم تكن ريحانة لتتأبى مخالطة الرجال ومشاعرها جميعًا تهتف لهم، وهم يحومون جماعاتٍ حولها تحويم الدبابير حول قرص من الشهد؛ لكنها كانت ترفض الزواج إلا بمن تراه أفضل الرجال، لأنها ترى نفسها فُضلى النساء. وأبو الريحان، في نظرها، أفضلهم. إنها تحبُ صورة ذاتها فيه من غير أن تدري؛ فإذا تغيَّرت صورته انقلبت عليه. إنه نوعٌ من الحبِّ النرجسي.

الفصل السابع

 مضت بضعة أعوام كانت ياسمين في خلالها تشعر أنها سجينةٌ في قصر خوارزم، مهدَّدة بالقتل هي وشقيقها إن لم تنفذ إرادة الأميرة. ولذا حرصًا على حياتها وحياته كانت تمتثل لرغبة ريحانة، فتقوم بمهمَّة ساعي البريد بينها وبين أبي الريحان البيروني بواسطة أبي سهل المسيحيّ، على ما فيها من مخاطر.

      وكانت ريحانة بذكائها ودهائها قد عرفت أن ياسمين لا بدَّ من أن تكون قد صادقت مريم، ابنة أبي سهل، وأنها قد عرفت عن طريقها بموضوع الرسائل المتبادلة. فالمرأة الحكيمة كتومٌ لأسرارها الخاصة، لكن المرأة، بصورةٍ عامة، نزاَّعة للثرثرة؛ وليس متعذرًا أن يكون أبو سهل قد باح بسرِ الرسائل إلى ابنته، وهذه بدورها أفضت به إلى ياسمين. وكانت ريحانة مصيبةً في ظنِّها. فلجأت إلى ملاطفة مريم، وحقَّقت رغبتها في أن تكون رحلاتها إلى جرجان ثم أوبتها منها بمعية جماعةٍ من تجَّار النصارى ممن كانوا يتنقلون بين البلدين، ويعرفون أبا سهل المسيحيّ ويجلونه. وإثر كل عودة، كانت الأميرة تنعم على ياسمين بعطية.

      في العام العاشر لوزارة البيرونيّ للسلطان قابوس، أي سنة 400 هـ (1009 م)، وصلت ياسمين إلى منزل أبي سهل، في جرجان، فقالت الترحاب كالعادة. وفي اليوم الثالث، قبل عودتها إلى خُوارزم، جالست مريم، وأفاضت في محادثتها عن أبي الريحان: مروءته، وملاحته، وأدبه، وعلمه، وشهرته، وإكبار السلاطين له... وذكرياتهما عنه المُرَّة والحلوة. وفجأةً خطر في بال مريم فكرة. :

  • أمامك بضع ساعات للأوبة إلى خُوارزم، فما رأيكِ في أن نذهب إلى القصر؟
  • إلى القصر؟ أجادة أنتِ؟
  • لا أقصد داخل القصر، بل باحته. وهناك نسأل عن جناح الوزير أبي الريحان. فقد يُطلّ فنراه.
  • نراه أمُمكن هذا بعد خمسة عشر عامًا! كنتُ في السادسة عشرة لما غادر خُوارزم! كان جارنا!
  • هيا إذًا.

وارتدَت مريم أنفسَ ثيابها، وازدانت ياسمين بوشاحٍ مذهبٍ أهدته إليها مريم، ومضتا تنقزان متهللتين كحمامتين ضجَّت فيهما الأنوثة.

وإذ وصلتا إلى فناء القصر وقفتا في زاوية منه تخمنان موقع ديوان الوزير. ولما طالت وقفتهما ونظراتهما إلى أجنحة القصر المختلفة، استرعى ذلك انتباه أحد الحراس، فاقترب إليها وسألهما من هما وعما تريدان. فقالت له مريم:

  • أنا مريم، ابنة أبي سهل المسيحيّ، وهذه صديقتي.
  • ماذا تريدان؟
  • أين ديوان الوزير؟
  • أبو الريحان؟ ةماذا تريدان منه؟
  • ؟؟؟
  • كان جناحُ الأميرة جمانة فوق مدخل القصر.

وزوجها، حاجب السلطان، يستقبل الناس في الغرفة الأولى من هذا الجناح، فيدخلهم إلى السلطان أو الوزير أو يصرفهم، أو ربما يأمر باعتقالهم. فصلاحياته اتَّسعت بعد زواجه بشقيقة السلطان. واتَّفق أن أطلَّت جمانة من نافذة حجرتها المُشرفة على فناء القصر، والفضولُ في طبيعتها، فرأت الفتاتين تحادثان الجندي، فأوعزت إليه بأن يحضرهما إليها.

فاستجوبتهما، وحاولت استنباش ما تخفيانه. فأنكرت ياسمين هويتها وأنها من خُوارزم لمعرفتها بالعداء المُستحكم بين ريحانة وجمانة. لكن مريم صارحتها بأنها ابنة أبي سهل المسيحي، لمعرفتها بأن السلطان يعرف والدها، وهو يجتمع بالوزير أسبوعيًا. غير أن أحد الجنود ممن كانوا حاضرين قال لياسمين:

  • ألست أنتِ التي كنت قادمة من خُوارزم على أتان وحاول راكب خوارزميٌّ الاعتداء عليكِ، فاعتقلناه؟
  • كلا.
  • ذلك حصل منذ بضع سنين.
  • كلا، لست أنا.
  • بلى، أنتِ بنفسك. وقلتِ إنك تقصدين أبا سهل المسيحيّ، وهو من أنسبائك. وهذه ابنته معكِ الآن.
  • فشكَّت جمانة بأمرها. وقادتها هي ومريم إلى ماجد. فإذا هو في حالةٍ يُرثى لها من جرَّاء تعذيبه. فإذا به يبادرها بقوله:
  • أهكذا تفعلين بي يا ياسمين! أهكذا تخذلني ريحانة!

فاضطربت، وأُسقط في يدها، ولم تستطع إلا أن تشفق على حالته وهي ذاتُ القلب الرقيق، فانهمرت دموعها. فصفعتها جمانة قائلة:

  • دموعك تشهدُ على أنكما متورِّطان في مهمةٍ قذرة واحدة. ضعوها في زنزانةٍ مجاورةٍ لزنزانته ليسمع كل منهما عويل الآخر.

وأمرت جمانة مريم بأن تنصرف؛ لكنها اعترضت بقوَّة قائلة:

  • إنها صديقتي وتنزلُ ضيفة في حمانا. إنها بريئة، بريئة.

فقالت الأميرة:

  • إذا أصررتِ على براءتها فستشاركينها في مصيرها.
  • خيرٌ لي أن أقاسمها عذابها من أن أتركها؛ فمن العار أن أخذلها.
  • إذاً زجّوا بهذه الشقيَّة في الزنزانة نفسها.

ولَّى النهار وأبو سهل المسيحيّ ينتظر عودة ابنته. فلما هبط الليلُ، استحوذ القلق عليه وأخذ ينوشُه... فخرج مُستطلعًا سائلاً معارفه عن ابنته؛ فلم ينبئه أحد بخبرٍ عنها. فأمضى الليل يعتصره الأرقُ والقلق، حتى إذا طلع الصباحُ, عاود التسآل حتى انتصف النهار. فقرر زيارة الوزير البيرونيّ لعلّه يساعدُه.

      كان البيروني في مجلس مع أستاذه أبي نصر، منصور بن عراق، وكالعادة أفضا في محادثةٍ تناولت مختلف العلوم فقال البيرونيّ له:

  • لساني يعجز عن شكركَ يا أبا نصر، فقد كنت وما زلت لي خير عون.
  • لا داعي للشكر يا أبا الريحان، فإذا كنتُ قد عرَّفتُكَ في خُوارزم هندسة إقليدس وفلك بطليموس، فقد أطلعك أبو الوفاء البوزَجاني، قبلي، على مبادئ العلمين، ودرَّبك أستأذك الرومي على أصول علم النبات والصيدلة، وزادك أبو سهل عيسى المسيحيّ تبحرًا في العلوم. ومع ذلك فأنا أقرُ بأنك تفوقت علينا جميعًا، حتى حملت وحدك لقب "الأستاذ".
  • أجل، يسمونني"الأستاذ"، ولكنني في مسائل الحياة ما زلتُ تلميذًا بحاجة إلى مشورتك. فبم تنصحني، يا أبا نصر؟ وليبق ما سأقوله سرًا بيننا. لقد بلغني كتابٌ من ريحانة ابنة الحسين منذ ثلاثة أيام، وفي كل يوم كنتُ أقرأُه عشر مرات. ومع ذلك لم أستطع بعد أن أتَّخذ القرار المناسب الحاسم.
  • إنها تحبُّك كثيرًا يا أبا الريحان، ولا تنسى أنها أميرة من الأسرة الحاكمة في خُوارزم، فبيدها مفتاح سعادتك.
  • هي تهواني، وأنا مُستهامٌ مفتون بالعلم.
  • ولكن بإمكانك أن تحبُّها وتحبُّ العلم معًا، فتصيبَ عصفورين بحجرٍ واحد.
  • المرأة كالمال، يا أبا نصر، تشغلُك عن كل شيءٍ سواها.
  • ولكنها تحب العلم أيضًا. أليس لها أهديت كتابك النفيس الأول"التَّفهيم لأوائل صناعة التَّنجيم"؟ أليست هي التي أوحت لك بفكرة أسلوبه القائم على السؤال والجواب ليسهلَ استيعابُ الكتاب؟ اليست هي التي أوحت إليك وضعه بالعربية والفارسية لتعمّ فائدته ويًصبح مرجعًا لتعلّم اللغتين؟ ألم تكن هي أول من قرأه بعدك؟
  • في هذه الأثناء وصل أبو سهل إلى القصر وأستاذن في الدخول إلى الوزير. وكاد الحاجب يصدّه لولا جرأةُ العالم وصوته الجهوري. فسمعه البيرونيّ، ففتح بابه، ورحَّب به.

جلس أبو سهل والإعياءُ بادٍ عليه، فسأله أبو الريحان مُتعجبًا:

  • ما بكَ يا أبا سهل؟ أمريضٌ أنت؟
  • ابنتي، يا أبا الريحان، ابنتي لم تعد البارحة إلى البيت!
  • أأغضبتها؟
  • لا.

واقتربَ منهُ وهمسَ في أُذنه:

  • خرجَت مع ياسمين صباحًا، ولم تعد.
  • أمِن عادتها أن تغيب بدون علمك؟
  • لا، أبدًا.

وإذا خادمُ الوزير يقرعُ البابَ مُستأذنًا، ثم يدخل قائلاً:

  • سيدي أبا الريحان، هذا كتابٌ سلمَهُ إليَّ رسول.

فيفتح البيروني الرسالة ويقرأ في نفسه. فيستوضحهُ أبو نصر عن مُرسلها؛ فيجيبه:

  • إنها من الأمير أبي الحسن علي بن مأمون، شقيق شاه خُوارزم. فهو يدعوني للذهاب إلى خوارزم. ويلاحظ البيرونيّ ملامح الاضطراب على وجه الخادم، فيسأله:
  • ما بك، يا هذا؟
  • سيدي أبا الريحان، ماذا أقولُ للرسول؟ فهو ينتظرُ الجواب.
  • ولماذا لم يدخل؟
  • ألا يعلم سيدي أن الجنود بدأوا يحيطون بالقصر؟
  • يحيطون بالقصر! ولماذا؟
  • إنهم ثائرون على مولانا السلطان.

فيرهفُ الثلاثةُ آذانهم فيسمعون جلبةً سرعان ما تعلو، لتعقبها نداءاتٌ وتكبيراتٌ وصلصلةٌ للسيوف. فيطلّون من النافذة، فيرون الجنود الثائرين يحيطون بالقصر، ويملأون باحته، ويحاولون اقتحام مداخله. وقد بدأت جثث المُتصارعين تنطرح أرضًا، والدماءُ تصبغُ الحضيض. فيقول البيرونيّ:

  • يا لسخرية القدر! الملوك يتساقطون، والدولُ تنقلبُ، والعلم وحده باقٍ لأنه قبسٌ من ينبوع النور الأبدي.
  • فيقول أبو نصر:
  • إنها مشيئة الله يا أبا الريحان. قُم رتب أمتعتك وارتحِل إلى جرجانية قبل أن يستفحل الأمر ويعمَّ الشغب, ويشتدَّ السلبُ والنهب.
  • فيجيبه أبو الريحان:
  • وهو كذلك، يا أبا نصر. ألا تهيئ نفسك أنت أيضًا للرحيل، فنعود معًا إلى خوارزم مثلما فررنا منها معًا، قبل خمسة عشر عامًا؟

فينتفضُ أبو سهل قائلاً:

  • وابنتي، يا أبا الريحان؟ مريم، زنبقتي، أنتخلّى عنها؟
  • لا، والله. لكن البحث عنها في حومة الأخطاء غير مجدٍ. فتريث لتنجلي الغمامة السوداء.

ويحزم البيروني أهم أمعته ومخطوطاته، على عجل، يساعده صاحباه، ثم يقودهما إلى الخارج من منفذٍ سري يؤدي إلى غابةٍ مجاورة. وعندما يصبحون في أمان بعيدًا عن الجنود المتصارعين، يدعو أبو سهل أبا الريحان وابا نصر إلى تمضية بقية النهار في منزله ريثما يهبط الليل، فتصبح الرحلة إلى خُوارزم آمن والتنكر أسلم.

      وبعد وصولهم واستراحتهم، قال البيروني:

- إنها عاقبةُ الظلم وسوء تدبير أمور الرعيَّة. فالسلطان قابوس، على أدبه ومحبَّته للعلم وتقريبه العلماء، كان يسيّر إمارته وفقًا لنزوات أنسبائه، فكثر الظلم واشتدَّ الاستياء حتى عمَّ الرعية والجنود.

      ولم تمضِ ساعةٌ على وصولهم حتى قرع الباب. ففتحه أبو سهل بحذر، وإذا به يشهق! لقد كانت مريم وياسمين عنده، وجهاهما وعنقاهما ملطخة بالدم كعصفورتين ذبحتا ثم أعيدت الحياةُ لهما بقوَّة العليّ! وكانت ثيابهما مُخضَّبة وممزَّقة! فارتاع الجميع، لكنهم ما لبثوا أن ابتهجوا للقاء غير المنتظر. وأخذت الفتاتان تقصَّان على المجتمعين أخبار اعتقالهما وضربهما بالسياط تحت ناظري جمانة التي كانت أساريرُ وجهها تزدادُ انشراحًا مع كل لذعة سوط! ثم وصفتا اقتحام الثائرين للسجن، وإخراج مئات المساجين منه. وكانتا تقصَّان الأخبار المفاجئة وهما تتوجَّعان من آثارِ السياط؛ لكن رؤيتهما لأبي الريحان أرقص قلبيهما.

أخيرًا، قالت مريم:

- إن أعجب ما حدث هو أن الثائرين زجوا بالأميرة جمانة في الزنزانة نفسها التي ألقت بها وبياسمين فيها!

فكبَّر الجميع، ثم قال البيرونيّ للفتاتين:

- إن الله سبحانه يعاقب على الشر بمثله. لكن ألا تريان أن أمسح جراحكما بما يزيلُ الألم؟

فرشقت كل منهما صاحبتها بنظرةٍ ذات معنى؛ وما لبث الأحمرارُ أن غزا وجهيهما كأنهما تفاحتان انضجتهما حرارةُ الصيف بسرعةٍ عجائبية!

      وبينما كان أبو الريحان يمسحُ ببعض عقاقيره بلطفٍ وعطف جروح الفتاتين المولَّعتين به وهما مُنتشيتان تحت لمسات يديه، كان أبو سهل يحزمُ النفيس من أمتعته، وكذلك أبو نصر الذي كان منزلُه مجاورًا.

وما إن هبط الليلُ حتى كان الجميع متأهبين للعودة إلى خوارزم، وأمتعتهم على ظهور المطايا.

الفصل الثامن

تنكَّر العلماء الثلاثة والفتاتان، واختلطوا بقافلةٍ من تجَّار النصارى المتَّجهين إلى خوارزم. فالنصارى لم يكن يُؤبَه لهم في الصراع على السلطة لضآلةِ شأنهم السياسي والعسكري في تلك الأمصار. فالضعفُ، في بعض الظروف، يكون مُدعاةَ نجاة، والالتصاقُ بالأرض آمن أوانَ تهب العواصف.

كانت جحافل الليلِ تتحاشدُ فوقَ رمال الصحراء الموَّاجة تحت حوافر المطايا، وتضوُّرُ الذئابِ يختلطُ بخفخفةِ  الضباع وعواء بنات آوى وقُباع الخنازير البرية. وكان الرُكبان يزدادون رهبةً ويشتدُ وجيفُ قلوبهم كلما لاحت أشباحُ الفرسان يطارد بعضهم بعضًا على خيولهم المُجلبَبَة بالدجنة، لا سيما حينما تتعالى صلصلةُ السيوف مختلطةً بأصوات المتقاتلين وصراخ المطعونين المُتساقطين...

فكأن رحِمَ الجحيم تلفظ شياطينها إلى ظهر الأرض!

وما لبثت أنباءً الاقتتال الدامي المتطايرة من حول القصر أن حملت إلى مَن في القافلة خبر عزل السلطان قابوس؛ فحزن البيرونيّ على رجل خفَّضت سياسةُ حكمه منزلته ورفع ما خلفهُ من أدبٍ شأنه.

وما إن أوغلوا في الصحراء وابتعدوا عن ميادين المقاتلين حتى أطلق العنان لتأملاته في أسباب زوال الدول وبقاء الآثار الفكريَّة الجليلة. فالجانبُ المُظلمُ في النفس البشرية، هذا القطاع الأمَّارُ بالسوء، هو المسؤول عن انهيار الدول بما فيه من شهواتٍ موَّارة بالمطامع والمظالم وطبيعةٍ لا تشبعُ من المتَّع الحسيَّة، فكان في نفس الإنسان حيوانًا ضاريًا قابعًا فيها! أما الجانب النيِّر في النفس، هذا القطاع الذي يشعر به أبو الريحان ملء ذاته، فهو الذي يبدعُ العلم والأدب والفلسفة، وهو الذي يخاطبه الأنبياءُ حينهما يظهرون مُحاولين بعث الحياة في ما ينطوي عليه من فضائل وروحانية، وهو وحده يولدُ الأعمالُ الخالدة الجُلْى.

وولى الليل بمخاوفه، فهدأت نفوس الركبان ببلجةِ الفجر ثم إطلالةِ غزالة الصباح تنشرُ من مرجة السماء نثار عسجدها على الفيافي والبطاح. وبعد وصول القافلة خوارزم، فارقها العلماء الثلاثة مع الحسناوين قاصدين جرجانية، عاصمة خُوارزم الجديدة حيث يقيم الشاهُ الجديد، أبو العباس مأمون بن مأمون.

اكترى كلٌّ من أبي سهل المسيحيّ وأبي نصر بيتًا متواضعًا. ونزل أبو الريحان البيرونيّ مع ياسمين ضيفين على أبي سهل وابنته مريم. وفي اليوم التالي وصل الخبرُ إلى قصر الشاه بأن البيرونيّ قد حضَر؛ فأرسل شقيقُ الشاه، الأمير أبو الحسن علي بن مأمون، كوكبةً من الفرسان إلى دار أبي سهل لترافق أبا الريحان إلى القصر معزَّزًا مُكرمًا. وكانت ياسمين بصحبته. فاستقبله أبو الحسن استقبالاً حافلاً. وما لبثت الأميرة ريحانة أن انضمَّت إلى المجلس وهي تحاول كبت انفعالاتها، فتفضحها عيناها المائجتان بالسنى الراقص، وبسمتها المزهرة كروضةٍ طفرت فيها أعاجيبُ الورود.

وما يلبث خوارزمشاه أن يدخل إلى البلاط، فيعانق أبا الريحان بحرارةٍ، ويبلغه أنه اختاره وزيرًا له، وأنه أفرد له جناحًا لسُكناه في القصر.

وتمضي الأيام والأسابيع وريحانة تعيشُ في مهرجانٍ صامت. لكن كلّ من كان في القصر من خدمٍ وحشمٍ استرعى أنظارهم أن جوًا بهيجًا جديدًا قد داخل القصر: ردهاته وممرَّاته والجنائن المُحيطة به. فكأن أنامل الحبّ الخفية ذاتُ كيمياء عجيبة لا تلمسُ شيئًا إلا تطبعه بالبهجة، وإن يكن إلى حين.

وبقيت ياسمين في عداد خادمات القصر، بعد أن طلب أبو الريحان إلى ريحانة أن تبقيها في عملها، لأنها أخلصت لها، وعانتِ العذابَ من أجلها. ومِمَّ تخافُ الأميرةُ والوزيرُ العالمُ أصبح بين يديها؟ أما مهمّةُ ياسمين فقد حُصِرَت في إعداد القهوة وتقديمها لأهل القصر ثلاث مراتٍ في اليوم. فكانت تدورُ عليهم كظبيةٍ تدور في فلاةٍ لا نباتَ فيها ولا ماء، حرَّى النفس، كئيبة القلب، تكادُ الدموعُ تطفرُ من عينيها الدعجاوين الحزينتين. فما تدخلُ إلى أبي الريحان لتقدّم القهوة إليه حتى ترتعش يداها ويزداد طائرُ الحبّ اختلاجًا بين ضلوعها، وتتواثبَ نيرانُ عاطفتها وهجًا على وجهها، مُخصبةً إيَّاه بقرمزِ الخفر.

وكان أبو الريحان يشعرُ بعاطفتها وارتباطها، فيحنو عليها، ويمازحُها لكن ليسَ أمامَ آخرين، لا سيما ريحانة، لأنه كان يشعرُ بغيرتها الأكلة، ويعلمُ قسوتها على مَن تظنُّ فيهن المنافسة لها. لقد كانت تفيضُ بالأنوثة أمام الرجال، فتجعلها هذه المزيةُ محبَّبة لديهم، لكنها تنصرفُ مع النساء وكأن نمرًا يسكنُ نفسها فيجرحُ بناتِ جنسها!

وكانت ريحانة إذا آنسَت من الوزير استراحة، تدخلُ إلى مكتبه وتُطارحُه الرأي في ما تقرأُهُ، تتذَّرعُ به إلى مُطارحتِه الهوى. أما هو فكان معها بين مدّ وجزر: يتأبى الاسترسالَ في ما تستدرجُهُ إليه من شهوةٍ عارمة، لا تنزهًّا عنها، بل توجُّسًا منها، إذْ كان يراها لا تضنُّ ببسماتها على كثيرين؛ لكن فيضَ أنوثتها وجمالها، فضلاً عن ثقافتها، كان يؤثر في عواطفه تأثير القمر في مدِّ البحر، فيشعر، كلما حضرت بانفعالاته تجيشُ وتحتشدُ وتجذبُه إليها، فيبقى في صراعٍ بين عقله وقلبه، حينًا ينتصرُ هذا، وحينًا ينتصرُ ذاك.ومضت عدةُ شهور، وحلَّ عيد النيروز، يومُ الفرح؛ وفيه يلبسُ القصر حلةً جديدة، ويستريح أهله. فدخلت ريحانة على البيرونيّ وقالت له:

  • علمتني، يا أبا الريحان، أن أهلَ التوارة يقولن إن الله – عز وجل – خلق الكون في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع,، ولذا فهم يستريحون في اليوم السابع من كل أسبوع. وأنتَ، مذّ عرفتك، لا تستريحُ يومًا واحدًا في الأسبوع، ولا في الشهر، ولا في السنة.

فأجابها:

  • بل أستريحُ يومين كل عام: يومَ النيروز ويوم المهرجان.
  • وهُوذا يومُ النيروز يكادُ ينتصفُ وأنتَ ما زلتَ تُسوّدُ القراطيس. فأنت والحالةُ هذه تحتاجُ إلى نبعٍ من المداد! فضحك أبو الريحان ثم قال لها:
  • أريد أن أُنهيَ هذا الكتابَ في عِلمِ النجوم.
  • إذًا هيا اقرأ لي طالعي، وأرني مستقبلي، واكشِفْ عن مطالع سُعودي بحساب النجوم، يا منجِّم الشَّاه.
  • لا، يا ريحانة، التنجيمُ، مثلما تتصورينه، كذبٌ وشعوذة. فلا علاقة للنجوم بمصايرنا وأحداث حياتنا. فالله خلقنا أحراراً، وهو سيُثيبنا أو يعاقبنا تبعًا لأعمالنا الحرَّة التي نقوم بها بإرادتنا الحرَّة. فلو صح أن مصير الإنسان مكتوبٌ في الأبراج، فهذا يعني نفيًا لحرِّيته؛ ونَفْيُ الحرِّية في أعمالنا وحياتنا مُستحيل، لأنه يعارضُ العدالة الإلهيَّة. وكم من ولادةٍ تحدثُ في اليوم نفسه، بل الساعة عينها. وما رأيتُ أترابَ الولادة متساوين في حظوظهم، ومتماثلين في طباعهم وأحداثِ حياتهم. ذلك فضلاً عن أن الحساباتِ الفلكية التي يجريها المُنجِّمون غير صحيحة، لأن أسسها خاطئة.
  • ما أقوى حُجَّتك وأغزر معارفك! ألم تقلّ لي مرةً أيضًا إن الإمام علي بن أبي طالب – رضي اللهُ عن – كان موقفه من بطلانِ التنجيم حاسمًا؟
  • وكذلك أهل الاعتزال، فقد أدّت بهم رجاحةُ عقولهم إلى نُكرانِ التنجيم ونُكرانِ أفانين السحر كلّها.
  • لكن إيَّاك، يا أبا الريحان، إعلانُ مناصرتك لأهلِ الاعتزال، فقد سمعتُ أن السلطان محمود يأمرُ بالقبض عليهم، وخصوصًا أنه يكرهُ شيعة الإمام وأنت معروفٌ بحبَّك له.
  • ما كان الجبانُ أهلاً للحياة، يا ريحانة. فرأيي أعلنه كتابةً وجهرًا.

ويطرقُ البابُ، ويدخل جنديٌّ، بعد استئذانه، فيبلغ الوزير أن الشَّاه سيخرج إلى الصيد في هذا اليوم، وهو يستدعيه ليصحبه. فتقولُ ريحانة للبيرونيّ:

- سأستأذِنُ عمي الشاه للخروج مع صواحبي في موكبه للتنزه.

وتنصرفُ ريحانة، لكنها تقفُ هُنيهاتٍ خارج الباب، فإذا هي تسمعُ البيرونيّ يقولُ بصوتٍ خافت: إنها حِيَلُ النساء؛ فما أدهاكن! فتضحكُ عاليًا. فيعرفُ أنها سمعتهُ.

      يهيئُ الوزيرُ نفسه بسرعة، وينضمُ إلى موكبِ الشَّاه أبي العباس مأمون الذي كان يرتدي عباءةً مطرزة بالذهب ويعتلي جوادًا مطهَّمًا. فتتطلقُ الخيلُ بمهابة بمحاذاة النهر ترافقها كلابُ الصيد النابحة، وكان صقرٌ ثاقبُ العينين يحطُ على كتف الشاه منتظرًا إيماءةً منه للانقضاض على طريدته. ثم يوغِلُ الفرسانُ في الصحراء الممتدَّة بين خُوارزم وجُرجان. فيسأل الشاه وزيرهُ العالم عن رأيه في الصحارى، فيجيبه:

  • هذه الصحراء، يا مولاي، كانت بُحيرةً في الماضي البعيد. فقد عثرتُ فيها على حجارةٍ انطوت على متحجِّراتٍ من الأصداف والأسماك، الأمرُ الذي لا يُفسرُ إلا بأن هذه الصحراء كانت بُحيرةً في الماضي السحيق.
  • صحراء كانتُ بحيرة! للمرَّة الأولى أسمعُ مِثلَ هذا القول العجب!
  • أجل كانت بحيرة، وحولها سهولٌ خصبةٌ، ونهرُ جيحون الذي يمتدُ أمامك كان يخترقها ليصبّ في بحر الخزر. ولكن مع مرور العصور تكاثر الطميُ عند مصب النهر، فتحول مسيلُ الماء إلى أرض الغُزّ الأتراك.
  • ولكن ليس في علمي أن النهر يجري في تلك الأرض!
  • لقد أوقف مجراه هنالك جبلٌ يعرف اليومَ باسم "فم الأسد"، وذلك قبل زمان طويل. فتجمَّعت المياه وارتفعت، وتركت أمواجُ النهر آثار اندفاقها ولطمها على المرتفعات هنالك. وعندما تفاقم وزنُ الماء وضغطه على تلك الحجارة الراشحة، اخترقتها المياه، وشقت مجرى لها على مسيرة يوم، ثم تحولت إلى اليمين باتجاه فاراب. وكان الناس يزرعون الأرض على ضفتي النهر في نحو 300 قريةٍ ومدينةٍ بقيت آثارها إلى يومنا هذا.
  • جليلٌ علمُك، يا أبا الريحان.
  • للهِ الفضلُ فيه، يا مولاي، ولأساتذتي.
  • لعمري، إنه لمفخرةٌ لخوارزم أن يولد فيها عالِمٌ نظيرك، يا أبا الريحان. وبدءًا من الغد سآمرُ بإنشاء مجمعٍ للعلوم يضمّك ويضمُّ أمثالك من العلماء، وبه سنُباهي سائرَ الأقطار. والآن إلى اللقاء، فإني أريدُ التوغُّل للصيدِ في جوفِ الصحراء.
  • في رعاية الله.

ما إن يبتعد موكبُ الشّاه ويلوي أبو الريحان عنانَ جوادِه ليعودَ إلى القصر حتى تلوح لهُ فرسٌ تدنو إليه مُسرعة وإذا العجاجُ ينجلي عن فتاةٍ مُلثّمة. فيحدّقُ أبو الريحان إليها محاولاً استكشاف هويتها. فتُسفِرُ عن وجهها قائلة:

  • عمّي الشّاه ما زال يبحث عن طرائد يصطادُها وأنا سبقتُه فاصطدتُك.
  • ريحانة! ماذا أتى بكِ فجأةً؟
  • كنتُ أترصدُك بين صواحبي في مؤخرة الموكب. فلما رأيتُ الفرصة سانحة، انقضضتُ عليكَ، يا أرنبي الذكي، مثلما تنقضُّ العقابُ عن طريدتها.
  • إنها لجُرأةٌ منكِ بالغة!

وينتحي الاثنان في بقعةٍ معزولة تُظللها اشجارٌ غبياء بجوار النهر، ويستريحان على الحصى. فتقول له:

- هاتِ حدثني عن السماء... هل يعرفُ سكانها الحبّ كالبشر؟ حدثني عن النجوم، كم نجمٍ رصدتَ؟

- رصدتُ حتى الآن 1029 نجمًا. لكن ثمةَ نجمان لم يُتِح الوقتُ لي بعد أن أرصدَهما وأتملّى نورهما.

- ما اسماهما؟

- عيناكِ!

فتضحك بغُنجٍ ودلال... ثم يرنو كل منهما إلى عيني الآخر وبسمةُ الفرح تُضيءُ وجهيهما، ويغرقان في نشوة الهوى؛ ولا يُصحيهما منها إلا صهيل جيادٍ قادمة. وإذا عليها صواحبُ الأميرة. فتُشيرُ إليهنَّ بالابتعاد. ثمَّ تسألُ البيرونيّ:

  • يا أبا الريحان، أنت فلكي، وجغرافي، وعالِمُ رياضيات، وعالِمُ نبات، وعالِمٌ في طبقات الأرض، وعالِمٌ في الصيدلة، ومؤرخ، وشاعر، وفيلسوف... ولكن ألا تكتبُ قصصًا؟
  • قصصًا! عن أي موضوع؟
  • عن الحبّ مثلاً. أما ذكرت لي أن الشاعر الفردوسي أنهى في هذا العام "الشاهنامة"، قصة ملوك فارس، وكذلك أنهى قصة غرام كسرى وزوجته؟
  • "خِسرو وشيرين". بلى. قِصصٌ عن الحب... فكرةٌ رائعةٌ، والله!
  • تُرى، من ألفَ أول قصةٍ في الحب؟
  • إثنان.
  • مَن هما.
  • آدم وحواء؟
  • يقولُ اليهودُ: إن عُمرَ البشر من آدَم إلى الطوفان 1656 سنة؛ ويقولُ النصارى: بل عمرهم 2242 سنة؛ أما السامريون فيحدِّدون عمر البشر من آدم إلى الطوفان بـ 1307 سنين.
  • وأنتَ ماذا تقول؟
  • إذا كان الاختلافُ بالغًا بين المعنين بالأمر، وليس ثمة كتابٌ ولا مرجع يُركَنُ إليه لتمييز حق ذلك من باطله، فمن أين يطمعُ طالب المعرفة في الوقوفِ على الحقيقة؟
  • إذًا ما دام الله – سبحانه – خلقَ العالم في سبعة أيام، فمعنى ذلك أن الأرض عمرها يسبق عمر آدم ببضعة أيام.
  • هكذا يقولون. لكننا عندما ندرسُ السجلات الصخرية والآثارَ العتيقة، نعلمُ أن هذه التطوّرات والتحوّلات لا بدّ من أن تكون قد استغرقت دهورًا طويلةً تحت ضغط البرد أو الحر، الأمر الذي لا تعرفُ وصفه أو تحديده. فإننا نشاهدُ الماء والهواء حتى في أيامنا هذه يشغلان وقتًا طويلاً في إتمام عملهما. وقد نطق القرآن الكريم "بأن يومًا عند ربك كألفِ سنةٍ مما تعدُّون"، وفي آيةٍ أخرى ورد: "في يومٍ كان مقدارُهُ خمسين ألف سنة".
  • إذا أنتَ نعتقد أن الأرضَ عمرها مئاتُ ألوف السنين؟
  • لا يمكن التحديد، ولكنها دهورٌ طويلة.
  • أهي أزلية كما يقول بعض الفلاسفة؟
  • لا , لا بدَّ من زمنٍ حدثَ فيه وجودُها، لكن لا يمكن تعينه بالضبط.
  • أبا الريحان، ليتنا آدم وحواء.
  • وتغريني، وتطعميني من التفاحة، ثم نطرد من الجنَّة لنعيش في الشقاء، لا، والله، لن أفعلها.

ويضحكُ الاثنان كأنهما طفلان! وما تلبثُ ريحانة أن تقول له:

أنا سأعيدك إلى الجنة، يا آدمي.

- جنَّتي العلمُ وحده، ولا جنَّةَ لي على الأرض سواه.

- هلا جعلتني من موضوعاتِ علمك. ففي جسدي كل ما في الأرض من ثمارٍ وعطور وتُراب، وفي نفسي كل ما في الأفلاك من نيراتٍ وضباب.

                        الفصل التاسع

وتمضي سبعةُ أعوامٍ يُوزعُ البيرونيّ فيها وقته بين أمورٍ ثلاثة: التأليف، والعمل في مجمع العلوم مع ابنِ سينا وأستاذه الفلكي الرياضيّ، ابن عراق، والعالِم الفيلسوف في مِسْكَوَيه وآخرين من علماء العصر، والقيام بمهامه السياسية والإدارية في الدولة.

أما ريحانة فكان يعطيها بين يومٍ وآخر النزرَ الباقي من وقته، ويمحضُها رذاذًا من عاطفته، فلا يعلقُ بأحبولتها الشهوانية، ولا يدعها تسلوه. وهكذا أصبحت عواطفها موزّعة بينه وبين كثيرين، لكنّه بقي في فلكها قطبَ الجاذبية الأكبر.

وذات يوم من العام 407 هـ / 1016 م كان مجلسُ العيوم منعقدًا، وفيه البيرونيّ وابن سينا. وكان أبو الريحان قد بدأ يشتد انزعاجه من متاعب الحكم ومشكلاته، ويرى أن ما يحدث في جرجانية يكاد يكرّر ما حدث في جرجان، لأن نزعات الإنسان هي هي حيثما كان. فالظلم متفشٍ، وشهوةُ المال وشهوةً السلطة مستشريتان، ونزعاتُ الكبرياء والحسد والرياء مهيمنة على الأشراف وأهل الحكم كما على قادةِ الجند وشيوخ الدين. فخاطب البيرونيّ ابن سينا قائلاً:

  • أُفٍّ للسياسة ولأعمال الإدارة والحكم، إنها تُضيعُ جزءًا كبيرًا من وقتي، وأنا أغبطُكَ، يا ابنَ سينا، لتفرُّغك للعلوم.

فيجيبه ابن سينا:

  • ولكن تسلّمكَ بعض مقاليد الدولة رفع مكانتك وأذاع شهرتك، يا أبا الريحان.
  • - لا أظنك تغبطني على ذلك. فهذا أمر لا يحسدني من أجله إلا الحمقى. أما العقلاء فيشفقون منه عليَّ.
  • قرأتُ انتقادك لأرسطو في إنكاره وجوده عالمٍ آخر يختلفُ تمامًا عن عالمنا الذي نعرفه.
  • ما رأيك في المسألة؟
  • أؤيّد رأيكَ في وجودِ عوالَم مختلفة عن عالمنا.

وصحيح دليلكَ الذي أعطيته بأن الشخص الذي يولد أعمى يستحيل عليه أن يتخيَّل صورة الأشياء من حوله.

  • أجل، فيمكن أن يكون ثمة عالمٌ آخر لم تتهيأ للإنسان القدرات اللازمة لإدراكه.
  • لكني أستدركُ فأقول: لا يمكن أن يكون هناك عالمٌ آخر مثل عالمنا، له مثل طبيعته ومقوماته...
  • وفجأة يستأذن جندي بالدخول. وإذ يؤذنُ له يخاطب البيرونيّ قائلاً:
  • سيدي الوزير، مولانا الشَّاه يستدعيك.
  • سأذهبُ حالاً.

ويدخل البيرونيّ إلى الشاه.

  • السلام على مولاي الشّاه. هل من خدمة؟
  • يا أبا الريحان، قال الشاعر أبو فراس الحمداني: "وفي الليلة الظلماء يفتقدُ البدرُ".

فأنتَ الآن رجلُ المُلمَّات والشدائد. إن أعيان البلد ثائرون، لأنني طلبتُ إليهم أن يوافقوا على إدخال اسم السلطان  محمود في خُطبة الجمعة. وإنما فعلتُ ذلك نزولاً عند رغبة السلطان. فلا أريدُ إغضابه كما لا أريد إغضابهم. فانظرُ بحكمتك وحصيف رأيك كيف تعالجُ الأمر. الأشراف مجتمعون الآن في البهو الكبير.

      يشعر البيرونيّ كأنما ألقى فجأة في لولب زوبعة، ويقول للشّاه:

      - حملتني عبئًا ثقيلاً، يا مولاي، وأرجو أن يُقويني الله على النهوض به. سأتوجّه إليهم حالاً.

      يمشي الوزير متمهّلاً ريثما يبزعُ حلُّ المعضلة في ذهنه. وكان اللغطُ يشتدُ والصخبُ يتعالى كلما اقترب من البهو الكبير. وما إن يطلُّ على المجتمعين حتى تتعالى أصواتهم استنكاراً، وترتفع أيديهم متشنِّجة مهدِّدة كانما تحمل قبضاتها المطارق المردمة. كانوا بضع مئات من الأعيان وشيوخ الدين. لحاهُم تنتفضُ وشواريهم تختلج من الحركات العصبية، وعيونهم تكاد تقدح شررًا. وكانتِ الخناجرُ مغمدةً في أوساط كثيرين منهم.

      كان البيرونيّ في الثالثة والأربعين من عمره. فتمالك نفسه، ونفض الجميع بنظرةٍ فاحصةٍ مهيمنة، ثم قال لهم بصوتٍ جهوري متَّزن:

- يا أشراف خُوارزم، عليكم الآمالُ معلَّقة، وإليكم الأنظارُ متَّجهة، وبكم الدولة محصَّنة، فعلامَ تغضبون؟ أتغضبُ اليدُ من الرأس إذا أمرها بالتحرك ليمتحن سلامتها؟ أنتم الأيادي القويَّة التي بها يحكم أبو العباس، خُوارزمشاه، وبقدرتها يعتزّ. وقد أراد امتحانكم إذ طلب إليكم أن توافقوا على إدخال اسم السلطان محمود في خطبة الجمعة. لقد كان طلبه إليكم تجربة لا أمرًا. أما وقد برهنتم عن تمسّككم باستقلال بلدكم وبحريةِ تصرفكم. فإنكم الأعيان الجديرون بأن تفخر خورزم بكم. ولكن ألا ترون أن ثقة الشّاه بكم ستتزعزع إذا لم تبادروا إلى الاعتذار منه عن تسرّعكم في ردّة فعلكم لامتحانه مدى إخلاصكم لبلدكم؟

      ومضى الوزيرُ العالم والخطيبُ المفوّه في خطبته حتى هدأت نفوس الأشراف، واقتنعوا ببراهينه المُفحمة، وأخذوا يتناقلون أنه ذو لسان من فضةٍ وذهب.

      لكن السلطان محمود بن سبكتكين، المُلقَّب بيمين الدولة، الذي كان قد مدَّ سلطته على كثير من الأمصار الفارسية والأفغانية والهندية، سرعان ما يعلم – بواسطة عيونه – بنقمة الأشراف في خُوارزم وبخطاب البيرونيّ، فيبعث برسالة إلى أبي العباس، خوارزشاه، يأمرُهُ فيها بأن يوعَز إلى الأعيان وشيوخ الدين بأن يدخلوا اسمه فورًا في خطبة الجمعة، كما يوعِزُ باحضار العلماء من أعضاء مجمع العلوم إليه.

وحينما يصل أمر السلطان إلى البيرونيّ، يكون مجتمعًا بإستاذه عبد الصمد الحكيم وبإبن سينا وآخرين. فيتطارحون الآراء. فيقول ابن سينا:

  • إنَّ السلطان ساخطٌ علينا، وهو يتَّهمنا بممالأة أشراف خوارزم. والله أعلم بما يُضمرُ لنا من سوء؛ فأنتم تعلمون بموقفه المعادي للشيعة ولأهل الاعتزال، بل لكلِّ فكرةٍ علميةٍ أو فلسفية جديدة. فماذا أنتم فاعلون؟

فيقول البيرونيّ مُخاطبًا ابن سينا:

- والله، يا أبا علي، لأن أموتَ مرفوع الرأس، مُجاهرًا بالحقّ خيرٌ من أن أجبن وأتذلَّل. فما رأي أستاذي عبد الصمد؟

- إن السلطان محمود بن سبكتكين، يا أبا الريحان، تغلب القسوةُ على طباعه، ومشهورٌ عنه الاستبداد بالرأي، والفتك بصاحب كل عقيدةٍ جديدة، بل كل اجتهاد علميّ مُحدَث. وشرّ ما أخشاهُ أن يتَّهمنا بالكُفر أو الزندقة أو القرمطة ويقتلنا بها. ألا ترى رأيي، يا أبا الريحان؟

- قبلنا وقَف، في بلاد اليونان، رجلٌ حكيمٌ عظيمٌ هو سقراط، إذ اتّهمه قُضاة أثينا بإفساد الناشئة لأنه كان يعلمُ الحقّ الذي آمن به؛ لكن سقراط لم يجبن ولم يهرب من الموت الذي واجهوه به وليتني أكون كمعلم أفلاطون أحيا في سبيل الحقّ والمعرفة، وأموتُ من أجلهما.

      في هذه الأثناء كان ابنُ سينا ينظرُ من النافذة مُستشرفًا، فقال:

  • أما أنا فلي رأيٌ آخر: أنجوا بأنفسكُم، يا قَوم. فإن لم يقتُلكم السلطان، فسيقتلكم جنودُ أبي العباس. ألا تسمعون هياجهم وصرخات غضبهم؟ إنهم أشبهُ بالضواري التي أفلتت من أقفاصها! أتنتظرون الحكمة من الغوغاء؟

فيهرعُ الجميع إلى النوافذ، فيرون الجنود في صخبٍ وهياجٍ عظيم، وقد اختلط الحابلُ بالنابل. فيهرولون خارجين، ويفرّ ابنُ سينا مُحتجبًا عن الأنظار؛ أما البيرونيّ فيدخل جناحه وقد اجتاحتهُ الكآبةُ على حالِ المسلمين. فأخذ يستعيدُ ذكرياته الأخيرة في جُرجان حينما ثارَ الجنودُ على قابوس وخلعوه.

      وسرعانَ ما يشعرُ بالخوف، لا على نفسه، بل على الشّاه وزوجته، شقيقةِ السلطان محمود، كما على أختها والدة ريحانة, على ريحانة نفسها. فيسرع إلى حيث يقيمون، فيرى الجنود الثائرين قد اقتحموا القصرَ، واحتلّوا ممرَّاته، وهم يحاولون تحطيم الأبواب المؤدية إلى جناحِ الشّاه وجناح الحريم. فيعترضهم محاولاً إقناعهم بالعُدولِ عن العنف؛ لكنهم لا يصغون إليه، بل ينطلقون كالإعصار الجائح، فيقتلون الحرس، ويسقط باب جناح الشَّاه تحت ضرباتهم، فينقضّون عليه ويقتلونه. وكاد البيرونيّ يلقى حتفه لولا تدارك الأمر بعضُ القادة ممن كانوا يُجلُّونه. فاستحلفهم، إذ ذاك، على ألا يمسّوا النساء بضرر، وعرض حياته لخطرٍ أكيدٍ بحمايته لهن؛ فتراجعوا عن جناحهن غير راضين.

      وظلَّت النساءُ في دوَّامةٍ من الهلع حتى وصلت أنباءُ مصرع الشّاه أبي العباس إلى السلطان محمود، فبادر فدخل بجيشه إلى خوارزم، واحتلّها سنة 407هـ/1016م، وثأرَ لأبي العباس صهره، وأنقذ شقيقتيه مع ريحانة والخادمات وبينهن ياسمين.

      وما لبث السلطان محمود أن قبض على أعضاء مجمع العلوم ممن لم يتوارَ منهم، وبينهم البيرونيّ وأستاذُه عبد الصمد الحكيم. فحرّضه شيوخُ الدين من أهل السنَّة على قتلهما بتهمة الكفر والأخذ بآراء المُعتزلة.

      فأحضر عبد الصمد، ولم يُترك له المجال الكافي للدفاع عن نفسه؛ فاتّهم بالكفر والقرمطة وقتل.

      وعرفت ريحانة ووالدتها بتصميم السلطان على قتل أبي الريحان، فهرعتا إليه، ورجتا منه أن يعفو عنه. فقال لهما:

  • لقد مالأ أشرافَ خُوارزم ضدّي، واخترع آراءً وبدعًا جديدةً في العلوم لا يقرّها الدينُ الحنيف. أمعقولٌ أن يكون عمرُ الأرض دهورًا طويلةً مثلما يدَّعي؟

فقالت له ريحانة:

  • لقد عرّض أبو الريحان نفسه للخطر من أجل أن يحمينا.

فأجابها السلطان ساخطًا:

  • إن هذا الرجل المسمّى البيرونيّ لخطر جدًا على مملكتي. فقد وصلني أن لسانه الذَّرِب يُقلبُ القلوب والعقولَ بسرعةٍ عجيبة.

فتجيبه ريحانة:

  • إنه أعظم عالم في الفلك، في مملكتك، يا مولاي، وهو يجيدُ خمس لغاتٍ على الأقل. فبمثله يستفيدُ الملوك. وبإمكانك أن تجعل منه درةً تزينُ تاجك.
  • ليس جديرًا بأن يزين تاجي إلا الجواهر الثمينة التي أغنُمها في فتوحاتي وانتصاراتي العظيمة. فما بكِ تنطقين بالهراء؟
  • قد يُساعدُكَ، يا مولانا، بثاقبِ فكره وغزيرِ علمه، وبمعرفته لعادات الشعوب وتواريخها وأديانها ولغاتها. فعمّي الشّاه الشهيد طالما استنصر حصيف رأيه.
  • أنا لا أثقُ به، يا ريحانة، فاحذريه، وكُفّي عن الاسترحام لأجله.
  • أعيذك بالله، يا مولانا عن شرِّ الانتقام. فقد سمعتُ أبا الريحان يقولُ ذات مرة: "جلّ خطرُ الملوك عن المجازاة بالانتقام". والمالُ يمكن أن يُعوض إذا فقد؛ لكن العلم إذا خسرته المملكة، فأجيال كثيرة لا تكفي لتعويضه.
  • إذًا سأتّخذه أسيرًا، واصطحبُهُ في غزواتي إلى بلاد الهند.

ورأت ريحانة ووالدتها أن هذا أقصى ما يمكن أن يرضى به السلطان، فوقفتا عنده  لئلا تسخطاه فتكون العاقبة أشأم. وشكرتاه على جميل صُنعِه. ومن يكون مستبدًا طاغيًا، فاستبدالُ الاسر بالقتل عنده صنيعٌ جميلٌ يجب حمدُه عليه.

      وبعد احتلال السلطان محمود لخوارزم، طارد كثيرًا من أمرائها، وفتك بهم انتقامًا لصهره أبي العباس.

ولم يطل الوقتُ حتى بدأ يتأهل لتوسيع فتوحاته في الهند التي كان قد احتلَّ منها بقاعًا واسعة، وسلبَ ما في معابدها من ذهبٍ وفضةٍ وحجارةٍ كريمة.

      وإذ تأكد لريحانة أن السلطان سيصطحب أبا الريحان إلى الهند مع سائر أعضاء مجمع العلوم, أخذت تسعى لدى والدتها لكي تتدخل شقيقتُها، زوجة السلطان، فيسمح لريحانة وخادماتها بمواكبة جيشه للتعرّف إلى بلادٍ جديدة. وبعد إلحاحٍ شديدٍ وعنادٍ أشدّ ثم إدلالٍ وإلحاف، سمحَ السلطان بأن يلحقَ جناحٌ للحريم بمنزله حيثما يحلّ.

الفصل العاشر

انطلق جنود السلطان محمود على صهوات الخيل يخترقون بلاد السند متَّجهين إلى أمصار الهند الفيحاء وقد التصقت قمصانهم بأجسادهم لكثرة ما نضحت من عرقٍ تحت الهجير. وكانت الجياد يتحلَّب لعابها ويطفو الزبد على أشداقها كأنما فتحت أمامها أبواب الجحيم فهبَّت عليها وعلى فرسانها سموم جهنميّة! وكانت تمضي ساعات تتلوها ساعات وليس في أمداء الأرض سوى الشوك والعوسج والصبَّار تتسلّل بينها اليرابيع والجرذان والرتيلات والضَّباب... وكثيرًا ما كانت لوالب الزوابع تدور حولهم محمَّلةً اردانُها بحمراءِ الرمال، فتهدِّدهم باقتلاعهم ونثرهم فوق الأتربة والصخور البعيدة.

أما السلطان محمود فكان يتقدّم فرسانه تحيط به كوكبه من القادة الأشاوس. على رأسه كوفيةٌ سندسية وعقال ينتهي بذوائب من خيوطٍ ذهبية، وعيناه الثاقبتان تخترقان المطارح النائية كأنّما الأرض كلها ملك له وجوار. كان يترجَّح بين الانتصاب والانحناء على صهوة جواده المُطهَّم الذي كانت تتطاير وثباته كأنما ليس لجاذبية الأرض سلطان عليه، وقد انبسطت حوله عباءته السوداء فبدا كنسرٍ أسطوريّ غدافي الجناحين انشقت عنه رحم الفضاء!

كان رهط العلماء في مؤخرة الجيش ووراءهم موكب الحريم فالمؤن محمّلةً على الجمال والأفيال. ولشد ما رغبت ريحانه في أن يتباطأ أبو الريحان في سيره أو في يكبو جواده ليتسنَّى لها نظرةٌ إليه تحملها كل ما حبلت به نفسها من عواطف شهَّاء حمراء. لكن السلطان كان قد أحاط العلماء كما الحريم بفريقٍ من الخفر، فلا يعدو أي منهم النطاق الجبريّ المضروب عليه؛ فزاد هذا من تحرّق الأميرة حتى اخذت تتودَّد إلى الفرسان المُحيطين بها نكايةً بعمَّها السلطان وبأبي الريحان.

أما البيرونيّ فكان له من غزوات السلطان الجديدة شغل شاغل. فما إن تأكد له أنه أصبح أسير السلطان حتى كيَّف نفسه واعتزم الإفادة العلمية من كل صقعٍ يحلّ فيه. فكان يتأمل جغرافية الأرض ثم يدوّن ملاحظاته وانطباعاته في أويقات الراحة العارضة. وما إن بدأ الجيش يسير بمحاذاة نهر السند المتدفّق من جبال حملايا الشاهقة والمخترق سهل البنجاب حيث تمدَّه الانهر الخمسة بروافدها حتى عاودته ذكرياته الأليمة عن فراره من خوارزم منذ حوالى إحدى وعشرين سنة. يؤمئذٍ دخلها جنود مأمون بن محمد، فقتلوا أميرها أبا العباس ابن عراق، وسفكوا دماء كثيرين باسم الدين والعدل حتى تخضَّبت مياه نهر خوارزم بها. النهر!... والمؤذن يدعو إلى السلام وسهم محمل بشتيمة يسقطه شلوًا من على شرفة المئذنة! النهر!... وشقيق ياسمين الطفل يلتقطه من جانب النهر مدمَّى مغميًا عليه! ووالدة ياسمين وقد بقر بطنها جندي مجرم إكرامًا لمأمون بن محمدّ! النهر!... وهو هاربٌ بمحاذاته يتأمل أمواجه المتلاحقة كأمواج الشعوب والدول التي تحول وتزول لتصبّ في بحر الأبدية!... ما الفرق بين نهر خوارزم ونهر السند؟ وبين مأمون بن محمد والسلطان محمود؟ وبين الأمس واليوم؟ الإنسان هو نفسه منذ أقدم العصور. كثيرُ السوء، قليل الخير. والبشر فئةٌ مهووسة بالسيطرة على الآخرين، على أجسادهم ونفوسهم وأملاكهم، ابتزازًا واحتيالاً، أو استلابًا واغتصابًا، وفئة جاهلة غبيَّة مُستسلمة تستنبح كقطعان الكلاب أو تقاد كقطعان الماشية. أما تعاليم الأنبياء فلا يستفيد منها إلا قلائل! فما الحكمة من مجيء الرسل والهداة الروحيين وتحمّلهم العذاب وآلام الاضطهاد ما دام الحصاد ضئيلاً هزيلاً؟ وما الفرقُ، يا ترى، بين إنسان اهتدى إلى الحقّ والخير بتعاليم نبيّ أو بتعاليم حكيم أو هادٍ روحيّ؟ وسرعان ما تذكر بوذا وراجا الحكيم الهندي الذي أطلعه على شيءٍ من التعاليم البوذية يوم زاره في خوارزم وبرفقته ابنته الطفلة جوني. كان أبو الريحان، يؤمئذٍ، في الحادية والعشرين من عمره، وجونى في حوالى العاشرة. يا للبراءة التي كانت تشعّ كهالةٍ حول وجهها الأسمر! ترى أين يكون أبوها؟ أما يزال حيًا؟ بودّه لو يتعلم اللغة البرهمية المقدَّسة على يديه ليكشف كنوز الهندوس الروحية كما يتعمق في تعاليم بوذا.

وفجأةً يصحو أبو الريحان من استغراقه في تأملاته على صيحات الفرسان وقد دخلوا أماكن العمران وبدأوا يلتحمون بفرسان أمراء الهند. وأخذت صلصلةُ السيوف تتعالى، وقعقعةُ الرماح تتوالى، وصرخاتُ القتلى تتواتر، وألسنُ الحرائق تتكاثر... وعمَّ الرعب والخرابُ مدنَ الهند وقُراها، فلاذ المنبوذون بأكواخهم  ومنازلهم الحقيرة، ولجأ البراهمة إلى معابدهم وكهنةُ البوذيين إلى هياكلهم يضرعُ كل منهم إلى من يرى قدرة الحماية فيه... وما لبث السلطان الفاتح أن أعطى أوامره باقتحام أماكن العبادة وتحطيم أنصاب الآلهة التي فيها، واستلاب كنوزها وحجارتها الكريمة، وإحراق كتبها الدينية. فاستفظع البيرونيّ الأمر أيَّما استفظاع، وهرع إلى السلطان يتوسَّل إليه أن يعفَّ عن الكتب والتماثيل الدينية ويوقف المجازر الحضارية، وكاد يودي بحياته من أجل ذلك. لكن عبثًا كانت محاولاته؛ بل كادت تُلحقه بعبد الصَّمد. لكنه لم ييأس، بل أصرَّ على موقفه، حتى أفلحَ أخيرًا في إقناع السلطان بجمع الكتب والاستيلاء عليها بدل إحراقها، وباعتبار التماثيل دمى جميلة ثمينة واتخاذها مغانم بدل تحطيمها.

وبعد تخريب السلطان للمعابد الهندية، حزن البيرونيّ حزنًا عظيمًا، وانطوى على نفسه يفكر بطغيان السلاطين وشرّهم وجهلهم وهوسهم بجمع المغانم وإظهار البطش والسلطة حتى لو كان ذلك بتدمير حضارات عريقة. لكن أمرًا كان يسترعي انتباهه هو تفرّد الإسكندر الكبير دون غيره من الفاتحين القدامى بالعفِّ عن المعابد وعن تخريب العمران، بل كان يسعى إلى تقريب وجهات النظر بين الشعوب وتوحيد حضاراتها. فهل ذلك يعني أن تلميذ أرسطو الذي لم يعرف تعاليم نبيّ كان مُهتديًا إلى طريق العدالة والحقّ والخير أكثر من معظم القادة الذين يدَّعون ويتبجَّحون باهتدائهم إلى الإيمان الحق؟ وهل ذلك يعني أن بين الناس من يحمل في فطرته سموًّا لا يعرفه أكثر الناس، وأن هذا السمو لا علاقة له بالدين بصفته شرائع وطقوسًا وفرائض، لأنه يقوم على القيم الروحية والمثل الإنسانيّة العُليا التي يجب أن تكون هي جوهر كل دين؟ ولشدّ ما تمنّى البيرونيّ أن يحلَّ الزمان الذي يسود فيه السلام بين الشعوب ويعمَّ التسامح أهل المعتقدات جميعها.

بعد أن يستولى السلطان محمود على رقاع شاسعة من أرض الهند، ويستتب الأمر له فيها، يتَّخذ وزيرًا جديدًا هو أحمد بن حسن الميمندي، ويجعل قلعة تاندانا مقرًا لفريق العلماء، وفيهم البيرونيّ وأبو نصر منصور ابن عراق، ويفرض عليهم اقامة جبريّة فيها، لا يعدونها إلا لمناطق محدَّدة.

وبعد مضي عدة أشهر من دخول الهند، أخذ البيروني يوسع جولاته حول القلعة متجرئًا شيئًا فشيئًا، مُستطلعًا أحوال الهنود وعاداتهم وتقاليدهم ومُعتقداتهم. وذات يوم قادته خطاه إلى أحد المعابد البوذية، فراعته فخامته، واعتصر قلبه ما حلَّ به من تخريب على ايد جهلة المسلمين. وسرعان ما استرعى نظرة شيخٌ جليل يقرأ في إحدى زوايا المعبد. فدنا إليه فاحصًا، وإذا به يشهق من المفاجأة.

- أراجا الحكيم أرى؟

- مَن؟ ألعلك أبو الريحان البيرونيّ!

وتعانق الرجلان. ومن بالغ التأثر افلتت من كل عين دمعتان!

قال البيرونيّ:

- أنا جدّ آسفٍ ومستاء لما حلَّ بأرضكم من خراب على يد السلطان محمود. لكنني انا أيضًا بتّ أسيره. فرض الإقامة الجبريّة عليَّ وعلى لفيفٍ من العلماء، بعد أن كاد يودي بنا إلى الهلاك. ولكن دعنا الآن من هذا. هي حال الدنيا. قُلَّب خُلَّب. والبشر  هم هم لا يتغيّرون، في ضلالهم سادرون. كيف حال جونى؟ هي الآن غادةٌ شابة! أهي في الثلاثين من عمرها الآن؟

- أجل، وهي بخير، لكنها ما زالت عازبة.

- أتقيم معك؟

- نعم.

- أشكر الله على أني لقيتك، يا راجا الحكيم. ولعلّها يد خفية قادتني إليك. فهل لي أن أطلب منك خدمة؟

- قل ما هي؟

- أن تعلمني البرهمية مع اهم لغات الهند ومُعتقداتها.

- بشرط أن تعلمنا أنا وجونى العربية واليونانية.

- إتَّفقنا.

- وأين يكون اجتماعنا؟

- مرة تأتيان إلى مقري في قلعة تاندانا، ومرة أذهب إلى منزلك... ولكن أين تقيم؟

- هوذا منزلي قرب المعبد.

- وودّع البيرونيّ راجا الحكيم وقلبه يطفح سرورًا على أن يكون المُلتقى عند غروب كل يوم.

وكرَّت الأسابيع. وصباح ذات يوم أقبل أبو نصر منصور ابن عراق إلى البيرونيّ، فحيَّاه وقال له:

- عند اكتمال الظهيرة يكون قد مضى علينا عام كامل منذ دخولنا بلاد الهند مع السلطان محمود. إي والله 365 يومًا وحريتنا مقيَّدة، وتصرفاتنا مراقبة.

فيقول البيرونيّ وهو ما برح جالسًا وقلمه ما زال يصر على الطرس:

- تقول 365 يومًا؟ بل 365 يومًا و5 ساعات و49 دقيقة و20 ثانية و64% من الثانية.

- أوه إنك لأعجب رجل، يا أبا الريحان! أنا أفكر بالقدر الذي فرضه علينا السلطان منذ دخولنا الهند، وأنت لم يبارح القلم يدك منذ سنة!

- والأعجب أني فرغت الآن من حساب طول السنة الحقيقي. أما القدر، يا أبا نصر، فكلّ منَّا يصنع قدره السلطان محمود فرض علينا أن نقيم في الهند، وقيّد حريتنا؛ هذا صحيح. لكن بدل أن أجعل من إقامتي موضوع حزنٍ ويأس، يمكنني أن أملأ أيامي، بل ساعاتي ودقائقي، بما يفيد. وها أنذا أنهيت عدّة كتب في الفلك، وبدأت أدرس طبيعة الهند وحياة قومها.

- ولكن لا بد لك من معرفة لغاتهم الهندوسية.

- أجل. ولذا بدأت أدرس البرهمية واللغات المحليّة على يد حكيم من حكمائهم كنت قد تعرّفت إليه في خوارزم منذ حوالى اثنتين وعشرين سنة. اسمه راجا. فإذا أردت، يا أبا نصر، أن تتعلَّم مثلما تعلَّم غيرك من الناس، فتعلّم لغتهم واحترم تقاليدهم وعاداتهم وأفكارهم ومعتقداتهم.

- والله، إنك لأعجب عقل عرفته في حياتي. فأنت تعرف الفارسية، وكتبت فيها مؤلفين؛ وتعرف الصُّغدية، لغة خوارزم؛ وتجيد العربية؛ وتحيط باليونانية والعبرية والسريانية والتركية... وها أنت الآن تتعلّم لغات الهند!

- ولقاء تعلمي إياها ألقّن الحكيم البرهماني وابنته العربية واليونانية.

- تلقَّن ابنته! ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، يا أبا الريحان. وريحانة... هل سلوتها؟

- لا، والذي نفسي بيده، بل هي التي بدأت تسلوني. بلغني أن الوزير الجديد أحمد بن حسن الميمندي يتودَّد إليها، وهي لا تضنُّ عليه بابتساماتها العريضة ونظراتها الإوائية.

- الذنبُ ذنبك، يا أبا الريحان؛ سنين كثيرة ظلّت مُتهالكة في اجتذاب قلبك، وقلبك مُنجذب إلى الكتب والأوراق.

- لا، يا أبا نصر، بل بدأ قلبي ينجذب إليها.

- إلى ريحانة بعد طول السنينّ الحمد الله.

- بل إلى جونى الهندية.

- جونى؟ ومن تكون؟

- ابنة الحكيم راجا.

- ريحانة قلبها معك...

- وأنا قلبي مع جونى.

- وجونى قلبها مع مَن، يا ترى؟

- حتى الآن مع بوذا.

- بوذا! لعله ذلك الرجل الذين يزعمون أنه أسَّس دينهم الباطل!

- أجل، هو مؤسِّس دينهم البوذي. ولكن ليس من الإنصاف أن نقول عنه إنه دين باطل، يا أبا نصر.

- فالعدل يقضي بأن نحترم عقائد الناس وأفكارهم.

- إذن تظن أنه رسول من الرسل؟

- في القرآن الكريم: (ولكل قومٍ هادٍ).

- وكيف يكون قلب فتاتك مع رجلٍ توفاه الله منذ قرون؟

- إنها متبتِّلة له.

- وأنتَ متبتِّل للعلم. والله، إني لا أفهمك، يا أبا الريحان. كيف تحبّ فتاة تحبّ غيرك ولا تحبّ التي تحبّك!

- الحقّ أن التي تدعي حبي إنما تحب صورة نفسها المنعكسة عليّ، ومن تحبّ غيري إنما تحبّ اللانهائي. واللانهائي تبتّلت هي له عن طريق العبادة، وأنا تبتّلت له عن طريق العلوم.

ويأتي عيد النيروز، فتتمكّن ريحانة من مغادرة بيت الحريم التَّابع للسلطان، وتخرج متنكِّرة تبحث عن البيروني، فيقال لها إنه في قلعة تاندانا مع أبي نصر منصور ابن عراق.

فتهتدي إليه بجوار القلعة. وإذا هو يخاطب أبا نصر قائلاً:

- يا أبا نصر، علينا أن نقيس الزاوية من هذه القمة المجاورة إلى أفق الأرض. أمسك جيدًا... حسنًا... والآن عليَّ أن أقيس الزاوية التي يشكّلها انخفاض ملتقى السماء والأرض عن المستوى الأفقي المار بقمة الجبل... لا يبقى إلا أن أضبط الحساب النهائي...

- ويجري البيرونيّ حسابه ثم يقول بنبرة الواثق من نفسه:

- 6338 كيلومترًا و800 متر.

- ماذا

- 6338 كيلومترًا و800 متر طول نصف قطر الأرض، وإذا بمُلثَّمٍ يقترب منه قائلاً:

- هوذا العقل الذي لا يستريح حتى في عيد النيروز!

- مَن؟ صوت أعرفه... ريحانة متنكّرة!

- ما أتى بكِ إلى هنا وأنتِ تقيمين في كنف السلطان مع حاشيته على بعد أميال؟

- قلبي أتى بي إليك، يا أبا الريحان.

 وسرعان ما ينسحب ابو نصر مُخليًا الساحة لهما، فيودعه البيروني على أن يلتقيا فيما بعد. وترفع ريحانة اللثام عن وجهها مقتربة من أبي الريحان، فيقول لها:

- ما أعظم سروري الآن!

- بقدومي؟

- باهتدائي إلى طول قطر الأرض.

- تهتدي إلى معرفة طول قطر الأرض، ولا تهتدي إلى معرفة طول حبي!

- بل أعرف حبّك، يا ريحانة، فقلبك كقلب الفراشة ينتقل من وردةٍ إلى أخرى. ووردتك الآن اسمها الوزير الميمندي.

      وتجهش بالبكاء. فيمسح أبو الريحان دموعها بِرُدن عباءته، ثم يقول لها:

- كفكفي دمعك... كفكفي. طفلة كبيرة أنتِ... طفلة كبيرة عنيدة، لكن محنَّكة وداهية.

- دعني ألقي رأسي على كتفك، يا ظالم.

- هدئي نفسكِ... هدئي نفسكِ.

- ليتني أنام عمري كله ورأسي إلى كتفك وأنا أحلم...

- وبم تحلمين؟

- بأن نكون كالشمس والقمر ندور حول الأرض ولكن... متعانقين.

- ما أحلاها أمنية!... ولكن ليس مؤكدًا، يا عزيزتي، أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، فالحقائق الفلكية يمكن شرحها كذلك في ضوء أن الأرض هي التي تدور حول الشمس.

- أصحيح ما تقول؟

- قد يكون.

- ولكن إذا كانت الأرضُ هي التي تدور والسماء ثابتة لسقطت الحجارة والأشجار، بل لسقطنا نحن من الأرض!

وتضحكُ ريحانة، ويجاريها هو في الضحك، ثم يقول:

- لا إنها لا تسقط، ولا نسقط نحن. قرأتُ لحكيمٍ هندي اسمه براهما جوبتا كتابًا يقول فيه: إن هذا السقوط لا يحدث، لأنه يعتقد، في ما يظهر، أن جميع الأشياء الثقيلة تنجذبُ نحو مركز الأرض.

- آه! ليتني الأرض، وأنت جبلٌ راسخ فلا تتزحزح عن صدري.

الفصل الحادي عشر

ويمضي عامان آخران وريحانة لا ترى البيرونيّ إلا مرتين في العام: يوم النيروز ويوم المهرجان. والميمندي، وزير السلطان محمود، يفيض تودّده وعواطفه إليهأ، وهي تكاد تنهار من تنازع ميولها. أما البيرونيّ فكان يشترك في غزوات السلطان وعزاؤه أن يتعرّف إلى أقاليم الهند، ويدرس عادات أهل البلاد وكل ما يّتصل بحياتهم وعلومهم ومعتقداتهم الدينية... حتى كان يوم من عام 411 هـ/ 1020م. في ذلك الحين كان أبو الريحان مُقيمًا في منزل صديقه الهندي راجا الحكيم، بعد أن استحصل على إذن من السلطان بحجّة تلقنه أهم اللغات الهندية من أجل مساعدة على إبلاغ مشيئته إلى أمراء الهند وأهاليها والتفاهم معهم.

كان في غرفة البيرونيّ المتواضعة راجا الحكيم وابنته، فهنأهما أبو الريحان على نجاحهما في إجادة العربية واليونانية بعد ثلاث سنوات من الجهد الشاق. فقالت جونى:

- ذلك بفضلك، يا أبا الريحان. وماذا نقول عن فلسفة سقراط وافلاطون وأرسطو وعلوم اليونان والمسلمين؟ فلولاك لبقيت كنوزها مغلقة دوننا.

فيجيب البيروني:

- تذكران فضلي، ولا تذكران أفضالكما! فلولاكما لبقيت لغات الهند وكتبها الدينية ألغازًا وأيَّة ألغازّ فإني لم أقع في حياتي على كتابٍ أوجز وأكثف من كتاب "باتنجِل". وكيف لي أن أفهم وأترجم كتابًا يخلو من الأفعال والحروف وكله أسماء بدون عونكما؟

      فيوافقه راجا على أن كتاب "باتنجل" من أصعب المصنَّفات. لكن البيرونيّ يستدرك قائلاً:

- لكنه من أجملها. حسبه أن موضوعه يدور حول تخليص النفس من رباط البدن. ولعمري، إن أنس لا أنس تشبيهه البديع للنفس بحبّة الارز، إذ قال: "إن النفس فيما بين أربطة الجهل التي هي أسباب قيودها لتشبه الأرز ضمن قشره، فإنه ما دام معه كان مُعدًا للزرع والنبات والاستحصاد متردّدًا بين التولّد والإيلاد، فإذا أزيل القشرُ عنه، انقطعت تلك الحوادث عنه وصار له البقاء على حاله".

      فأعجبت جونى باستيعاب أبي الريحان للكتاب الديني وحفظه لأقواله، فقالت له:

- أنت عالم كبير، يا أبا الريحان. قال باسديو الحكيم: "أفضل الناس هو العالم الكامل، لأنه يحبّ الله ويحبّه الله. وكم تكرّر عليه الموت والولادة وهو في مدد عمره مواظبٌ على طلب الكمال حتى ناله".

      فيغتبط البيرونيّ بوجوده في بيت علم وفضيلة، وبالتفاهم بينهم كما بالاحترام والمودَّة المتبادلين، فيفيض في إبداء آرائه الدينية، ولا سيما في ما يخصّ التقمُّص، فيقول:

- تكرّر الموت والولادة اعتقاد يوافق الفلاسفة اليونانيون فيه حكماء الهند. وقد شرحه أفلاطون على لسان سقراط. إلا أن التناسخ بات علمًا للديانات الهندوكية؛ فكما أن الشهادة بكلمة التوحيد شعارُ إيمان المسلمين، والتثليثُ علامة النصرانية، والإسباتُ علامة اليهودية، فاعتقاد التناسخ شعارُ البوذية والهندوكية. وقد قرأتُ في التناسخ قولاً جليلاً رائعًا فاه به باسديو إذ خاطب أرجن يحرِّضه على القتال وهما بين الصفَّين. قال: "إن كنت بالقضاء السابق مؤمنًا، فاعلم أنهم ولا نحن معًا بموتى، ولا ذاهبين ذهابًا لا رجوع معه. فإن النفوس غير مائتة ولا متغيّرة، وإنما تتردَّد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوحة التي عقباها موت البدن ثم العود".

فيقول راجا:

- ثم أليس رائعًا، يا أبا الريحان، قول باسديو لأرجن:  "كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبديَّة الوجود، ووجودها لم يحدث عن ولادة، ولا صائر إلى تلفٍ أو عدم، بل هي ثابتة قائمة، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصُّها، ولا ريح تييسها، لكنها تنتقل عن بدنها إذا عتق نحو آخر ليس كذلك، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق... فكل مولودٍ ميت، وكل ميتٍ عائد، وليس لك من كلا الأمرين شيء، إنما هما إلى الله الذين منه جميع الأمور وإليه تصير".

فيثني البيرونيّ على قول باسديو ويعلن أنه متى تم إطلاعه على عقائد الهند وعاداتهم وتقاليدهم سيضمُّ كل ذلك في كتاب. فابتهجت جونى قائلة:

- إن على يقين، يا أبا الريحان، أنه سيكون لا كتاب هذا الجيل فحسب، بل كتاب كل الأجيال، لأني عرفتُ فيكَ، طوال أعوام، العالم الرصين والبحاثة المتجرِّد، والكاتب المتنزِّه عن الغرض والهوى. فأنت، والله، ملء عقلي وسمعي.

فيبتسم أبو الريحان سائلاً ممازحًا:

- وقلبك يا جونى، من يملأه؟

- قلبي يملأه معلم طرق الكمال، بوذا المستتير الإلهيّ.

أوشك الهزيع الثاني من الليل أن يولي والثلاثة يتطارحون الآراء ويتبادلون الأحاديث الممتعة، وإذا بالباب يطرق. ينهض راجا ويفتحه، وإذا هم أمام جندي ملثّم. لكن عين أبي الريحان الثاقبة سرعان ما أدركت من هو وراء الزيّ التنكري. فقال في عجب:

- ريحانة!... ما أتى بك تحت جنح الليل؟ فلا يخرج في هذه الساعة إلا المجرمون أو العسس. ولماذا أنت متنكّره؟

وسرعان ما يدرك رجا الحكيم وابنته حرج الموقف، فيستأذنان وينصرفان. وإذا بريحانة تقول له وقد أفلتت من عينيها دمعتان.

- ينتظرني في الخارج جندي من عسكر خالي السلطان محمود.

- أي خبر دفعك إليَّ في هذا الليل؟ وما لوجهك امتصّ الشحوب نضارته؟ لو كنتُ أؤمن بالاشباح وطوافها ولا أعرفكِ، لقلتُ شبح اخرجه رهبوتُ الليل من بين الأمواتّ

- وما الفرق بيني وبينهم؟ فأنا من الأموات وليس سوى حبّك يحييني. حبّك يسهد أجفاني فأسامر خيالك، وأكتوي بنار الانتظار وأنت تلهو مع فتاةٍ هندية لا حسب لها ولا نسب!

- ريحانة، أأنت العاقلة المؤدَّبة تتفوهين بمثل هذا القول!

- أنا عاقلة مؤدَّبة، لكني امرأة... امرأة... أتفهمني؟

الشوق برح بي، والانتظار هدَّني... وهوذا الوزير الميمندي يطلبني من خالي السلطان، وأنا أستمهله...

وتجهش ريحانة ثم تسترسل في البكاء مرتمية على أحد المقاعد. فيقترب البيرونيّ منها ويضع يده على رأسها مُلاطفًا قائلاً:

- خفِّفي عنك... خفّفي عنك... غزوات خالك لا تترك لي مجالاً للاستقرار والتفكير في الزواج. فمن أصل سبع عشرة غزوة قام بها أشركني في ثلاث عشرة.

- ليست الغزوات هي التي تمنعك من التفكير في الزواج بي، بل هي.

- من هي؟

- الفتاة الهندية التي كانت هنا، جونى. أتظن أني لا أتجسَّس أخبارك؟

- ااتيت إليَّ في هذا الليل الدجوجي لتقولي لي هذا!

- بل أتيت لأخبرك خبرًا سيئًا. السلطان قتل الشاعر الفردوسي.

- إنا لله وإنا إليه راجعون. رحمات الله عليك، يا فردوسي، لأنت شاعر الفرس الأكبر. والله، إن أبيات شعره لأعظم من السلاطين جميعًا. كلهم سيصبحون هملاً، وهو سيبقى كشمس مُشرقة. ولماذا قتله؟

- حرَّضه الوزير الميمندي عليه.

- ألم يُهدِ الفردوسي الشاهنامة العظيمة إلى السلطان محمود؟

- بلى، والسلطان كافأه عليها بعشرين ألف درهم. لكن الفردوسيّ اعتبر المكافأة وضيعة ومهينة، فهجاه. فاستدعاه الوزير، وطلب إليه أن يعتذر ويمدحه، فلما أبى أوغر صدر السلطان عليه، فقتله.

- السلطان لا يثق بالأدباء والعلماء ولا يحبهم، بل يكرهههم.

- خالي يعتبر العلم والأدب من الأسلحة التي يستخدمها أهل البدع من القرامطة والمعتزلة والرافضة والإسماعيلية وغيرهم...

- وقى الله العلماء والأدباء شرّ السلاطين الجهلة والحكَّام الظَّالمين.

وإذا بريحانة تعود إلى النشيج والبكاء. فيتعجّب البيرونيّ من سخاء دموعها، فتقول له:

- لا أبكي على نفسي، بل عليك.

- عليَّ!

- سمعت السلطان والوزير يهدِّدان بانهما سيُلحقانك بالفردوسيّ إن صدر عنك أي هجاء لهما. فلا أدري من أخبرهما بأنك تحمل على السلطان في كتاباتك، وتتَّهمه شتى الاتِّهامات. فقصدت خالي وأقنعته بأنها مجرّد افتراءات عليك، وأنك منهمك في العلم، منقطع له. لكنه كان بين منكرٍ لقولي ومصدّق. وأظن أن المحرّض هو الميمندي نفسه، لأنه يعرف عاطفتي نحوك.

- بل ما نقلوه من حملتي عليه صحيح. وقد أنزلته في كتاني عن الهند. فالسلطان محمود خرَّب الهند، وشتَّت سكَّانها، وهجَّر علماءها، وضيَّع علومها، وسبَّب نفور أهلها من المسلمين.

- بالله عليك، لا تقل هذا وإن يكن صحيحًا. فإذا لا تأخذك شفقة على نفسك، فليكن رأفةً بي.

واسترسلت ريحانة في البكاء، وأخذت تتوسّل إلى البيرونيّ ليفر معها إلى مكان بعيد لا تطاله يد خالها ولا يدُ وزيره. لكنه أظهر لها من الصلابة والجرأة في موقفه واللامبالاة بحياته ما جعلها تخاف حقًا على سلامته. ولما أصبح الليل في هزيعه الأخير، ودّعته على مضض وانصرفت.

الفصل الثاني عشر

 

وذات يوم قدم إلى السلطان رسول من أطراف بلاد الترك وكان البيرونيّ حاضرًا. فروى أنه وصل في تجواله البحري إلى مكان في أقصى الأرض تبقى الشمس فيه ظاهرة بحيث يبطل الليل. فقال السلطان:

- هذا هراء، بل إلحادٌ وكُفر. ما قولك، يا أبا الريحان؟

فقال البيرونيّ:

  • يا مولاي، هذا الرجل لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه، بل عن مشاهدة يحكيه. وقد جاء في القرآن الكريم: (وجدها تطلع على قومٍ لم نجعل لهم من دونها سترًا).
  • فردّد الحضور: صدق الله العظيم. ثم تابع البيرونيّ مُوضِّحًا:
  • ولا شكَّ بأنه تعالى يعني طلوعها على أولئك القوم الذين يحدّث عنهم هذا الرجل، وهم مقيمون في جوار القطب الشمالي. فثمة أماكن لا تغيب فيها الشمس وراء الأفق في الانقلاب الصيفي.
  • وينفضُّ المجلس، بعد أن يعلن السلطان أنه يشعر ببعض التعب وهو راغب في الراحة. أما البيرونيّ فقبل انصرافه جاءه خادمٌ يحمل إليه رسالة. ففتحها، وإذا نصها:

"كنتم تتحدَّثون عن الشمس التي تشرق وتغيب، وأنا وراء القضبان المشبكة كنت لا أرى إلا شمسًا واحدة لا تغيب: إنها أنتَ. ليتني لم أتزوج الميمندي. معه أشعر أني سجينة، والقصر سجن كبير. أبا الريحان، صورتك تملأ كياني، وصوتك المعلم لا يبارح أذني. كلماتك تهزّني، ومواقفك النبيلة أين منها مواقف من شاءه القدر لي زوجًا. من حقك أن تسخط عليّ، ولكني أعرف أن قلبك الطيب لا يحزن الحقد. لا تضنّ عليّ بنظراتٍ منك ولو غاضبة. أنا مستعدّة للتخلّي عن زوجي وعن القصر للذهاب معك والعيش في تلك البلاد التي لا تغيب الشمسُ عنها.

                                                               ريحانة

وأخذت ريحانة تكثر من رسائلها إلى البيروني حتى شكّ الميمندي بأمرها، فأخذ يتجسّس حركاتها حتى اكتشف حقيقة الأمر، فأضمر لها الشر؛ ولم يكن يمنعه عن تنفيذ رغبته سوى خوفه من السلطان لكونه خالها.

   لكن مدّة الانتظار لم تطل. فسنة 422هـ 1030 م حدثت المفاجأة. فبينما كان البيرونيّ ما يزال يعمل في غرفته بمنزل راجا الحكيم، وجونى ووالدها نائمان، طرق الباب طرقًا عنيفًا، فهبّ الرجل العجوز يسأل وابنته إلى جانبه:

  • من الطارق في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ فتجيبه ريحانة:
  • بالله عليك افتح، فأنا تلميذةُ أبي الريحان البيرونيّ.
  • ويفتح الباب، فتدخل الأميرة وهي ملثَّمة ومتنكِّرة بزيّ فارس. فتجلس على مقعد وهي تقول:
  • يكاد الإعياء يقضي عليّ. أين أبو الريحان؟ أريد أن أراه.
  • فتقول جونى ولم تعرفها:
  • أفي مثل هذه الساعة وقد مضى الهزيع الثاني من الليل!
  • فترفعُ ريحانة اللثام عن وجهها بغضبٍ قائلة:
  • أمن الضروري أن أرفع اللثام لتعرفي أني الأميرة ريحانة ابنة الحسين؟:

فتشير جونى إلى باب غرفة داخلية والاستياء بادٍ على وجهها فتتقدّم ريحانة إليه وتطرقُه ثم تدخل بدون استئذان. فيُفاجأ البيرونيّ ويقول:

  • حَرَمُ الوزير في دارنا والديكُ يكاد يصيح! فما الخطب؟
  • اسميتني اسمًا أتمنّى زواله.
  • وتسترعي نظرها خريطة للسماء مبسوطة على منضدة، فتقول له:
  • أنت منهمكٌ في إحصاء النجوم ورسم خريطة جديدة للسماء، والأرض قد انشقَّت وخربت تحت قدميك! السلطان مات، يا أبا الريحان، والميمندي وجد الفرصة مؤاتية فحاول اغتيالي، فعرفت بالمكيدة من أحد غلمانه، قبل تنفيذها، وفررت إليك.
  • فررت إلى من تجبُ حمايته من غضب الوزير، وتركت ابن خالك الأمير مسعود!

فتجهش ريحانة بالبكاء قائلة:

  • الأمير مسعود بدأ حربًا ضد أخيه الأمير محمد للاستئثار بالسلطة.
  • والوزير؟
  • يعيثُ فسادُا في البلاد، وقد يكون الآن يبحث عني.
  • أتريدين أن ينال الأذى هذه الأسرة الكريمة التي أنزلتني بضيافتها؟
  • أبهذه السهولة تتخلَّى عنّي، يا أبا الريحان؟
  • أنا لا تهمّني حياتي، ولكن لا أريد أن أسبّب بتصرفي أذى لعائلة لها فضلٌ كبير عليَّ.
  • أنت لا تريدني أن أنزل هنا لأنك لا تريد تصرفاتك مراقبة؛ فقلبك أصبح مشغولاً بها هي اللعينة.

وتسمع جونى كلام الأميرة التي كانت تتحدَّث بحدِّة ونبرة عالية، فتطرق الباب وتدخل قائلة:

  • سامحكِ الله...
  • ثم تلتفتُ إلى البيرونيّ قائلة بأسى نطقت به أساريرها:
  • يا أبا الريحان، إذا كان والدي لا يمانع، فأنا لا مانع عندي من أن تنزل ضيفةً مكرّمة في دارنا.

فيقول البيرونيّ وقد تأثر من عاطفة جونى النبيلة:

  • بودي أن أبعد الخطر عنها، لكن لا أريد أن أنقل الخطر إليكما.

فتجهش ريحانة بالبكاء قائلة:

  • حبّك لي انقلب إلى بغض.
  • لا أتجاهل أنكِ في حُرمة رجل آخر.
  • حُرمةِ رجلٍ يعترمُ قتلي لأنه اكتشف أني أحبّك!
  • أنا أتنازلُ عن غرفتي للأميرة، يا أبي، وغرفتك، على ضيقها، نقسمها بحجابٍ قسمين: واحدٍ لي وآخر لك؛ فرجائي ألا تردّ طلبي يا أبي.
  • فيقول راجا الحكيم:
  • ما دامت هذه رغبتك، فليكن ذلك. لكن شرط ألا تخرج الأميرة من المنزل طوال إقامتها فيه.

في هذه اللحظة الحاسمة أضاء في نفس البيرونيّ نبلُ جونى، وتأكَّد له أن النبالة ليست في الحسب والنسب وكثرة المال، بل رُبَّ فقير مهان يكون له من السمو ما يفوق أعاظم الأرض. وكان بودِّه أن يُفصح عما يجولُ في فكره أمام الأميرة، لكنه لم يشأ إهانتها وهي على تلك الحالة من القلق والخوف، فاكتفى بقوله لجونى:

  • بوركتِ، يا جونى، وكافأكِ الله على عملك النبيل.

وتمضي عدة أشهر والحرب قائمة حتى يدخل السلطان مسعود مدينة غزنة، عاصمة ملكه، في 3 حزيران سنة 1031م، بعد أن ينتصر على أعدائه. وتعود ريحانة إلى القصر محتمية بابن خالها الذي أصبح سيده. أما البيرونيّ فيستدعيه السلطان الجديد إلى البلاط، فيجلسه بجانبه، ويقول له:

  • يا أبا الريحان، ماذا تقولُ في رجلٍ يجمع الكتب ويُباهي غيره بامتلاكها ولا يقرأها؟
  • مثلُ هذا الرجل، يا مولاي، كمثل البخيل الذي يملأ خزائنه بالمال ويغلقها بالأقفال.
  • أما أنا، يا أبا الريحان، فلا أريد أن أكون ذلك الرجل. في مجالس والدي – رحمة الله – كنتُ أصغي إليك، فأعظمك في سرِّي، وأعتبُ على دهري لأنه جعل الملك القادر كارهًا للعلم والعلماء، وجعل ابنه القاصر شغوفًا بالحكمة والحكماء.
  • لكنك الآن، يا مولاي، أصبحت منفردًا بامتلاك الخافقين، ومُستحقًا عن جدارة اسم ملك الأرض، فأخلق بمكانتك السامية أن تطلب فنون المعرفة ووجوه الحقائق، وأن تنصر العلم والعلماء في مملكتك.
  • وهذا ما أعتزمه بإذن ربي. فباشر وضع الكتب المفيدة في جميع العلوم، وما تحتاج إليه من مال ورجال فأنا أقدّمه إليك. وليكن عقلك هاديك، وكتابُ الله حاميك، فأنت أثمن دُرة أزينُ بها تاجي وأفاخر الأمم ولتكن سكناك على الدوام في قصري، وبجواري، حتى لا تفوتني فرصةُ الاستماع إلى آرائك وحكمتك كلما سنحت الفرصة. والآن، إلى اللقاء في صباح الغد.
  • ويتّجه البيرونيّ إلى الجناح المعد له برفقة بعض الخدم، فيرى ريحانة تنتظره عند مدخله، فتقول له:
  • ها أنت تقبل أخيرًا إلى القصر، المكان اللائق بمكانتك، إلى حيث أشعر أني في مملكتي، أستمع إلى صوتك وأتملَّى وجهك دون أن ينغص عيشي رجلٌ أو تبعدني عنك امرأة.
  • تتكلمين، يا ريحانة، كأنك كنت في غربةٍ عنّي مع أننا أمضينا معًا عدة أشهر في ضيافة راجا الحكيم وابنته، لا يفصل غرفتك عن غرفتي إلا جدارٌ واحدًا، ولكن دون اختراقه جبالٌ وبحار. جدارٌ كان عليه حارس أشبه بتنين الأساطير اسمه جونى.
  • عجبًا لكِ، يا ريحانة! أشهرًا استضافتكِ جونى في حماها، وتخلَّت لكِ عن غرفتها، وغمرتك بعطفها، وعرَّضت والدها ونفسها للخطر المبيد... وها أنتِ تقدحين بها!
  • سلبتك مني، سلختك عن جسدي! ليتك كنت تسمعُ أعماقي وهي تصرخُ من الألم حينما كنتُ أرى عينيها تحدجان عينيك وترعيان وجهك كأنما ترعى نجوم السماء!
  • غيرتك قاتلة، يا ريحانة!... غيرتك قاتلة!...
  • ليتها تقتلني... أو تقتلها.

 

 

 

الفصل الثالث عشر

ويطمئن البيرونيّ في كنف السلطان مسعود، فينصبُ على تأليف الكتب العلمية النفيسة. ويكثر السلطان من دعواته له للاستئناس برأيه السديد والاستنارة بحكمته الرشيدة إلى أن يحلَّ عيدُ المهرجان. فيعقد السلطان مجلسه بأبهةٍ في قصره بغزْنَه، وتقامُ الزيناتُ المبهجة للأنظار، وتمَد الطنافسُ الفراسية، ويحتشد العلماء والأعيانُ والشيوخ لابسين طيالسهم الخضراء، ومن وراء الحواجز المشبكة تطلُّ العيون الكحلاء تزيدُها الحجب النصفية الهفهافة سحرًا وتميسُ القاماتُ الرشيقة الرافلة بالديباج المطرَّز...

فيبدو القصر بقاعاته وباحاته، في موَجَان الألوان القزحية، كأنما انتقل من عالم الجنّ!

كان صدر القاعة على شكل قوسٍ يتصدره السلطان وإلى جانبيه أكابرُ الأعيان وبينهم البيرونيّ. وكانت الأميرة ريحانة، مع قلائل من نساء الأشراف، جالسة في الطرف الأقصى من يمين القوس وهي في ثوبٍ حريري ملوّن، وعلى وجهها خِمارٌ أرقُّ من أجنحة الفراش. كانت عيناها، بين الفينة والأخرى، تحطان على وجه أبي الريحان كصقرين جائعين ثم تحومان في القاعة الفيحاء إيهامًا، لتعودا فتحطا على محيّا العالم الشهير...

ويلتفتُ السلطان مسعود إلى البيرونيّ قائلاً والاحتفال لم يبدأ بعد: "لعمري، يا أبا الريحان، إن كتابك في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: لَسفرٌ ضخم جليل، شرحت فيه، دونما تحيّز، عادات أهل الهند وتقاليدهم وعقائدهم وعلومهم. لكنك في كتابك حملت على والدي – رحمه الله – وهاجمت غزواته التي أدَّت، حسب زعمك، إلى خراب الهند وتشتيتِ أهلها، وضياع علومها. ذلك كان تجرؤًا غاليت فيه إذ قدحت بالسلطان ولم تراعِ جانبه!"

فيجيبه البيرونيّ: "الحقُّ وحده، يا مولاي، هو ما يجب أن يُراعي جانُبه. والعالمُ عليه أن يقولَ الصدق، ولو كلفه حياته. فقد قيل: قولوا الحقّ، ولو على أنفسكم. وقال المسيحُ – عليه السلام – في الإنجيل ما معناه: لا تُبالوا بصولة الملوك في الإفصاح بالحقّ بين أيديهم، فليسوا يملكون منكم غير البدن، وأما النفس فليس لهم عليها يد.".

  • حجّتكَ قاهرة يا أبا الريحان، وأخلاقكَ مستقيمة. ومذ كنت أستمعُ إليك في مجالس والدي، جعلت شعاري قولاً لك: "مدارسةُ أخلاق الحكماء والعلماء تحيي السنَّة الحسنة، وتميتُ البدعة السيِّئة... والسُّننُ الصالحة علاماتُ الخير والحقّ".
  • والآن لنبدأ احتفالاتنا بيوم المهرجان.

ويشير السلطان، فتنفخُ الأبواقُ من جانبي القاعة، وتقرعُ الطبول. وإذا بجماعةٍ من الرجال ذوي السِّحن الغريبة يدخلون بأزياء عجيبة وعلى رؤوسهم قُبعاتٌ عالية مخروطية الشكل. فيردّد الحاضرون: "بسم الله الرحمن الرحيم". ويقف السحرة صفًا أمام السلطان، يتوسّطهم كبيرهم ويحنون هاماتهم قائلين: "سلام الله على مولانا السلطان. فيردُّ السلطان مسعود": وعليكم السلام. هيا أرونا سحركم". فيتقدّم كبيرهم ويقول بإيقاعٍ عصبي، ويردِّد السحرة قوله:

هيا استنصروا ملك الليل

هيا استنفروا الجنّ الأحمر

من يقربكم فله الويلْ

قولوا الله... الله أكبر.

مدّوا العصيّ

ألقوا العصيّ

تتحوَّل لأفاعٍ تلوي ليّ.

فيصيحُ الحاضرون باختلاطٍ وجلبة

  • أفاعٍ... أفاعٍ... العصيُّ انقلبت أفاعي!...
  • ويلتفت السلطان إلى البيرونيّ سائلاً:
  • ماذا تقول، يا أبا الريحان، في علمهم؟
  • يا مولاي، إن كانت أ‘مالهم من فنون التسلية، فلا بأس، ولكن إن زعموا أنها علم خفيّ، فذلك كذب وباطل. فالسحرُ كله لا يعدو أن يكون إظهار شيءٍ للبصر خاصة وللإحساس عامة بصورة تبدو على خلاف حقيقته، وذلك ليس عن طريق التأثير في الحواس حسبما يزعمُ بعضهم، ولكن عن طريق التمويه والخداع. أما إذا اعتقد في السحر اعتقاد العوام والجهلة من أنه ايجاد المستحيلات الممتنعات وصُنع الخوارق، فقد خرج أمره عن التحقيق، فإذا امتنع الشيءُ، واستحال، لم يوجد أيضًا. وهكذا فالسحر لا يدخل البتَّة في أي علم، إنما هو ألاعيبُ تنطلي حيلتها على الناظرين بالغشِّ والتمويه.
  • فيقول السلطان مدهوشًا: "ولكن كيف فعل هؤلاء السحرة ما فعلوا حتى تحوَّلت عصيهم أفاعٍ.
  • هل صحيحٌ ما يقوله أبو الريحان البيرونيّ، يا كبير السحرة؟...
  • !!!
  • ما بكم لا تجيبون؟... لماذا أنتم صامتون صمتَ القبور!...
  • ويحتدُّ السلطانُ، وتبدو سِماتُ الغضبِ على أسارير وجهه، فيصيحُ بهم: "هيا ابسُطوا أيديكم نحوي، وإلا بترتُها من أعناقها. أروني ما في داخل أردانكم... هيا... ماذا! العصي موجودة داخلها!... "فيزدد الحضور في جلبة: "العصي داخل أردانهم!... العصي في أكمامهم! يجبُ تأديبهم". فيقول السلطان غاضبًا: "مُخادعون... مُخاتلون... ومن أين أتت الأفاعي، يا أبا الريحان؟:
  • يا مولاي، هذه الأفاعي انتزعوا أنيابها حتى لا تلدغ، ودرَّبوها لكي تبقى طيّ اردانهم إذا حضروا أمامنا، حتى إذا أدخلوا العصي في الأردان فلامست الأفاعي، قفزت إلى الأرض، فخيّل للناظرين أن العصي قد تحولت أفاعي. وإنما هي خدعة قديمة من أخاديع السحر، ذُكرت في التوارة في القرآن الكريم، إذ كانوا يجرونها في بلاط الفراعنة. ألا ترى، يا مولاي، إلى ما قاله عزَّ وجلّ في كتابه الكريم: "فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقفُ ما يأفكون"؟ فيردِّد الحاضرون: "صدق الله العظيم". ويردف البيرونيّ: "والإفكُ إنما هو الكذب. فأعمالهم كذبٌ بكذب".
  • ويهيج السلطان، فيضرب كبير السحرة بكأسٍ كانت أمامه قائلاً: "كذَّابون مُخادعون. اغربوا عن وجهي قبل أن يستفحل غضبي عليكم فأجعلكم أمثولة الناس. والله يا أبا الريحان، لولاك لبقيت حيلهم مُنطلية علينا".
  • يا مولاي، مثل هذه الخدعة، التي سمُّوها علمًا خفيًا، أخاديع كثيرة سموها أيضًا علومًا، وصدق بها الناس، دونما بُرهان، إنما استنادًا إلى السماع فقط. لكنها عند التجربة يُفضح زيفها. فالعلم لا يقوم على السماع بل على الاختبار.
  • يا أبا الريحان، زِدنا إيضاحًا وعِلمًا، زادَ الله في عُمرك.
  • إليك هذا المثلَ، يا مولاي: سافرَ رجلٌ مع تلاميذه ليصرِّفَ بعض شؤونه في أواخر الليل. فظهر أمامهم شبحٌ على الطريق لم يستطيعوا أن يتبيَّنوا حقيقته في دياجير الظلام، فاتّجه الرجلُ إلى تلاميذه وسألهم واحدًا بعد آخر: ما هذا الشيح؟ فقال الأول: لا أدري ما هو. وقال الثاني: لا أدري، ولا أستطيع أن أعرف ما هو. وقال الثالث: لا داعي للبحث عن حقيقته، لأن ضياء النهار سوف يكشفُ عن أمره. ومن ذلك يتبين أن أحدًا لم يتوصل إلى العلم به: الأول لأنه يجهله، والثاني لأنه لا يجد سبيلاً للعلم به، والثالث لأنه كسلان، راضٍ بجهله. ولكن التلميذ الرابع لم يُحِر جوابًا، بل وقف ساكنًا، ثم اتّجه إلى الشيخ. وعندما اقترب منه وجد أنه ثمرةُ يقطين عليها رُكامٌ من الأشياء المتشابكة... ثم اقترب منه أكثر ورفسهُ بقدمه، فانهال على الأرض، وإذا هو مزبلة. ولما زال في نفسِه كل شكّ عاد إلى أستاذه وأخبره بالنبأ اليقين.
  • لا فُضّ فوكَ الذهبيُّ، يا أبا الريحان.
  • ثم يأمر السلطان بدخول الراقصات والمغنيات، فتموج القاعة بقاماتهن الفارعة الميساء وبأنغامهن الصادحة. وبعدئذٍ يخرج الجميع إلى الطرق والساحات يحتفلون بالعيد.
  • وما إن يخرج البيرونيّ إلى باحة القصر حتى تهرع إليه جونى التي كانت تنتظره بفارغ الصبر. فتطلب إليه أن يسرعَ إلى والدها فيعالِجَ المًا مُبرحًا دهاه وكاد يودي بحياته. وكان الدمعُ يترقرقُ في عينيها فتبدوان كحمامتين طفلتين تغتسلان في بحيرتين مائجتين تتكسر على مائهما أشعةُ القمر!
  • وإذ تكونُ الأميرةُ ريحانة ترصدُ أبا الريحان من إحدى نوافذ القصر، تراهُ بصُحبةِ جونى، فتثور الغيرة في نفسها، وتؤجج عروقها نارٌ آكلة، فتستدعي اثنين من الخدم الأشداء وتريهما الفتاة من النافذة، وتُعين لهما موقع منزلها، ثم ترشيهما بمبلغ كبير موعزة إليهما بأن يترصَّداها ويهلِكاها، وإذا حماها أبو الريحان فليقتلاه معها.

ويطرق حديث ريحانة مسمعَ سيف الدين، شقيقِ ياسمين، الذي أصبح يُناهز السابعة والثلاثين من عمره: وكان قد انضوى تحت لواء السلطان مسعود، وأظهر من البسالة والشهامة ما جعل السلطان يعينه في عداد حرس القصر بغزنة. وطالما روت له شقيقته عن علم أبي الريحان وفضائله، وعن إنقاذه له من الموت يوم انتزعهُ أحدُ الفرسان الغلاظ من يدي أمّه، فرماهُ في النهر، وبقرَ بطّنه. وكان سيفُ الدين قد تزوج مريم ابنة أبي سهل المسيحيّ، وصديقة ياسمين، فزادت أخبارُها عن البيرونيّ محبّته  له. فلما تكشفت له مؤامرة ريحانة – ولم تكن تعلم بنسبة أو تشكُّ بأمره – أسرع فاعتلى جواده.، وحاول اللحاق بالبيرونيّ.

كان أبو الريحان قد امتطى جواده قبل حوالى عشر دقائق، وجعل جونى وراءه متشبثة به، ورجلاها مضمومتان ومرخيتان إلى الجانب الأيسر من الجواد، واستحثّ جواده على الإسراع.

وحينما أصبحَ في ضواحي غزنة أخذت تتبدى لعينيه أزقهُ القرى الهندية الفقيرة بأكواخها الوضعية وركام أوساخها وخمول أبنائها. فهنا شبان وشيوخ جالسون القُرفصاء في الشمس المُحرقة وهم شبع عراة والذبابُ يكاد يغطي وجوههم وأبدانهم؛ وهناك آخرون قد دفنوا أجسامهم في التراب، فلم تظهر منهم إلا الرؤوس، وذلك لتوهُمهم أنهم بذلك يطهرون أنفسهم؛ وهنالك نساءٌ يغسلن الثيابَ القذرة بمياه النهر، ومن مجرى النهر نفسه أُخريات يستقين!...

كان جوادُ أبي الريحان يُسرِعُ في عدوه، وشتى الأفكار تتسارعُ في خاطره؛ الشعوبُ الخاملةُ تتغلّب عليها الشعوبُ النشيطة؛ والشعوبُ المُستسلمة للدعة والرخاء تتغلّبُ عليها الشعوبُ المتقشفة، وذاتُ البسالة وخُشونة العيش، والشعوبُ التي تبطر وتكفر بنعم الله، يُذيقها الله (لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)... وإذا بصوتٍ يناديه: "أبا الريحان... أبا الريحان". فيلتفتُ إلى ورائه وقد أصبح على مسافة بضع دقائق من منزل راجا الحكيم، فيرى سيفَ الدين، ولم يكن يعرفه؛ فيطلب الفارسُ أن يختلي به لحظات. فيترجّل كلاهما. ويعرفه سيفُ الدين بنفسه، ويطلعه على المؤامرة المحبوكة. فيقول له أبو الريحان: "تلك هي عدالةُ السماء، يا سيفَ الدين. أنقذتُكَ في صغرك، فأنقذتني في كبري. دع الأمر سرًا بيننا، وتابع طريقك ومهمّتك، واحتجب عن الأنظار وراء بعض الصخور بجوار منزل راجا الحكيم، وراقب المتآمرين؛ فقد يتربّصان بي وبجونى هناك".

      وافترقا ليتابعَ كلٌّ منهما طريقه ومهمّته. وما لبثَ البيرونيّ أن وصل إلى منزل راجا الحكيم. فدخل مسلمًا فرحبَ به راجا بصوتٍ متهدّج، وقال:

  • الألمُ مطبق على صدري. أكادُ أختنقُ من ضيق نفسي.
  • دعني ألمسُ جبهتك... أعطني يدك... تنفسْ عميقًا... أتشكو ألمًا في ذراعك؟
  • أجل، ذراعي اليُسرى تؤلمني.
  • سأخرجُ وآتي لك ببعض الأعشاب، فتغلي لك جونى منها لتشربها كوبًا كل ثلاث ساعات. ابقَ في فراشك هادئًا، يا راجا الحكيم.
  • أارافقه يا أبي؟
  • رافقيه، يا ابنتي، رعاكُما الله.

وتقول جونى لأبي الريحان:

هلا تذهب شمالاً، ففي الناحية أعشاب كثيرةٌ تختارُ منها ما تريد للعقاقير.

  • حسنًا.

ويأخذ البيرونيّ يجمع بعض الأعشاب الطبية... وإذا به يرى صنمين عملاقين.

  • يا للهول! ما هذا، يا جونى؟
  • إنهما صنما باميان.
  • صنمٌ أحمر يمثلُ رجلاً يبلغُ ارتفاعه ما يزيد على ستين ذراعًا، وصنم أبيض يمثل امرأة تقارب الأربعين ذراعًا، وهما منحوتان في صخرةٍ عظيمةٍ أراها تهيمنُ على الوادي كُله! مَن، يا تُرى، يمثّل هذان الصنمان؟
  • يعتقد أهالي بلخ أنهما حبيبان تحوّلا إلى حجر، ويروون عنهما قِصصًا شتى.
  • حبيبان تحوّلا إلى حجر! إنها لفكرة مُدهشة؟! ولكن لماذا مسخهما الله فحوَّلهما إلى حجر؟

فتضحك جونى ضحكةً لطيفةً ثم تقول:

- لستُ أعلم، يا أبا الريحان.

- إذن اسمعي قصتهما: الصنمُ الكبيرُ الأحمر كان وزيرًا. والصنمُ الصغيرُ الأبيضُ كان اميرة. وأحب الوزير الأميرة فتزوّجها، وتبادلا الحبّ شهوة بشهوة. لكن الأميرة ما لبثَ قلبها أن تحوّل إلى رجل آخر، رجلٍ أحب العلوم حتى وقف لها نفسه وحياته. لكن هذا الرجل العالِمَ كان قلبُه يميلُ إلى فتاةٍ روحانية الميول، لطيفةِ العِشرة، فتاةٍ تشبهكِ، يا جونى.

- تشبهني!

- وسرعان ما اكتشف الوزيرُ أن امرأته تحوَّل قلبها إلى رجل سواه، فصمم على قتلها، ولكنها هربت منه. والأميرةُ لم يتَّسع صدرها لرؤية فتاةٍ أخرى تشاركها في حبّ من مال قلبها إليه. فحقدت عليها وصمَّمت بدورها على قتلها وقتله. وبعد مُدةٍ توفي الوزيرُ والأميرة، فمسخهما الله لهذين الصنمين الصخريين.

أتعرفين لماذا، يا جونى؟
- لأن قلبيهما كانا بِقَسوةِ الصخر، فحوَّلهما الله إلى صخر.... ولأنهما كان مرتبطين برباطٍ شرعي فأرادت المرأة الفكاكَ منه بالطريق الحرام، قيَّدها الله بالحجر الجلمد إلى جانب زوجها حتى الأبد.

  • أصحيحٌ ما ترويه؟
  • هكذا تقولُ القصةُ التي سأكتبها.
  • القصة التي ستكتُبها أنتَ!
  • أجل وتقولُ القصّةُ أيضًا إن النفسين الحالتين في الصنمين يسمح لهما بأن تخرجا في الظلام من قيودهما الحجرية لتظهرا على قُساةِ القلوب من العشاق الخونة لتؤدّباهم.
    وفجأة يسمع أبو الريحان انهيار حجارة ثم سقوط جسمٍ فيصبح:
  • ابتعدي يا جوني، إنه انيهار ...
  • يا إلهي! امرأةٌ سقطت!...

ويركضُ كلاهما نحوها. وإذا أبو الريحان يقفُ مشدوهًا:

  • مَن! ريحانة؟ أسعِفيها، يا جونى، رأسُها ينزف!...
  • لا حولَ ولا قوة إلاّ بالله! كيف سقطتِ؟ وأينَ كنتِ؟...

أغمِيَ عليها... هيا نحملها إلى منزلك، يا جونى، فهو الأقربُ من هنا.

وما إن نقلاها إلى المنزل حتى عالج البيرونيّ رأسها النازف وربط ضِمادًا حوله، وطلب إلى جونى أن تقُرب عطرًا أعدَّهُ عساهُ ينعشها، ثم مضى يعالج والدها. فما لبثت ريحانة أن فتحت عينيها، فرأت جونى تُسعِفها، فقالت:

  • ليتني مُتُّ.
  • لِمَ تقولين هذا، يا ريحانة؟ حمدًا لله على سلامتِك.
  • أنا القاتلة... أنا الممسوخة صَنَمًا...
  • إنها تهذي!...
  • كنتُ أنوي قتلكِ، فدحرجتُ صخرةً من فوق أردتُها تهوي عليكِ، فإذا بي أهوي فوق الصخرة الساقطة، وتعلق الصخرة... وأسقطُ أنا!
  • ماذا تقولين؟
  • إنها الحقيقة.
  • سامَحكِ الله، يا سيدتي... سامَحكِ الله.

في هذه الأثناء كانَ يُسمَعُ صوتُ راجا الحكيم يقولُ لأبي الريحان.

  • صدري.... أكادُ أختتنق... الألمُ يحزُّ صدري.

فيقولُ البيرونيّ له: "خُذْ، اشربْ هذا الكوب، فهو سيُسكنُ ألمك". وإذْ تسمعُه ريحانة تقول: "ليتَ ألمي يسكُن، بل ليتَ خفقانَ قلبي يسكن إلى الأبد... أنا الفاشلة حتى في الموت!"

وبينما كان الصمتُ الحزينُ يَرينُ على الجميع كضبابٍ رصاصي ثقيل، قُرعَ الباب... وإذا بسيف الدين يدفعُ أمامه رجلين مُلثمين مُقيَّدين قائلاً لأبي الريحان: "هذان هما المجرمان". فيقولُ له البيرونيّ:

"كافأك الله أيها الشهمُ البطل. سنُسلمهما إلى السلطان، فتقتصُّ العدالة منهما" وسرعان ما يُلاحظ أبو الريحان أن يد سيف الدين اليمنى تنزف، فيسرع ويعالجها ويضمّدها. وينبري سيفُ الدين يروي لأبي الريحان كيف دار القتالُ بينه وبينهما، وكيف أن ريحانة دحرجت حجرًا كبيرًا أرادته يهوي على جونى، عندما شعرت أن مؤامرتها قد انكشفت.

الفصل الرابع عشر

بينما كان البيرونيّ       مُكبًّا على الكتابة في جناحه بقصر السلطان مسعود، سِمعَ بابَ غرفته يفتحُ ثم يُغلَق؛ وإذا ريحانة مُنتصبة على مقربةٍ منه وهي متدثرة برداء داكن، والضمادُ ما يزالُ على رأسها وفوقه حجابٌ نصفي مردودٌ إلى الوراء. فيخاطبها وقد فوجئ بها:

- ريحانة! حمدًا لله على سلامتك.

- إن أردتَ أن تهنئني، فلتكن لا على بقاء حياتي بل على انتهاء حياته.

- انتهاء حياتهّ! حياةِ مَن؟

- أحمد بن حسَن الميمَندي... زوجي الذي مسخَهُ الله صَنمًا من حَجر!

- رحِمَه الله.

- أتطلب الرحمة لِمَن أراد اغتيالي!

- ألا أطلُب الرحمةَ لكِ، يا ريحانة، وقد حاولتِ أنتِ أيضًا، اغتيالَ جونى!

- كلا... فأنا أيضًا حلَّت عليَّ لعنةُ الله، فمسخني صنَمًا من حجر!

- تتكلمين كَمَن فقد صوابه!

- أفقدتني صوابي. أجبني، أيها المتمسّكُ بسُنَّةِ الإسلام والمتحرِّج من الحرام. مَن كنتُ في حُرمتهِ مات. أتُدخلُني في حُرمتِك؟

- ناهَزتُ الستين، يا ريحانة، وسرعانَ ما أقرعُ بابَ القبر!

- أتزوَّجكَ ميتًا، أتزوجُكَ في القبر، لكن لا أريدُ لي ضرَّة.

- كلامُكِ هذَيان!... كلامُكِ جُنون!...

      ويُقرَعُ الباب، وإذا صوتٌ ناعمٌ يستأذنُ للدخول. وما هي إلا لحظات حتى تكونَ جونى واقفة إلى جانب ريحانة. كان خدّاها متوهجين خفرًا، وعيناها كمحارتين عجيبتين تذرفان ما في قلبيهما من لُؤلُؤٍ مكنون! كان على رأسها منديلٌ حريريٌ أرجواني، وعلى جسمها ثلاثُ غلالاتٍ متدرجةٍ في طولها: بيضاء، فزهراء، فبنفسجية. وكانَ بين يديها شيءٌ ملفوفٌ بقُماشةٍ ناصعةِ البياض.

سألها أبو الريحان مدهوشًا من مجيئها:

  • ما الخبرُ يا جونى؟
  • والدي تُوفيَ...
  • راجا الحكيم الكريم...
  • وأحرقَ الكهنةُ جثته...
  • كان رجُلاً طيبًا نبيلاً... رحمه الله.
  • وذَرُّوا رماده فوق النهر...
  • وترفع جونى الغطاء الأبيض عن الشيء الذي تمسكُه، فإذا هو قرصٌ من العقيق الأحمر والجزع؛ فتقدمه إلى البيرونيّ قائلة:
  • اعطاني والدي هذه الجوهرة قبل موته، وطلب إليَّ أن أقدِّمها إليك لتحتفظ بها، لأنك وحدك تستحقها. فيتناولها البيرونيّ ويقلّبها بين يديه قائلاً بعجب:
  • هي جوهرةٌ عملاقةٌ نادرة نحتتها يدُ الطبيعة الصنّاع بشكلِ بطةٍ كأنها تسبحُ في الماء، أو ترقدُ على البيض!
  • طالما حلمتُ أنني بطة!

وكأنما استفاق أبو الريحان فجأةً من حُلُم فإذا به ينظرُ إلى جونى مُستغرقًا والدهشةُ طاغيةٌ على ملامح وجهه وناطقة في عينه. فقد عاودته صورُ الحُلم العجيب الذي رآهُ إذْ كان في السابعة والعشرين من عمره، بعدَ أن فرَّ من خُوارزم. يؤمئذٍ روى الحُلُمَ لأبي سهل المسيحيّ ولابن سينا، فتعجّبا منه، لكن لم يستطع أحدٌ تأويله. وها هو تأويله يتجسّدُ الآن أمامه! فأخذَ يروي الحلم وهو مأخوذٌ بما حدث، بينما كانت الدموعُ تتساتلُ من عيني جونى، والأحمرارُ الناريُّ يتقدُ في ناظري ريحانة. وما إن فرغ من رواية الحُلُم حتى استرسلت الأميرةُ في قهقهةٍ جنونيةٍ وانصرفت.

أما جونى فركعت أمامه قائلة:

  • مات والدي، يا سيدي، فصرتُ وحدي أُناجي طيفه، وأُناجي شبحَ الموت. أبي تركني، وأستاذي تخلّى عنّي، ولا عزاءَ لي، ولا أمل...
  • تصبَّري يا جُونى؛ معاذَ الله أن أتخلّى عنكِ.
  • إقبلني خادمةً في منزلك. تعليمُكَ لي حرَّرَني واستعبدني، فاسمحْ بأن أعبّر عن عرفاني لجميلك بأن أخدُمكَ طول حياتي. فليسَ من أحدٍ يهتمُّ بكَ ويُعنى بشؤونك مثلما يجب.
  • وأنهضَ البيرونيّ جونى وطمأنها واعدًا إيَّاها بأنها ستكون من بين الكتبة القلائل الذين سيُملي عليهم مؤلفاته. لأن نظرهُ بدأ يضعف.

***

وتعودُ جونى إلى منزلها ريثما يدبر البيرونيّ لها غرفةً في جناحه ويُرسِل في طلبها. وما إن تنصرف حتى يستدعي السلطان مسعود أبا الريحان؛ فيمضى إليه حاملاً كتابه العظيم "القانون المسعودي في الهيئة والنجوم"، فيقدّمه إليه قائلاً:

- آثرتُكَ، يا مولاي، بهذا الكتاب، ووسمته باسمك الكريم. إنهُ خيرُ كُتبي أهديه إلى خير الملوك.

 - شكرًا لكَ، يا أبا الريحان، ومدَّ الله في عُمرك لتبقى تمدُّ المعرفة بكُنوز العلم والأدب. وإني سأجعلُ كتابكَ دُرةً أزينُ بها صدر مكتبتي، ومنهلاً يرتوي منهُ عقلي. إنه لَسفرٌ ضخم!

- جعلتُه في إحدى عشرة مقالة تضمُّ 142 بابًا، ومدارها علمُ الهيئة، والجغرافية والهندسة والرياضيات.

وبعد أن يتصفّح السلطانُ الكتاب يقول:

- يبدو أنك لم تُسلِّم بصحةِ النظريات العلمية التي سبقتكَ.

- لم أُثبت منها إلا ما استوثقتُ من صحته، وأضعفتُ إليها ما استنتجته من تجاربي. أما ما شككتُ فيه فقد نقدته وناقشته.

ويعودُ السلطانُ إلى تصفّح الكتاب، ثم يقول:

- على جلالةِ عمِلك، فإنك تدعو، في هذه الصفحة، إلى نقدِ آرائك وتصحيح ما قد تكون وقعتَ فيه من خطأ وسَهو. إنه لتواضع منكَ، يا أبا الريحان.

- العلماء الحقيقيون، يا مولاي، يخشون الله. ومن خشي الله لا يمكن أن تسكن قلبه الكبرياء.

وبعد أسبوع استدعى أبو الريحان جوني. وبينما كان يُملي عليها أحد مؤلفاته، وفد إليه رسولٌ من السلطان قائلاً:

- مولانا السلطان أرسَلَ إليكَ هدية ثمينةً إقرارًا بفضلك.

- أية هدية؟

- حمْلُ الفضة الخالصة ذاك.

ويُشيرُ من النافذة إلى باحة القصر؛ فينهض البيروني وينظر قائلاً:

- مولانا السلطان أرسلَ إليكَ هديةً ثمينة إقرارًا بفضلك.

- أية هدية؟

- حِمْلُ الفضة الخالصة ذاك.

ويشير من النافذة إلى باحة القصر؛ فينهض البيرونيّ وينظر قائلاً:

- لا أراه.

- لا تراه! والله صحيحٌ ما تقول. فالعينُ تعجزُ عن الإحاطة به لضخامته.

أتقصد هذا الفيل والحِمْل الهائل على ظهره؟

- أجل، يا سيدي، فهو هديةُ السلطان إليك. اينَ أضعُه؟

- لا تمسّه. إنتظرني دقيقة واحدة.

ويجلسُ أبو الريحان أمام مكتبه ويكتب:

مولاي السلطان مسعود

أرسلت إليَّ هديةً إقرارً بفضلي، وفضلك لو هبط عليّ لسحقني من عظمته. فشكرًا لك. إن الهدية قد تصرفُني عن العلم؛ ويعرفُ الحُكماء أن الفضة سرعان ما تتبدَّد, ولكن العلم يظلُّ حيًا. ولن أستبدلَ البتَّة بالثروة الأبدية التي تتضمَّنها المعرفة العلمية ذلك الوهج الفضيّ المبهرج السريع الزوال.

أبقاك الله مفخرة ونصرًا للعلم              

                                          أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ

ويُسلمُ البيرونيّ رسالته إلى الرسول قائلاً:

- خُذْ هذه الرسالة إلى مولانا السلطان، وأعِدْ اليه حِمْلَ الفضة.

- حِمْلُ فيلٍ من الفضة الخالصة تُعيده! والله، يا سيدي، أنتَ تبدو أغنى من مولانا السلطان!

                                    ***

في الأسبوع التالي يأتي إلى البيرونيّ خادمُ ريحانة ابنةِ الحسين، وبيده صرةٌ فيها خمس مئة دينار ذهبًا، ومعها رسالة تقول:

أرسلت إليك خمس مئة دينار لتشتري بها خمس جوارٍ يخدمنك بدل الهندية.

ريحانة ابنة الحسين.

فيعيد البيرونيّ الذهبَ إليها مع رسالةٍ تقول:

وزنتُ الذهبَ ووزنتُ جونى فرجحت كفُتها. شكرًا.

                                          أبو الريحان البيروني

وتقرأ ريحانة رسالةَ البيروني فتُصاب بنوبةٍ عصبيةٍ تزيدُ اختلالها العقليّ الذي أُصيبت به إثر سقوطها. وتسترسلُ في الضحك الجنوني المتواصل. وفجأةً تطرحُ نفسها على خادمها مبروك قائلةً وهي تضحك:

- إليَّ يا مبروك، إليَّ لأضمك بين ذراعيَّ.

- تضمينني بين ذراعيكِ، يا مولاتي! فأنا خادمكِ!

- لا، أنت حبيبي... لا تخفْ. عيناك القرديتان الضيقتان لأجملُ من عينيه! ورأسكَ الصغير الأجعد الأبله لأذكى من رأسهِ!

وتستغرقُ في الضحك عاليًا... ثم تعدو... وتعدو... ومبروك يتبعُها لاهثًا:

- إلى أين، يا مولاتي؟... إلى أين؟...

وتخرج من القصر عاديةً حتى تصِلَ إلى جوادٍ لأحدِ الجنود، فتمتطيه، ويتبعها مبروك على جوادٍ آخر ما يزيدُ على ساعة، حتى تصِلَ، أخيرًا، أمامَ صنمَي باميان.

فيقول مبروك وهو يلهث:

- أعوذُ بالله من هذين الشيطانين. يا لهولهما! أخافُ منهما، يا مولاتي!

- سأريكَ كيفَ أنتقمُ منهما.

وتَشرعُ في قذفهما وهي تردِّد:

- خُذْ، هذا لكَ أنتَ، أيها القاتل... خُذْ، يا ميمندي، أنا أكرهُك... وأنتِ، يا مُجرمة، خُذي... أتعرفها، يا مبروك؟ هي ريحانة... ريحانة القاتلة.

- الصخرة... الصخرة، يا مولاتي... الصخرة تتدحرج فابتعدي... يا لله! سقطت عليها! قُتِلَت مولاتي... قُتِلت مولاتي!...

ويصلُ الخبرُ إلى البيرونيّ إذْ يكونُ مع جُونى يملي عليها أحد مؤلفاته، فيترحَّم عليها ثم يُردِفُ قائلاً:

- قتلها حسدَها، أهلكَها حقدُها.

- كيف، ياسيدي؟ قال خادُمها مبروك إن صخرةً سقطت عليها فقتلتها، إذْ كانت تقذفُ الصنمين بالحجارة، فأصابت صخرةً عالقةً فوقهما، فتهاوت.

- بل حقدُها قتلها، يا جونى. ألا تذكرين الصخرة التي دفعتها من فوق الصنمين لتقتلكِ؟

- بلى

- تلك الصخرةُ نفسُها حملت حِقدَها، وعلقها الله إلى أجل. حتى إذا استوفت أجلها ردَّ حقدها إليها فقتلها.

- يا للفظاعة!

- بل يا للعدالة!

                                    ***

ويعتكفُ البيرونيّ مكبًا على الكتاب، فيضعُ في الخامسة والستين من عمره ست رواياتٍ غرامية طويلة يستوحي مضامينها من الأساطير. أما أسماؤها فهي: "صنما باميان" و"نينوفار" و"دارمه وجيراميدخت" و"فامغ وعِزرا" و"قاسمُ السرور وعين الحياة" و"أرماسَديار" و"مهريار". ولا عجب بأن يكون لحياته العاطفية أثرٌ في اتّجاهه الروائي. كذلك يستمرُّ في وضع المؤلفات العلمية، وحضور المجالس السلطانية، ومباحثه رجال العلم والأدب، وبينهم القاضي أبو الحسن الولولجي.

وذات يومٍ يقولُ له القاضي وهو في زيارةٍ له:

  • أطلعت على كتابكَ الأخير، يا أبا الريحان، المُسمى "كتاب الصيدلة في الطب"، فأدهشني تعدُّد اللغات التي صنفت بها أسماء العقاقير!
  • جعل الكتاب أكثر فائدة اقتضى ذلك، يا أبا الحسن. وضعتُ قائمةً أبجدية بالأعشاب الطبية واستخداماتها، وأثبتُّ إلى جانب الأسماء العربية التي تبلغُ نحو 3000؟ حوالى 900 اسم فارسي، و700 اسم يوناني، و400 اسم سرياني، و350 اسمًا هنديًا. والفضلُ في ضبط تلك الأسماء الصعبة يعود إلى مُساعدتي جونى التي أمليتُ عليها الكتاب.
  • الحقَّ يقال، يا أبا الريحان، إنكَ سجَّلت في مقدمة الكتاب موقفًا جريئًا وكريمًا من اللغة العربية. فأي إنسان يحب العربية ولا يُزهيه قولُك: "ديننا والدولة عربيان توأمان. تُرفرف على أحدهما القوة الإلهيّة، وعلى الآخر اليدُ السماوية. وكم احتشدت طوائفُ من التوابع في إلباس الدولة جلابيبَ العُجمة، فلم تنجح في مسعاها. وما دام الأذانُ يقرعُ آذانهم كل يومٍ خمسًا، وتقامُ الصلواتُ بالقرآن العربي المبين خلفَ الأئمة صفًا صفًا، ويخطب به لهم في الجوامع بالإصلاح، كانوا لليدين والفم، وحبلُ الإسلام غير مُنفصم، وحصنُهُ غير منثلم".
  • هي الحقيقةُ، يا أبا حسن.
  • والله ليدهشُني موقفكَ المفاخر باللغة العربية وأنتَ الفارسي المولد!
  • الهجوُ بالعربية أحبُّ إليَّ من المدح بالفارسية. وسيعرفُ مصداق قولي مَن تأمل كتابَ عِلمٍ قد نُقِلَ إلى الفارسية، كيف ذهب رونُقه، وكُسِفَ بالُه، واسودّ! وجهه، وزال الانتفاعُ به؛ إذ لا تصحّ هذه اللغة إلاَّ للأخبار الكسروية والأسمار الليلية.
  • ولكن هل تحسب الكتابة العربية بمنزلة اللغة العربية؟
  • لا، للكتابة العربية آفهٌ عظيمة هي تشابه الحروف المزودجة فيها، واضطرارها في التمايُز إلى استخدام النقط وإثبات علامات الإعراب التي إذا تُركت استبهم المفهومُ منها.

ويصِلُ البيرونيّ ليلة بنهاره وهو يكتبُ بسرعةٍ قلّما كتب بها غيرُه. وتنثالُ المؤلفاتُ من تحتِ قلمِه حتى يبلغَ عددها 146 مؤلفًا، منها 14 كتابًا كبيرًا تزيدُ صفحاتُ كل منها على 200 صفحة. فيهزل جسمُه، ويشتدُ ضعفُ بصره وسمعه، ويزدادُ اتكاله على جُونى وبعض أصدقائه، فيُملي عليهم مؤلفاته إملاءً.

وسنة 1040 م. يغتالُ الأمير محمد أخاه السلطان مسعود، فيحزن البيرونيّ كثيرًا.  وتبدأ الأسقامُ تتناوب عليه. ثم ينتقُم الأمير مودود ابنُ مسعود لأبيه، فيقتل من اشتركوا في اغتياله. فيزدادُ العالِمُ حزنًا، ويترك القصر، ويكتري منزلاً يعتكفُ فيه، تلازمه جونى الهندية الوفية، ويعودُهُ أصدقاؤه.

وذات يومٍ بينما كان مُستلقيًا مُسترخيًا من شدَّة الإجهاد، سألته جونى:

- ألا تحدثني عن طفولتك؟

- طفولتي حدائقُ وراء الضباب جنيتُ فيها المرارةَ والحلاوة.

- أين وُلِدتَ؟ وكيف كانت حالُ أُسرتِك؟

- وُلِدتُ في بيرون، إحدى ضواحي مدينة كاثُ، عاصمة الدولة الخوارزمية، أما أسرتي فكانت أقرب إلى الفقر. والدي كان تاجرًا صغيرًا، مات وأنا طفل، فكان عليَّ أن أُساعدَ أمي في جَمْعِ الحطب لِبيعِه في سوقِ بيرون، فنتمكن من أن نعيش.

- هل كنتَ تُمضي وقتك كلّه في جمع الحطب؟

- لا، ففي ساعاتِ فراغي كنتُ أسرحُ في الطبيعة، في بساتينها وهِضابها، بل في البيداء. وكان يجذُبني إلى الرياحين حب عارِم، فلا أعودُ إلى منزلنا المتواضع إلا وفي يدي إضمامةٌ فواحةُ الأشذاء كل مرَّة. وكان فيّ ولَعٌ بتصوير الورود وأنواع الأزاهير والنبات. ألمسُها برِفقٍ وأُقبلها وأتنسَّمُ عبيرها، وأتحاشى عن بترها أكثر الأحيان، إذْ كنتُ أشعرُ أن لها أحاسيسها الخاصة وحياتها الخاصة المُغلقة على مداركنا.

- كيف استطعت أن تحصّل علومك؟ ففي علمي إنكَ نبغتَ في العلوم وأنتَ في العشرين من عُمرك!

- أذكرُ أني كنتُ في الحادية عشرة لما التقيتُ عالمًا يونانيًا. كان يجول بين الصخور يجمع أنواعَ النبات ليصنعَ منها عقاقير، وكنتُ مُستلقيًا أمام الزهور أُصورها. فكلَّمني، وعرفَ بوَلَعي وبمعرفتي للعربية والفارسية، فأحاطني بعنايته ومُساعدته المالية ثلاث سنوات، وعلَّمني اليونانية. ثم عرَّفني إلى كاهنٍ سرياني، فعلمني السريانيَّة. وقبل رحيله عرَّفني إلى الأمير العالم أبي نصر منصور بن علي بن عراق؛ فصارَ لي مُربيًا وأستاذًا في الفَلَك والرياضيات حتى بلغتُ التاسعة عشرة. واكترى لي ولأمي بيتًا في كاث.

- هل أمُكَ ما تزالُ حية ترزق؟

- لا، رحمها الله. كانت امرأةً طيِّبة صالحة. قبل أن تقع الحربُ في خُوارزم بيومٍ واحد، زرتُها كأنما مدفوعًا بيدٍ غير منظورة، إذ كانت تسكنُ في بيتٍ متواضعٍ بالطرف الآخر من مدينة كاث؛ بينما كنتُ أنا قد اكتريتُ غرفةً لي أضعُ فيها عقاقيري وأدواتي ومخطوطاتي، وكانت غرفتي مُجاورةً لمنزل ياسمين التي تعرفتِ إلى شقيقها سيف الدين. فأعطيتُ والدتي أكثر ما أملُك من دنانير. وفي اليوم التالي كانَ عليَّ أن أفرَّ من كاث سريعًا. وقد زرتُها منذ بضع سنوات، فوجدتها عجوزًا في غاية الوهن. وقد لفظت أنفاسها بين يدي.

      وفي الثالث من رجب سنة 440 هـ، الموافقة 13 كانون الأول (ديسمبر، 1048م)، يشتد المرض على البيرونيّ، ويستبدُّ به الهُزل. ومع ذلك لا يمنح نفسه الراحة، بل يروحُ يحدثُ بصوتٍ متهدّج مَن حوله، وفيهم جونى والقاضي أبو الحسن الولوالجي:

"الا اعلموا، يا أحبائي، أن القانون الطبيعي المسيِّطر على الحياة هو شريعةُ الغاب، شريعةٌ تقول: الحقّ للأقوى. فالبشرُ المُستسلمون غرائزهم العدوانية ودوافعهم الدنيا، لشهواتهم وأطماعهم وحسدهم وحبّهم للتسلّط والظهور، لكبريائهم وغرورهم وشرورهم – هؤلاء البشر لا يمكنهم أن ينتصروا على ما فيهم من نزعاتٍ عدائية وميول وضيعةٍ إلا بشريعةً إلهيةٍ يبلغهم إياها رسولٌ من لَدُنه تعالى".

      ومثلما تنتابُ الأرضَ أدوارٌ يدخلُ فيها البحرُ إلى اليابسة فيغمرها، وتدخلُ اليابسةُ إلى البحر، ومثلما تحدثُ الزلازلُ والانخسافاتُ فتظهرُ أراضٍ وتختفي أخرى، هكذا يكونُ في مصير الناس. فالبشرية تمرُّ في مراحلٍ وأدوار؛ وفي أثناء كل مرحلةٍ ينساقُ البشرُ وراءَ فسادٍ وماديةٍ يتفاقمان أكثر فأكثر بصورةٍ متواصلة، إلى أن تحين الساعةُ وينصبُّ سخط الله فتُفني المدنية نكبةٌ عُظمى، ويُرسلُ الله هاديًا جديدًا يبدأُ مرحلةً جديدةً في التاريخ. واعلموا أنه لم يكن في زمان البشر آدمٌ واحدٌ وحواء واحدة، بل لكل دورةٍ من الدورات آدمُها وحوّاؤها.

      والآن أُودعكم، يا أحبائي، فإني أشعرُ أن الزيتَ في سِراجي سينفدُ سريعًا، وشُعلتي ستنطفئ. منذُ أربعة عشر عامًا حلمتُ أنني كنتُ أرصدُ القمر الجديد، وعندما أفَلَ هلالُه، سمعتُ صوتًا يقول لي: "سوف يُتاحُ لك أن تشهد الهلاَل مئةً وسبعين مرةً أخرى. وها إن العدد قد تم".

وتشهقُ جونى باكيةً:

  • بربكَ، يا معلمي، أزِحْ فكرةَ الموتِ عن بالك.
  • جونى... كأنكِ كنتِ ضميري... وسر مصيري... دائمًا كنتِ تردِّدين: إذا متُّ فستعود مشيئة الحياة تبعثني وتجمعني بكَ في جسدٍ آخر.
  • أجل، يا معلمي.
  • أبا الحسن، افترقنا مرة ومسألةُ توريث ذوي القُربى لم يكفني إيضاحها، فهلا زدتني منها؟
  • أفي هذه الحالة؟
  • أودع الدنيا وأنا عالِمٌ بها خيرٌ من أن أُخلِّيها وأنا جاهلٌ بها.
  • لساني لا يطاوعني، ولا فكري ولا أعصابي وأنتَ في هذه الحالة!

وتُسمعُ غرغرةٌ فحشرجة... ثم صراخٌ وبكاء...

فيقول القاضي وهو يمسحُ الدموع من عينيه:

  • حبُهُ المعرفة أذهلني... كاد يجمّد الدم في عروقي... لم تحط عيني على رجلٍ موسوعي المعرفة مثله، ولم تسمع بمثله أذني!... يا لجونى المسكينة كيف طرحها الحزنُ والإجهادُ على المقعد! ثلاثة أيام مضت ولم يدخل فمها طعام، ولم يغمض لها جفن، حتى غلبها سلطانُ النعاس والتعب.
  • وفجأة تستيقظ جونى قائلة: "أتراني سهوتُ ونمتُ!" فيجيبها القاضي: "نمتِ نحو ساعة". فتقولُ بصوتٍ ضعيفٍ خافت: "حلمتُ أني موجود بعد تسع مئة سنة، في مكانٍ غير هذا المكان، وكان اسمي نجوى لا جونى".
  • يبدو لي أن الاسمَ واحد، إنما الحروفُ مغيرة مواضعُها.
  • وحلمتُ أن شعوبَ الأرض طرًا تحتفلُ بمرور ألفِ عام على مولِدِ معلمي أبي الريحان البيرونيّ، وقد سموهُ "أبا الأنوار"، وهم يعنون بها المعارف. ولكن "أبا الأنوار" كان موجودًا معي، وقد عرفني. ورأيتُ جيوشًا كثيرةً مدجَّجة بأسلحةٍ هائلةٍ مبيدةٍ تتأهب للاقتتال. فسألتُ عن الخبر، فقال لي معلمي "أبو الأنوار". ألم تعلمي بأنه إذا عمَّ الفسادُ العالم فإن الله يبيدُ البشر ليستبدلُ بهم غيرهم؟ والله سيبيدهم بشرِّهم وأيديهم.
  • ربما كان حلمكِ من تأثير تعاليم البيرونيّ ومعتقداتك البوذية. ولكن مَن يدري؟ فليس في كتاب الحياة شيءٌ مستحيل. مسكينة جونى! عادَت تنام...

وتضمُّ جونى العذراء بطةَ العقيق إلى صدرها ضاغطةً عليها، كأنها تريدُ أن ينفذ شُعاعُها إلى قلبها، وتستسلم لنومٍ طويلٍ طويل، لتحلمَ بمعلمها العظيم أحلامَ الأبدية!

عام 1973، بعد ألف سنة على مولد البيرونيّ، أقامت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة تكريمًا للبيرونيّ شاركت فيه شعوبٌ كثيرة، وأصدرت عددًا من مجلتها خاصًا به، وفيه قد نُشِرت صورةٌ لبطة العقيق والجزَع!

تمَّت

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.