أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الجهاد والاضطهاد

في حياة حليم دموس وأدبه    

                                                نجوى سلام براكس

 

ما مسَّ الألم قلمًا موهوبًا إلا حوَّل مداده إلى خمرةٍ علوية، وصهر الكلمات المُلهمة بمصهره المقدّس شبه أسلاكٍ كهربائية تمدّك بالنور والحرارة آنا، وتهزك بصدمةٍ صاعقةٍ آنا. والجهادُ من أجل حقيقةٍ روحيةٍ ومعاناةُ الاضطهاد في سبيلها هما للشاعر الموهوب بمثابة المعصرة لعناقيد الكرمة. ولذلك فحليم دموس المكابد العذاب من أجل إيمانه هو غير حليم الراضي من الدنيا براحة جسدٍ وحفنةِ مال وطمأنينة بال. حليم، قبل اعتناقه الداهشية، منجمٌ من التراب المختلط بذراتٍ من الذهب الخام، وحليم، بعد إيمانه بالعقيدة الروحية الجديدة، مُتحف من السبائك الذهبية التي صفَّتها النار قبل أن تُصاغ مجوهراتٍ نادرة. والدارسون الذين وقفوا عند نهاية المرحلة الأولى من حياته ظلموه، إذ تجاهلوا المصهر المقدس الذي جوهر حياته، وبلور أفكاره، وعمَّق نظرته، وجعل من أصغريه مشعل هداية.

وفي هذه الدراسة الموجزة سأتحدث عن أثر الجهاد والاضطهاد في حياة حليم دموس وأدبه: كيف تعرف إلى الدكتور داهش واعتنق عقيدته، وكيف جنَّد قلمه لتأريخ وقائع الداهشية، ووصف أبعادها الروحية، والتبشير بها، كما لتبييض مؤلفاتِ مؤسسها، والتقديم لها، ونظمها شعرًا، ثم كيف تجلَّت آثارُ الاضطهاد في أدبه بعد أن سُجِنَ الدكتور داهش وأُقصي عن وطنه ظلمًا وعدوانًا، من غير محاكمة، وبعد أن سُجن الشاعر نفسه هو وأركان الداهشية في عهد رئيس لبنان الأسبق بشاره الخوري (1943 – 1952). لكن لا نُدحَةَ، أولاً، من تقديم نبذةٍ عن حياته وآثاره في المرحلة الأولى من حياته، تعريفًا به لدى جاهليه.

حياته

ولد حليم دموس عام 1888 في زحلة، وبها تلقى علومه، ومن طبيعتها ومجتمعها استمدَّ الإلهام والبساطة والحب والجمال. هاجر إلى البرازيل عام 1905 ثم عاد إلى لبنان ليتابع نشاطه الأدبي والصحافي. كان من مؤسسي "الرابطة القلمية" بدمشق عام 1921. وفي عام 1932 أصدر في بيروت جريدة "الأقلام"، لكنها لم تعمر أكثر من سنتين . وقد توفي في 27 أيلول 1957 وله من العمر تسع وستون سنة.

آثاره

أدبُ حليم دموس في المرحلة الأولى من حياته تطغى عليه النزعة المادية والاتباعية المتمثِّلة في قصائد المناسبات والمجاملات، والمدح والرثاء، وهي أغراضٌ كانت تدرُّ عليه مكاسب مادية أو شهرةٌ دنيوية، لقب حليم من أجلها "بالشاعر التاجر".

      لكن ما إن اعتنق الداهشية في ربيع 1942 حتى استيقظ من حلمه الدنيوي، فتفتحت بصيرته على الحقائق الروحية، والتزم خطًا فكريًا جديدًا عمَّق نظرته، ووسَّع آفاقه، وأكسب أدبه أبعادًا روحية إنسانية.

      آثار حليم المنشورة قبل العهد الداهشي هي: زبدةُ الآراء في الشعر والشعراء، الأغاني الوطنية، درجاتُ الماسونية، ديوانُ حليم، قاموسُ العوام، في سبيل التاج، المثاني والمثالث، أقوالٌ في المسُكِرات، افتتاحياتُ جريدة "الأقلام"، من أناشيد الملحمة العربية الكبرى، المُستظهر لتلامذة الصفوف الإبتدائية، فاجعةُ بيروت، الرواياتُ العشر.

      أما مؤلفاته المنشورة في العهد الداهشي فهي: يقظةُ الروح، رباعيات وتأملات، مقدمات لمؤلفات الدكتور داهش، رسائل وردود، مختارات من الوقائع الداهشية، والقسم الشعري من مجموعة "ناثر وشاعر" المنطوية على ثلاثة أجزاء.

      تعرفه إلى الدكتور داهش واعتناقه الداهشية

      تعارف حليم دموس والدكتور داهش في عام 1936. ثم اللقاء الأول في بلدة سوق الغرب حيث كان يصطاف رجل الروح. ففي ذلك الصيف قصد حليم البلدة المذكورة لزيارة صديقٍ له. فقيل له إن الدكتور داهش يصطاف هناك مع والدته الست شموني وشقيقته أنتوانت وبعض أنسبائه، وإنه يقيم لقاءاتٍ وسهراتٍ عائلية يُدهشُ فيها الناس.

      إستنتج حليم من جلسات الدكتور داهش أنَّ فيه قوة خارقة. ثم تكرَّرت الزيارات بينهما وتبادل الأدبيات مؤلفاتهما. ويبدو أن الجانب الأدبي من شخصية الدكتور داهش اجتذب الشاعر، آنذاك. بقدر ما اجتذبته أعماله الخارقة التي لم تكن بعد قد استأثرت باهتمام الشعب اللبناني.

ومرت خمس سنوات حتى إذا حلَّ الثاني عشر من آيار عام 1942، قصد حليم نادي المهاجرين في شارع المعرض ببيروت ليستمع إلى محاضرة يلقيها الخطيب الأديب يوسف الحاج (والد الدكتور كمال الحاج). كان موضوع المحاضرة يدور حول اللغة العربية. لكن المحاضر ما لبث أن "فاجأ الجمهور بموضوع الروحانية، بعد أن شهد من الدكتور داهش ظواهر روحية تكاد لا تُصدق". وشرع يسرد بعض الخوارق التي شهدها تتم َّعلى يدي الدكتور داهش، منها تكوين قطعة أدبية بطرفة جفن، عنوانها "الضباب"، قال إنها أوحتها روحُ جبران خليل جبران.

وقد أخبرني الدكتور فريد أبو سليمان (ربيع 1982) أن الشيخ بشاره الخوري – الذي سيتسلَّم رئاسة الجمهورية بعد حوالى سنةٍ ونصف من هذه المحاضرة – كان من بين الحضور، وكان يستهزئ بما جاء فيها. وما إن فرغ يوسف الحاج من إلقاء محاضرته حتى شعر حليم بعطشٍ لسماع مزيدٍ من الخوارق، فزار المحاضر في منزله مُستطلعًا؛ فزوَّده يوسف بعنوان الدكتور داهش. واتفقا على زيارته معًا في اليوم التالي".

      في 13 أيار 1942، كانت زيارته الأولى برفقة يوسف الحاج والأرشمندريت بولس الخوري، فعقدت لهم جلسة روحية حدثت فيها خارقة.

      والجلسات الروحية الداهشية – التي أتيح لي أن أحضر إحداها وأتفهم فحواها ومغزاها – يمكن أن يحضرها أيٍ من الناس، مؤمنين كانوا أم جاحدين، قلَّة أم كثيرين؛ وهي تُعقد في وضح النهار أو تحت الأضواء الكهربائية الساطعة، فلا تعتيم فيها ولا سدل ستائر، ولا بخور أو تمتمة، ولا جماجم أو همهمة. ويمهدُ لها بكتابة "دعاء روحي" يسميه الداهشيون "رمزًا روحيًا"، فيه يُبتهل إلى الله تعالى ليسمح بعقد الجلسة الروحية. والحضور فيها يكونون جالسين بمنتهى اليقظة، غير مُقيدين بشيء ولا مُتشابكين بالأيدي؛ أما الدكتور داهش فيكون في حالة غيبوبة روحية، فلا هو يحدق إلى عيون الحاضرين، ولا هو يحاولُ التسلّط عليهم مثلما يُشيعُ المغرضون. وبأثناء انعقاد الجلسة الروحية "تتجلّى روحٌ سماوية يمكنُ أن يخاطبها المرء وتخاطبه من غير لبسٍ أو غموض، وبقدرتها أن تُحدثَ خوارق ومُعجزات، دلالةً على وجودها، وبناءً على طلب من الحضور. فالغايةُ من الجلسة الروحية إذًا هي مساعدةُ الناس على العودة إلى الإيمان الديني الأصيل الصحيح بالتمرس بالخير والفضيلة، والتصديق بوجود عالم الروح وبالثواب والعقاب. وهذا يُعدُّ انتصارًا للروح على المادّة في عصرٍ تغلَّبت فيه المادةُ على الروح".

      وفي اليوم التالي زار حليم دموس رجلَ الروح الخارق في منزله القائم بحي المزرعة ببيروت، فعاين خلال زيارته سبع ظاهراتٍ روحية خارقة: أُولاها هبوط ألفي ليرةٍ سورية أمامهُ بطريقةٍ عجائبية، وعلى أثرها هبوط حجرٍ ضخم ٍأحدث في الغرفة أثرًا واضحًا. فقرن حليم بذهنه قيمة المال بقيمة الحجر وساوى بينهما. ورفض، للمرة الأولى في حياته، مدّ يده لجمع المال شُدَّ ما تأثر من عظمة المعجزة. ثم تجسدت فجأة شخصيةٌ للدكتور داهش كانت شبههُ تمامًا ولكن في ثيابٍ مختلفة. فاستغرب الشاعرُ استغراباً عظيمًا هذا التجسُّد. ثم تتابعت المُعجزاتُ... حتى إذا جلسوا إلى المائدة لتناول الغداء بصورةٍ عفوية، وجدوا الصحون فارغة. لكن سرعان ما شرعت تمتلئ بألوان من الأطعمة وفقًا للطلبات. فأكلوا وشكروا باريهم. وما إن ذكروا الخمرة العجائبية في عُرسِ قانا الجليل حتى رأوا الماء في كؤوسهم قد احمر متحولًا إلى نبيذ، وفاحت في الغرفة رائحةٌ طيبة.

      هذه المعجزاتُ التي حدثت عفويًا، أي بدون انعقاد جلسةٍ روحية، أثرت فيه تأثيرًا عظيمًا، فدخل منزل الرسالة عابد مال، وخرج وهو يطأ المادة ومغرياتها ليتَّجه صوب القيم الروحية، صوب السماء.

      ترى، أتكون قد تمَّت فيه الولادة الجديدة التي قال المسيحُ عنها: "الحق الحق أقولُ لكم، ما لم يولد الإنسان ثانيةً، لا يستطيعُ معاينة ملكوت الله"؟ لقد حدث الانقلابُ الكبير في حياته الذي انتشله من أرض الماديات إلى سماء الروحانيات، الانقلاب الذي سجَّله بقوله: "كنتُ ماديًا محضًا، فأصبحتُ روحانيًا محضًا.

وما ذلك إلا بفضل الدكتور داهش وروحانيته الممتازة. فقد تكشفت لي حقائق سماوية عظيمةٌ لا يستطيع هذا القلم الضعيف وصفها".

      يقول حليم بتاريخ 13 أيار 1942: "وها أنا منذ الآن أنذرُ هذا القلم الضئيل من أجل النضال والكفاح والجهاد حتى الاستشهاد في هذا السبيل الروحيّ السامي الذي أصبح منذ اليوم تحت نظرات المحسوس، ولمسات المنظور".

لقد رفع مشعل الهداية الروحية والوحدة الدينية، والأخوة الإنسانية بيدين جبارتين حتى أصبحت الداهشية السامية بتعاليمها وأهدافها محور حياته وأدبه.

      وشهد الدكتور فريد أبو سليمان، رفيق حليم في الجهاد، بأن عارفي حليم دموس يقرون بأنَّ حليم الذي خرج من منزل الدكتور داهش في 14 أيار 1942 هو غير حليم الذي ولجه.

      ثلاثةً وثلاثون سنة (1909 – 1942) بحث خلالها حليم عن السعادة عبثًا، فظن أنه عثر عليها في الماسونية، فاتَّخذها مثله الأعلى، لكن أمله فيها سرعان ما خاب. فعندما اعتنق الداهشية استيقظ من حلمه الدنيوي وكابوسه الأرضي، فتفتحت بصيرته على الحقائق الروحية، وإذا به يدوسُ جواذب الدنيا ومطامعها ويحلّق بجناحي الإيمان نحو عوالم الروح متَّخذًا داهشًا مثله الأعلى، ونبع الهداية والخلاص.

لكن تحوّل حليم من المادية إلى الروحانية ذو جذورٍ نفسية؛ فقد كان في الفترة الأولى يتمتّع بدماثة الأخلاق وعفة اللسان والصدق، وينبذ التعصب الطائفي، ويثور على الفساد والتفسخ والتخلف التي كانت منتشرة في ربوع وطنه، ويفضح الناحية التدجيلية في اختلاق العجائب على أيدي "القديسين" من أجل تجارة رائجةٍ حقيرة،** وينادي بالأخلاق الكريمة، والعواطف السامية كالرحمة والعطف والحنان والكرم والمحبة، كما بالوحدة الدينية، والإخاء الإنساني، والنظر شطر النفس لا شطر الجسد، والنزعة الإصلاحية التي تظهرُ في مناصرة الحق والعدل والسلام والخير، والتسامح الديني الذي يظهرُ في دخوله المساجد في القاهرة وبيروت مُلقيًا فيها الخطب والقصائد. فاسمعه يقول:

وأُلقي بذورَ الحب في كل بيعةٍ.             وألقى بذور الحب في كل مسجدِ

فألمس في القرآن عيسى بن مريم            وألمـــــح في الإنجيـــــــل روح محمد.

وقد ظهرت في كتابته الجرأة والصراحة في الدفاع عن الحقّ الهضيم وفي مقاومة الظالمين.

وقد تنبه حليم لبعض أشعاره التي كانت تغفو فيها بذور الروحانية، فضمَّها إلى مجموعتِه الشعرية "يقظة الروح" مع شعره الداهشي.

وبعد أن كان "الهادي"، قبل مرحلة الداهشية، طيفًا يزور الحليم...

يا طيفُ، أنتَ لنفسي                 داءٌ وأنتَ الطبيبُ

وأنتَ أنت أنيسي                     وأنت أنتَ الغريبُ

ذوي ربيعُ شبابي                     وأنت سر عجيب

إذا به في الفترة الثانية من حياته يتجسد بشخصِ الدكتور داهش.

فما إن لمس حليم الظاهرات الروحية حتى آمن ووضع يده على المحراث ومضى غير ملتفتٍ إلى الوراء، "فكانت له تلك الآياتُ أكبر نصيرٍ ومعين إلى تجدّد روحي كليّ، ندرَ أن يحصل لسواهُ بهذه السرعة وهذه الكيفية..." إسمعه يقول: "اللهمّ! لقد كنتُ في هذه الحياة سائرًا، وفي صحرائها تائهًا حائرًا، فهديتني، وبقوةٍ نوارنيةٍ منك أيقظتني، وإلى واحة الراحة والهناء أوصلتني...".

محاور جهاده الروحي

1 – حليم مؤرخ وقائع الرسالة الداهشية

يذكر حليم بتاريخ 14 أيار 1942 أنه بينما كان في زيارة الدكتور داهش، وبعد أن عاين المعجزة السادسة "المائدة الروحية وخمرة قانا الجليل"، وعى خطورة الظاهرات الروحية التي حدثت أمامه، ورأى أنه من الضروري تسجيلها للتاريخ. ما إن فكر بالأمر حتى ظهر أمامه، بطريقةٍ عجائبية، "دفتر كبير جميل"، ففتحه، وإذا على الصفحة الأولى العبارات الثلاث التالية مدونة: "المؤرخ حليم دموس". وسرعان ما ارتعش الدكتور داهش بالروح وأبلغه أنه منذ اليوم (أي 14 أيار 1942) سُمِّيَ مؤرخ الرسالة الداهشية والمؤمن الثاني بعد يوسف الحاج (الذي استمر في التأريخ من 23 آذار 1942 حتى 13 أيار من السنة نفسها). وقد أُعطي حليم دموس اسم "حسان" وصار يوقّع "حسان حليم دموس".

يختم حليم تدوين الظاهرات الروحية السبع لهذا اليوم التاريخي في حياته قائلاً: "وها إني قد فتحتُ لنفسي صفحة جديدةً بيضاء، أخطُّ عليها بيد العقيدة القوية والإيمان الصحيح، والهداية السَّمحة، كل ما يقع أمامي، وأشعرُ به في هذه البقية الباقية من الحياة، تحت علم هذه الرسالة المقدسة. ولن أتقاعس عن أدائها مهما اعترضتني الخطوب وصادمتني النوائب. والله خير الشاهدين على ما أقول.

لمس الحليم الظاهرات الروحية لمس اليد، فكان إيمانه كإيمان توما، تلميذ المسيح، الذي لم يصدّق قيامه المسيح من الموت إلا بعد أن لمس بإصبعه الجراح التي أحدثها الصلبُ في جسمه. آمن بالداهشية إيمانًا وطيدًا بعد أن شهد فيها المُعجزات الخارقة للقوانين الطبيعية، ولذا جنَّد أصغريه في سبيل نشرها، وعانى الأمرين؛ لكن جميع العقبات ذللها بإيمانه الجبَّار.

      يقول حليم: "إن الظاهرات الروحية التي تجلَّت أمامنا بواسطة الدكتور داهش قبل إبعاده عن لبنان (1944) أرتنا أسراراً وأسراراً، وأشعةً وأنوارًا، وحولت ليلنا نهارًا. إن تلك الظاهرات العجيبة ذكرتنا بذلك النور السماوي الباهر الذي تجلَّى لبولس الرسول على

طريق دمشق يوم خاطبه السيد المسيح فهداه إلى نور الحق".

      وما سجَّله الحليم كان أغرب من شطحات الخيال وأعجب من غرائب الأساطير، لكنه كان حقائق لمسها لمس اليد:

سجل على الطرس ما تختار يا قلم          فلم يعد لفؤادي في الثرى ألم

عاينتُ من مجدِ ربِّي كل ظاهرة             وسوف تخشعُ من آياته الأمم

... خواطر في ظلام الليل أسكبها           باسم الحقيقة فاشهد أيها القلم

وقد بدأ حليم تأريخ الظاهرات الروحية في 14 آيار 1942، إثر تسميته "مؤرخ الرسالة". وتابع تدوينها الأمين مدة خمسة عشر عامًا حتى قبيل وفاته في عام 1957. وقد نشر قسم من هذه الظاهرات الروحية المدونة بقلمه في كتابين صدرا عن "دار النار والنور" بيروت، عام 1983، هما: "مُعجزات مؤسس العقيدة الداهشية ومُدهشاته الخارقة" و"المُعجزات  والخوارق الداهشية"، كما في أعداد مجلة "الدبور" العائدة لسنة 1948، تحت عنوان "أغرب الأسرار الداهشية"،÷ وكذلك في أعداد مجلة "عالم الروح" المصرية عامي 1949 و1950.

في الرابع من تموز 1943 نظم حليم دموس قصيدة "العام الثاني من عهد الرسالة" جاء فيها:

جلستُ إليه أشهرًا بعد أشهرٍ                 وروحي بصهباء (الرسالة) تثمل

وفي كل يومٍ لي إليه زيارةٌ                   ومنه لنا وحي من الخلد مُنزلُ

رسائلُ إلهامٍ، وأسرارُ حكمةٍ                  لها الأفق لوحٌ والكواكب مقول

(وقائع) من وحى السماء تناثرت             علينا كأنداءٍ على الزهر تهطل

(نظاهر) من روح الإله وفضله              تقول لنا: توبوا إلى الله واعدلوا

2 – أدبه الروحاني

ليست الغاية هنا دراسةَ الأبعاد الفكرية والوجدانية في أدب حليم الروحي – فذلك قد عالجته مفصلاً في كتابي "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه" – بل استرعاءُ الانتباه إلى أن الشعر يمكن أن يكون نشاطًا جهاديًا حينما يلتزم الأديبُ عقيدةً ما فيوضحها ويبشر بها شعرًا مثلما يوضحها ويبشر بها نثرًا.

قارئ أدب حليم الروحي (1942 – 1957) بهدايته ومبادئه ومزاياه الروحية. وقد تردد اسم داهش في أدب حليم مرموزًا إليه، إذ خلع الشاعر عليه ألقابًا وصفاتٍ متنوعة كالفادي، والمصلح، والحبيب، وطبيب الأرواح، والمنقذ، والفيلسوف، والمعزِّي.

يقول حليم في إفادته الخطيَّة التي قدمها إلى البوليس العدلي في 23/2/1944:

"وإن من ينشدُ(الحقيقة) السامية كالدكتور داهش يجب تنشيطه لا تثبيطه خصوصًا وأن كثيرين من رجالٍ ونساء كانوا مُنغمسين في حمأة الرذيلة أصبحوا اليوم بفضل تعاليمه السامية الجليلة سالكين طرق الصلاح والفضيلة.... وأعتقد كل الاعتقاد أن ما قام به الدكتور داهش من الأعمال الحسنة والظاهرات الروحية الخارقة يساعد الحكومة والشعب على تهذيب الأخلاق،

ماذا عرف حليم بالداهشية؟ لقد عرف حقيقة وحدة الأديان، وآمن بجميع الأنبياء والكتب المقدسة، لأنها جميعًا تدعو إلى الإخاء الإنساني، وتزيل الفروق الاجتماعية والعنصرية والوطنية والقومية، لتبقى بين البشر رابطةُ الروحانية والمحبة الإنسانية، تلك اللغة العالمية التي ترقى بالإنسان إلى فراديس الجنان:

عطفت علي (رسالةٌ روحية)                فتحققت بجمالها أحلامي

بالداهشية قد عرفت (محمدًا)                وتلوت (قرآن الهدى) المتسامي

وعرفتُ (نصرانيتي) و(مسيحها)             لما عرفتُ (حقيقة الإسلام)

فطرحت خلفي كل سر في الورى            وجعلت (إنجيل المسيح) إمامي

وتظهر الداهشية في شعر حليم رسالةً هادية،  وحقيقة مُضطهدة، وسبيلا مفضيًا إلى الخلاص الروحي والإيمان بالله، أي إلى الحياة الروحية القائمة على المحبَّة وتهذيب النفس وممارسة الفضائل؛( كما تظهر مُفجّرة في النفس الحنين إلى عالم الروح وفراديس النعيم، مرسّخةً فيها الإيمان بالخلود وبالثواب والعقاب، كما بوحدة الأديان والإخاء الإنساني.

      أما أدبُ الدكتور داهش المّلهم الصادق الذي يسمو بالنفس إلى العوالم الفردوسية، فلعل خير ما يُجْمِل رأي حليم فيه قوله:

قلمٌ جرى فوق الطروس لداهشٍ        ناجى به وحي السماء طويلا

ببدائع هبطت عليه من علٍ           وروائع قد نُزِّلَتْ تنزيلا

كلماتُ إلهامٍ وآيةُ حكمةٍ               تملى عليه بكرةً وأصيلا

فترى من التوارةِ في أوراقه             وترى بها القرآن والإنجيلا

هي وحدةٌ روحية ببراعةٍ               تجري فتنعش أنفسًا وعقولا

ولا ريب بأن حليم دموس تأثر تأثرًا بالغا بكتابات مؤسس الداهشية وأفكاره وآرائه التي يفضحُ فيها مفاسد الناس، وينتقد المجتمع إنتقادًا لاذعًا من أجل إصلاحه. وكمؤسس الداهشية نرى الحليم يؤكد في شعره أنه لا يمكن أن تنهض البشرية من تفسخها الاجتماعي وانهيارها الأخلاقي إلا بنهضة روحيةٍ صادقة؛ ولذا يحذِّر حليم الناس ويهيب بهم للعود إلى مصدر الحياة والخير، إلى الله.

3 – تبييض مؤلفات الدكتور داهش ونظمها والتقديم لها

سنة 1946 يذكر حليم أن للدكتور داهش أكثر من 90 كتابًا، بيضَ هون بقلمه أكثر من نصفها.

      وليس عجيبًا أن يُكِبَّ على تبييض تلك المؤلفات إعدادًا لها للطباعة بعد أن رأى فيها سفينة الخلاص الحقيقية ومنارة الهداية الروحية. وقد واظب على عمله هذا مدة 15 عامًا حتى وافتهُ المنية.

كما قام حليم بنظم كثير من مؤلفات الدكتور داهش. وقد اختيرت 648 قطعة منها مع ما يقابلها شعرًا، وجمعت في ثلاثة أجزاء صدرت بعنوان "ناثر وشاعر". والمختارات مقتبسة من الكتب التالية: أسرارُ الآلهة، قيثارةُ الآلهة، ضجعةُ الموت، القلبُ المحطم، الإلاهاتُ الست، كلمات الدكتور داهش، جحيمُ الذكريات، الدهاليز، النعيم، الجحيم، بروق ورعود، عواطف وعواصف، مذكرات يسوع الناصري، نشيدُ الأنشاد، ناقوسُ الأحزان أو مراثي إرميا، عشتروت وأدونيس، نِبال ونِصال، من وحي السجن والتجريد والنفي والتشريد، أوهامٌ سرابية وتخيلات ترابية، روحٌ تنوح ابتهالات خشوعية، مذكرات دينار.

جهد حليم في نظمه للمحافظة على تسلسل الأفكار، وتتابع الصور، بل حتى على الكلمات في الأصل الشعري، علمًا بأن قيد الوزن والقافية كان يضطره أحيانًا إلى الإطناب في مكان، والاقتصار في مكان آخر، مع تغييرٍ طفيفٍ في المفردات. وقد نظَّم أولى القطع "إلى معبودتي"، في 15 أيار 1942، وآخرها "دمعتان مذيبتان"، في 6 آذار 1950.

ومن أجل أن يكوّن القارئُ فكرةً واضحة عن عمل حليم، سأقدم إليه قطعةً نثرية كتبها الدكتور داهش في سجن الرمل ببيروت، بتاريخ 9 أيلول 1944، ثم نظمها حليم دموس، ليقارن النثر بالشعر، فيتضح له مدى جهد الشاعر وأمانته في محافظته على الأصل.

أيتها الحرية

أنتِ قبس الله الساطع، ومشعل من مشاعل الفردوس!

أنتِ أنشودةُ كل حي؛ ينشدك الجميعُ بلهفةٍ وشوق!

أنتِ عصفورةٌ فتان أطلقه الله من فراديس الجنان!

فالمُسيني، أيتها الحرية، بسيالكِ العجيبِ فتحييني.

فكم من سجين حزينٍ يدعوك بكل ما فيه من أمل!

وكم من رهينٍ في قيوده يتمنّى أن تهبيه عطفك؛

لأنكِ رسولهُ السماء، وحبيبةُ الرسل،

وعشيقةُ الملائكةِ والكاروبيم!

فأنتِ هي ابنةُ الله! فادني مني، أيتها الحرية.

أيتها الحرية (شعرًا)

يا قبسا من نور ربِّي ساطعًا                 ومشعلا ترنو له العلياءُ!

يا نغمًا لكل حي كائنٍ                      يهزه النشيد والغناءُ!

ويا هزارًا فر من فردوسهِ                    لتهتدي بلحنهِ الغيراءُّ!

سيالك العجيب يحيي مُهجتي                إن غالبتني الأرضُ والسماء!

كم من سجين وهو في جنح الدجى          يدعوك إن حفت به الأرزاءُ!

هذا رهينُ السجن في قيوده                  يهفو لعطفٍ منكِ، يا حسناءُ!

رسولةُ السماءِ أنتِ للدُّنى                    مُذْ كانت الغبراءُ والزرقاءُ!

بل أنتِ بنتُ الله! مني اقتربي               أيتها الحرية الغرَّاءُ

      كذلك وضع حليم مقدماتٍ لثمانية من مؤلفات الدكتور داهش هي: الإلاهاتُ الست، ضجعةُ الموت، عشتروت وأدونيس، مذكرات دينار، القلبُ المُحطَّم، ناثر وشاعر، الجحيم، يروق ورعود، وآراءُ الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة الداهشية.

      كان حليم يعرف بالكتاب وموضوعه، مظهرًا قدرة الدكتور داهش العجيبة على الإبداع السريع تارةً، كما في مقدمته لـ"مذكرات دينار"، وطورًا يظهر ما يميز مؤسس الداهشية عن غيره ممن عالجوا الموضوع نفسه، كما الحال في مقدمتيه لـ"عشتروت وأدونيس" و"جحيم الدكتور داهش"، ودائمًا كان يؤكّد أن وراء كتابات الدكتور داهش إلهامًا ساميًا ومرامي علوية وأسبابًا روحية.

4 – في معمعمة الاضطهاد

أ – نذير الاضطهاد

في أول حزيران (يونيو) 1944 نظَّم حليم دموس، بمناسبة ذكر ى مولد مؤسس الداهشية، قصيدة بعنوان "تلك الحقيقة" حدس فيها بوقوع اضطهاد على الداهشية قبل أن يحدث فعلاً. كانت النُّذر كثيرة، لكن رجل الروح العجيب كان ما يزالُ يستقبل الزائرين ويجترحُ أمامهم المُعجزات بقدرة الروح العليّ. ومع ذلك كان حدس حليم باضطهادٍ وشيك الوقوع قويًا:

أنا لستُ أول عاشقٍ يتعذَّب           إن العذاب فدى الحقيقة يَعذُبُ

يا أخت شمس الحق، هيا زحزحي     عنك النقاب فمهجتي تتلهَّب...

قالوا: حبيبتك(الحقيقة) قد ثوت        والشرق هام بحبها والمغرب

عجبًا لهم!.. لا ينكرون جمالها        ولكلّ قلبٍ بالمليحة مأرب

هم كفَّنوها حيةً في مهدها             وتآمروا لعذابها وتعصَّبوا

صورُ العداوةِ جمةٌ، وأشدُّها           وقعًا إذا قتل الحمامة عقربُ

جهلوا محاسنها فراموا وأدها           ظلمًا وليس سوى الجهالة مركب...

ب – أسباب الاضطهاد

كان بين الذين آمنوا بالداهشية في أواخر صيف 1942 الأديبة والفنانة ماري حداد، شقيقة لور زوجة رئيس الجمهورية الأسبق بشاره الخوري (1943 – 1952), وزوجها جورج حداد، وأفراد أسرتهما. فأثار اعتناق ماري للداهشية التي تدعو إلى وحدة الأديان – وبالتالي إلى ضرورة إيمان المسيحيين بالنبي محمد أيضًا – نقمة شقيقتها لور وشقيقها ميشال شيحا اللذين كانا من وجهاء الكاثوليك، فتآمرا مع رئيس الجمهورية وبعض رجال الكثلكة النافذين للقضاء على الدكتور داهش، وذلك بعد أن فشلت محاولاتهم المتكرِّرة في زعزعة إيمان ماري حداد وإبعادها عن مؤسس الداهشية.

حاولت السلطات، ، أولاً، أن تلفق تهمة دنيئةً ضد الدكتور داهش، من أجل أن تشوه سمعته لدى الرأي العام، وتوجد ذريعةً تحيله بموجبها على القضاء؛ لكن محاولاتها الافترائية السافلة فشلت فشلاً ذريعًا، وأدَّت إلى اعتناق المدَّعي العامّ المركزي ديمتري الحايك للداهشية بعد أن كرَّر زيارته إلى رجل الروح بهدف التحقيق معه، وشاهد بعينه خوارقه المُذهلة ولمس بيده حياته النقية، وفضَّل الاستقالة من منصبه على تحقيق رغبة بشاره الخوري المُجرمة.

إذ ذاك عمد الرئيس الطاغية إلى تقديم مشروع قانون إلى المجلس النيابي يؤدي، في حال تصديقه، إلى منع رجل الروح من إجراء مُعجزاته. لكن مشروع القانون الغريب الذي أثار استخفاف العقلاء ونوادر الصحافة سقط ولم يبصر النور.

حيال الاخفاقات المتكرِّرة، اتَّفق بشاره الخوري مع شراذم من المأجورين المُنتمين إلى حزب طائفي معين – كان في أساس اندلاع الحرب اللبنانية ونكبة البلد وشعبه – على اغتيال مؤسس الداهشية. فكمن له أمام منزله، صباح 28 آب (أوغسطس) 1944، 40 فردًا من الأوباش وحاولوا الاعتداء عليه واغتياله، لكن الله أنقذه وأفشل مكيدتهم الجهنمية.

والعجيب في الأمر أن الحاكم الغاشم بدل أن يأمر بتوقيف المُجرمين المُعتدين، أوقف الدكتور داهش وهو المُعتَدَى عليه. وبعد أن أودعه سجن الرمل المشهور بباستيل لبنان مدة 13 يومًا، عمد إلى خرق الدستور الذي أقسم اليمين للمحافظة عليه، فتجاوز صلاحياته وجرد رجل الروح من جنسيته اللبنانية، ثم أبعده عن وطنه إلى الحدود التركية ساعيًا هكذا إلى تعريضه لرصاص الجنود الأتراك من حامية الحدود، لا سميا أن ظروف الحرب العالمية الثانية كانت قائمة.

ج- اضطهاد الداهشية ومؤسسها

لشد ما حزَّ في نفس حليم دموس أن يرى الحقيقة الروحية مُضطهدة، غريبة في هذا العالم الموَّاج بالمفاسد والشرور، وحامل مشعلها منفيَّاً مُطاردًا؛ لكن العذاب، في رأي الحليم "فدى الحقيقة يعذبُ"، لأن صوت الحقيقة سيلعلعُ في آذان العالم آجلاً أم عاجلاً، ونورها سيملأُ الآفاق.

والداهشية، في نظر الحليم، ككل حقيقةٍ روحية، تستحقُ الفداء والعذاب في سبيل نشر مبادئها، والسجن بغية إطلاق صوتها وإشراع وجهها سافرًا ساطعًا. ومن سخرية الأقدار أن يكون لكل رسالة روحية مُضطهدوها ولكل مؤسس عقيدة مناوئه. إسمعه يقول بصوت حزين كأنما يحمل عتابًا لطيفًا للأقدار:

كل هاجدٍ يلقى اضطهادًا وجورًا        من أناس يطوون جمر الضغينة

آن للعدل أن يسود البرايا             ويؤاسي منَّا النفوس الحزينة

آن للحق أن يصون عيونا            دامياتٍ تُذري الدموع السخينه

ويقول حليم في مخطوطةٍ أخرى:

كذاك داهش يشقى             في السجن رهن القيود

ماذا جناه ليلقى                نفيًا وراء الحدود؟!

ويتعلّم الحليم دروس الصبر والجهاد من معلمه الروحي الذي حارب قوات الشر المُعتدية على حريته وحقوقه، وهو الفرد الأعزل، لكنه بقوة الروح ردَّ كيد أعداء الحقيقة إلى نحورهم:

لقد تعذَّبت أعوامًا مسلسلة       من عصبة الشر والإجرام والحيل

فكنت لا تنثني عن ردِّ كيدهم    إلى نحورٍ هوت في لجَّةِ العلل.

د – سجن حليم دموس وأركان الداهشية

 بعد شهر واحد على إبعاد الدكتور داهش عن لبنان، تمكَّن رجل الروح من العودة خفية إلى بيروت في 9 أيلول (سبتمبر) 1944، رغم الرقابة المُشدَّدة التي لم يعهدها البلد على جميع حدوده. وسرعان ما بدأ بحملةٍ إعلامية تشهيرية ضد الرئيس الطاغية وزبانيته من رجال دنيا ودين؛ فوضع 66 كتابًا أسود و165 منشورًا طافحة بقبائح بشاره الخوري وأسرته وبفضائح عهده مؤيَّدة بالصور الشخصية الفاضحة والوثائق الرسمية. وكانت المناشير تملأ شوارعَ بيروت بعد أن توزع على القنصليات والسفارات والدوائر الحكومية والصحف. ورغم تجنيد الدولة لجميع أجهزتها، فشلت في إيقاف المدّ التشهيري الهائل الذي زعزعها كما أخفقت في معرفة مصدره.

وحفظًا لماء وجهها لدى الرأي العام، اتَّهمت حليم دموس بإنشاء الكتب والنشرات السوداء فسجنته مرارًا وتكراراً، مع يقينها بأنه ليس هو الذي ينشئها، لأن الكتب والمناشير الفاضحة كانت كالسيل العرم تتدفق موجة إثرَ أخرى رغم وجود الحليم في السجن.

      وقد أخبرني الدكتور فريد أبو سليمان، رفيقُ الحليم في جهاده، أن عدد الأيام التي قضاها حليم في غياهب السجون بلغت ثلاثمئة يوم ٍويوم، وذلك بين عامي 1945 و1947؛ وكانت المرة الأولى على أثر المباشرة بتوزيع المناشير والكتب السوداء.

      لكن شاعر الروح المؤمن كان يستقبل الاضطهاد بصبرٍ عجيب، لأنه كان يعلم علم اليقين بأن شمس الحقيقة ستشرق. لنسمعه يقول: "نحن نستقبل كل اضطهادٍ وعذابٍ بصبرٍ جميلٍ إذ إن كل فكرة إصلاحية جديدةٍ لا بد من مقاومتها إلى أن تتجلَّى الحقيقة لكل ذي عينين".

      وما همه أن يسجن وهو المؤمن بأن الجسم هو بحدِّ ذاته سجن للنفس مدى العمر الزمني، فلا يحصل الإنسانُ على حريته إلا بالموت:

 والجسمُ سجنُ النفس فهي أسيرةٌ             والموت تحرير وفك إسارِ

والموت ينقلها إلى جنَّاتها                   ويعيدها للواحد القهَّار

ليس الزمان بمدركٍ أرواحنا                  ما دامت الأرواح ملك الباري!

وبتاريخ كانون الأول عام 1946 نشرت مجلة "المختصر" رسالة لحليم دموس جاء فيها: "إننا نتحَّمل الاضطهاد من عام 1942 بصبرٍ وثبات... وثق أن عزيمتنا لن تهُن، وقناتنا لن تلين، لأننا طلاب حقٍّ وحقيقة، وعشَّاقُ مبدأ صحيحٍ وعقيدة سامية... هيهات أن تقوى الظّلمة على النور، وهيهات أن تنهزم نسورُ الفضاء أمام خفافيش الظلماء".

      إن الإيمان أضاف معجزة جديدةً إلى حياته، معجزة الصمود الجبَّار الذي لم تزعزعه قرارات السلطات الأرضية الجائرة، بل مدَّته بعزيمةٍ لا تلين، لأنه كان يعلم علم اليقين بأن النصر المُبين سيكون للحقيقة الهادية التي ستشرق في عيون العميان ولصوت الحق الذي سيلعلع في آذان الصمّ:

ومهما طوقوا بالقيد زندي              سأخرج بعد طول الأسر حرًا

أعودُ إليك، يا وطني، نقيا             كأزهار الربى طيبا وعطرا

أعودُ إليك منتصرًا كنسرٍ              تحمل في ظلام السجن قهرًا

لئن هبت أعاصير الرزايا             علي أظلُ رغم الدهر نسرًا

وفي 28 كانون الثاني 1946 نشر حليم دموس في جريدة "الحياة" هذه الكلمة:

"في الصيف الفائت أوقفوني لغير سبب، وفي أعماق السجون زجُّوني، وبقيتُ 55 يومًا دون أن يحاكموني، فهل يوجد من يحلِّل لنا هذه المعاملة بوضوحٍ وجلاء؟"

إعتصر السجن فؤاد الحليم، فثار... وفي خط الثورة على الظلم والظالمين يكتبُ، في "سجن الرمل" قصيدة "شاعرٌ متمرِّد". إنه في هذه القصيدة شاعرُ الغضب المقدَّس، وشعره "غضبةٌ تتجدّد"، فيها تستحيل يراعتُه إلى مهنّد باترٍ مُسلط فوق رقاب الظالمين والمعتدين على حقوق الآخرين. فالاضطهاد والمظالم والسجن والجوع... حوّلته إلى شاعرٍ متمرّد بعد أن كاد الألم لا يظهر إلا لمحًا في شعره في الفترة الأولى من حياته. استهلَّ القصيدة بقوله البليغ التاثير:

قرأوا وقالوا: "شاعرٌ متمرّد"      صدقوا، فشعري غضبةٌ تتجدّد

من لم تهز العبقرية شعره       هيهات يُتهم في الخيال وينجد

وإذا تمرد شاعرٌ فيراعه          يوم الجهاد على الرقاب مهنّدُ

حطمت أقلام السلام لأنني      جردتُ سيفًا في الجوانح يُغمدُ...

أيهانُ نابغةٌ ويسجنُ شاعرٌ      وأخو الجهالة في البلاد يمجدُ!

وسكب حليم المقطعاتِ الشعرية والقصائد

سكبًا مصهورًا بالآلام والغضب والصبر المعزي.

أيسجن الشاعر من غير ذنب إلا تعزيز إيمانه بالله!

صمتُ أمام السجن، والصمتُ أبلغُ                 فمن ذا أناديه ومن ذا أبلغُ؟

لقد حكموا ظلمًا بخمسةِ أشهرُ                     وكم مؤمن من عقرب الظلم يُلدغُ!

ولا ذنب لي – والله أعظمُ شاهدٍ-

      سِوى (دعوة) ثوبَ الفضيلةِ تسبغُ وفضلاً عن حليم دموس، أمر الرئيسُ الطاغية بسجنِ عدة داهشيين بارزين كانت بينهم البطلة المجاهدة ماري حداد. يقول حليم في رسالةٍ بعث بها إلى مجلة "المختصر" عام 1947: "بالامس- 16 حزيران – حضر رجال التحري إلى منزل الرسالة الداهشية، وقبضوا على الأخت ماري حداد، وزوجها جورج حداد، وصهرهما جوزيف حجار واعتقلوهم. وهم الآن في سراي البرج التي تحوّلت إلى مديرية الأمن العام... هذه مأساةٌ جديدةٌ من تلك السلسلة التي لها بدايةٌ وليس لها نهاية...".

      وتحول السجن في شعره إلى مفاخرة تبرز قيمة الجهاد الروحي وتفاهة حكّام البلاد. يقول في إحدى ثلاثياته التي تضمّها "أمثالُ المتنبي وحكم حسان".

السجن في الرملِ منتهى شرفي        وإن يكن في أسرهم تلفي

بين رفاقي قبلتُ مظلمة               والظلمُ يرمي الألوف في الغُرفِ

"لو كان سكناي فيه منفعةٌ             لم يكن الدرُّ ساكنَ الصدفِ.

وسجن حليم مجددًا في شهر أيار من عام 1947 في سجن الرمل ببيروت، وقبل خروجه ودَّع السجناء بقصيدة نشرت، للمرة الأولى، في صحيفة "الفجر" تحت عنوان "من السجن"، ومطلعها:

يا رفيق الروح زين الأصدقاء          أنا في السجن رفيق البؤساء.

أنا في السجن أعاني ألما             صارخًا أجج نارًا في دمائي

وفراشي غرفة مظلمة                 رطبة فاحت بموبوء الهواء

سجناء في ثراها انطرحوا              كقطيع من خراف وجداء

عجبوا لما رأوني بينهم                بحديد القيد، قيد الأشقياء..."

كلمات الحليم تستدر الدموع لصدقها وعفويتها . أمن العدل أن يحسب الشاعر المؤمن في عداد المجرمين في البلاد المُنقسمة؟ لا، وألف لا، فالعدلُ الإلهي، لا شكَّ، سيكافئ البريء, ويعاقب المُجرمين ولو بعد حين. فالله يُمهل ولا يهمل. يقول حليم في منظومته بالسجن "سجِّلي يا شهب":

قل لمن حل لديه سقمي                     سيلاقي بعد حين سقمه

أمنَ العدل بأن يحسبني                     في عداد المجرمين الأثمة؟

إن من قيَّدتم لن تُسكتوا                     فمه أو فكره أو قلمه

سجِّلي، يا شهب، شعري، فغدًا              تشرق الشمس وراء الأكمة

هـ - إعدام إحدى شخصيات مؤسس الداهشية

كان حليم يعاني الأمرين في سجن الرمل لما بلغه نعي مؤسس الداهشية في أوائل تموز (يوليو) 1947. فقد ذكرت الصحف العربية أن الجنود الإيرانيين قبضوا عليه في 28 حزيران (يونيو) داخل حدود آذربيجان التي كانت الثورة الانفصالية قائمة فيها، لأنه لم يكن بحوزته أية أوراق رسمية تثبت هويته – إذ كان طاغية لبنان قد جرَّده  منها – واتهم بالتجسس من غير محاكمة، وأعدم رميا بالرصاص في أول تموز (يوليو)؛ كما نشرت الصحف صور مصرعه. وقد أكد سفير إيران في لبنان يومذاك، السيد رهنما، نبأ مصرع داهش ودفنه في أذربيجان.

      ولما كان حليم سجينًا معزولاً، لم يستطع أن يعرف ما عرفه رفاقٌ له كانوا قريبين من الدكتور داهش الذي كان ما يزالُ يعيش في خفية مواصلا جهاده ضد الباغية على مرمى حجر من القصر الجمهوري؛ وما عرفوه كان معجزة مُذهلة، إذ أن شخصية من شخصيات مؤسس الداهشية العلوية التي كثيرًا ما عاينها شهودٌ تتجسَّد أمامهم هي التي تجسَّدت في آذربيجان وأعدمت بالرصاص، لكنها سرعان ما بُعثت من الموت لأنه غير قادرٍ عليها، فهي غير خاضعة لأنظمة الأرض. وما حدث كان، من جهة، شهادة على الجريمة التي اقترفها بشاره الخوري باضطهاده رجل الروح البريء وتجريده من جنسيته ظلمًا واعتسافًا، وتجسيدًا عمليًا لعواقب تلك الجريمة، ومن جهة أخرى مساعدة للداهشيين الذين كانوا يُلاحقون باستمرار، إذ إن الرئيس الباغية سيطمئنُ بعد ذيوع خبر مصرع داهش، فيكفّ عن ملاحقتهم. وكان حليم بمعزل عن كل ذلك، ففاضت شاعريته التي كوتها الآلام وصهرتها الأحزان بقصيدةٍ طويلة بلغت سبعين بيتًا؛ وقد بدأها بالتساؤل وكأنه غير مصدِّق نعي معلمه الذي أدمى فؤاده وهو وراء القضبان الحديدية.

أحقًا قضى من كان للروح هاديا             فالهب أشجاني وأدمى فؤاديا؟

أحقًا مضى من كنتُ أرجو لقاءه             لأبلُغَ من أهل الزمان مُراديا؟

أحقًا توارى عن بني الأرض داهش           ولاح شهابًا في دجى الليل هاويا؟

      وتسيل دموع أساه لاحتجاب مؤسس الداهشية، وهو سجين الغدر والخيانة، تمرّ بذاكرته الأشباح التي تقضّ مضجعه، إذ فقدَ بفقد هاديه حتى الرجاء! ثم يخاطب رفاق السجن ليعزّي نفسه المُفعمة بالأحزان:

فيا رفقاء السجن رفقا بشاعر          عصته القوافي يوم رام المراثيا

ويا سجناء الرمل هلا سمعتم          أنين سجين يسهرُ الليل باكيا

تعالوا تعالوا كي أقص عليكم          حديثًا كدمع العين ينهلُّ جاريًا...

لكن الحليم المؤمن بالخلود والتقمّص، يعزّي النفس باللقاء ثانيةً في العوالم العلوية، ويرى هاديه مُحلقًا إلى أعالي السماء يجوب النجوم والكواكب ويروي لسكان السماء ما يحدث على الأرض من مظالم. وحليم الثابت على العهد سيبقى وفيًا لمعلمه الذي لفَّنه دروسًا عظيمة في الإخاء والجهاد والمحبّة.

وتتوالى مُقطعات حليم وقصائدهُ في هذا الحادث المؤلم، فتسيلُ كلماته رقةً وأسىً، وكأنها تدمعُ مع الشاعر حين يذكر كلمات هاديه، لكن الغائب...

لئن ذاق الردى بالجسم عذرًا           ففي أتباعه بالروح عائش

غريبًا عاش في الدنيا، لهذا            غريبًا مات في إيران داهش

و – نفيرُ الثورة

رأى حليم وطنه يتخبّط في دياجير الظلمة والعبودية والخداع، وطنا "تهدّده الليالي" لأن زعماءه لم يعملوا لخيره وخير الشعب بل عملوا لمصالحهم الشخصية. ترى، هل حرس زعماء لبنان الشعب؟ لا بل طعنوه: "أيها الوطن المسكين العاثر، والكثير المعاثر، كم من خونةٍ يرفعون باسمك الحناجر... ثم يطعنون شعبك الآمن بحدِّ الخناجر"

ورأى حليم أن الشعب اللبناني بات يرسفُ في أبشع العبوديات. رفع حليم صوته الجريء في وجه رجال الحكم الذين يستقوون على الضعفاء من أفراد الشعب، فبكى على جهلاء تقانوا في عبادة المال، مُهملين الروح، فأنشد بحسرة:

 سمعتني أبكي لحال بلادي               فاستفاقت مذعورةً مُستجيرة

لا تخافي، يا أخت روحي، فنفسي     في هناءٍ والعينُ مني قريرة

غير أني أبكي على جهلاءٍ           يتفانون سيرةً وسريره

أهملوا الروح واستهاموا بدنيا           ليس فيها سوى ظلام الحفيره   

يزرع الزراع الحكيم بذورًا              وهنا جاهل أضاع بذوره  

      فأين وحدة الوطن وأين وحدة أبنائه، ولماذا لا يثورُ الشعب على الطغيان، وأين الحرية وكرامةُ الإنسان؟ ثار الحليم وتمرد بنفسٍ لا تنكس هامتها إلا خالقها، فأبى إلا أن يعيش موفورَ الكرامة حتى كلفته عقيدته غياهبَ السجون والجلد والجوع... فاسمعه يقول بإباء وأنفه:

إن يسألوا عني فقولي: "ثائرٌ          للحق في زمنٍ يهانُ به التقي"

لقد ظُلم مؤسس الداهشية واضطهدت رسالته  فبلغت شظايا الاضطهاد الداهشيين. لكن الحكم الظالم لم يقو على خنق أصواتهم في داخل السجون وخارجها:

تركتُ كل عزيز في دياركم            لأدفع الجور عن (حقي وإيماني)

كم صرخةٍ من وراء السجن قمتُ بها   باسم (الحقيقة) بنتِ (العالم الثاني)

فلا المظاهر بعد اليوم تخدعُنا        ولا الأباطيل تروي قلبَ ظمآن

ولا زخارفُ أقوالٍ تقيدنا               ولا تقاليدُ أحزابٍ وأديان...

يرى حليم أن حرية المُعتقد يجب أن تُصان، فهي حقٌّ مقدّس. ولذا فاضطهاد الداهشيين جريمةٌ لا تغتفر. وسرعان ما يقولُ الشعب كلمته مطالبًا بحرِّيته المقدّسة:

(حريَّة الشعب) في الدنيا مقدَّسةٌ             فلننقذ الشعب من زورٍ وبهتان

ونتيجةً لمظالم بشاره الخوري ومفاسد عهده المتكرّرة ولنشر فضائحه وقبائحه على الناس، ثار الشعب عليه، أخيرًا، في أواخر الصيف من عام 1952، فأُسقط من الحكم. وسرعان ما أعيدت الجنسية اللبنانية إلى الدكتور داهش. فهلَّل حليم قائلاً:

الله أكبر كيف الأمرُ ينقلبُ                  ودولةُ الظلم في الظلماء تحتجب

إرادةُ الشعب حكم لا مردَّ له                 فانصفوه ففي إنصافه الأرَبُ

لا تغضبوا الشعب فالأحقادُ كامنة            حتى الجماداتُ فيها يكمن الغضب

لا تلهبوا الشعب إن النار عاصفةٌ            والعودُ ينفثُ نارًا ثم يلتهبُ

      إنه  الإيمان الراسخ كالجبال الرواسخ يصنع معجزاتٍ بطولية، ويسجّل أسماء المجاهدين في سجل التاريخ الخالد. فالثابتُ حتى النهاية ينتصر في النهاية. وخير درسٍ لكل مجاهد هذه الكلمات المُفعمة بالإيمان لحليم دموس:

"وقد عاهدنا الله أن لا نلتفت إلى الوراء، بعد أن وضعنا أيدينا على المحراث، وبعد أن حملنا صليب الصبر وعلم الجهاد حتى النهاية، وحسبنا عزاءً أننا سائرون بحراسة الله ورعاية مرشدنا المُختار وهادينا الجبَّار، الذي نهض وسار وثار، وأدهش البصائر وقلَبَ الأفكار، واصلاً في ذلك آناء الليل بأطراف النهار. حرسهُ لنا وللرسالة وللعالم القدير القهّار.

5 – جهاد يومي دائب

كان حليم، إضافة إلى جميع أعماله، يجمع قصاصات المجلاَّت والجرائد التي يقرأها الدكتور داهش، فيؤرخها ويضعها في مجلّدات ضخام. والجدير بالذكر أن الدكتور داهش كان ينهض مع ساعات الفجر الأولى فيطالع يوميًا عدّة مجلات وجرائد بسرعة عجيبة، واضعًا إشاراتٍ على الموضعات المهمَّة لتقص وتحفظ في مجلدات تضمها المكتبة الداهشية.

زد إلى ذلك مراسلات حليم إلى عدد كبير من الأدباء والصحفيين، ليعرّفهم على الداهشية وقضية الاضطهاد الذي شُنّ عليها. وكثيرًا ما كانت رسائله، في الوقت نفسه، ردودًا على المهاجمين.

كما كان حليم ينشر في الصحف العربية والمهجرية مقالاتٍ عن الداهشية، ويجمع آراء الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة.

كان حليم أيضًا رسول الدكتور داهش إلى النافذين من رجال دنيا ودين، كما كان يرافقه في زياراته، يبشرُ بالداهشية أينما حل وكيفما اتَّجه. كذلك كان يلقي الخطب الداهشية وينشد القصائد التي تعبق بعبير وحدة الأديان في  الجوامع والمدارس.

كان حليم أيضًا يردُّ على الساخرين بالداهشية بأسلوبٍ فيه سخرية أشدّ. مثال ذلك ردهُ على سعيد تقي الدين، بعد أن هاجم المذكور بعض مؤلفات الدكتور داهش بأسلوب ساخر، فحاربهُ حليم بالسلاح نفسه معتمدًا في ردّه على الحُلم ليدعَ خياله ينطلقُ حرًا، وأكثر من التشابيه الحاطة من قدر المسخور منه مُستخدمًا أسلوبَ المدح في معرض الذم.

      ولم يكتف حليم بنظم القصائد المدوِّية في ضمير الشعب للانتفاض على الظالمين، بل شنَّ أيضًا حملة عنيفة على الصحفيين المأجورين، والأدباء الصامتين، وعلى الشعب الخانع؛ فدعا الصحافيين المرتزقة إلى أن يكسروا أقلامهم الباطلة، لأن لمهنة الصحافة رسالةً شريفة يجب أن تؤدى بضمير حيّ؛ ولام الأدباء في الوطن والمهجر لوقوفهم صامتين خانعين خائفين إزاء ما ألمَّ به من جرَّاء الاضطهاد الذي تردَّد صداه في المهجر. يقول حليم في ردِّه على توفيق ضعون:

"... ولقد ذكرت في رسالتك أن عهد صداقتنا يمتد إلى أربعين سنة خلت... فهل اندفعت فدافعت عني، وقد سجنوني أكثر من تسعة أشهر دون أية نيةٍ بيِّنة أو علَّةٍ عليّ، وأنا منذ أكثر من أربعين سنة أخدمُ أمتي وبلادي بقلمي ولساني، وبياني وجناني، وضميري ووجداني!...

      "إذًا فسلامٌ على الاستعمار البغيض إذا كانت هذه مكافأة أدباء البلاد وشعرائها في العهد الوطني الدستوري، وإذا كانت أقلامكم الحرّة في المهجر تصمتُ ولا تحرّك ساكنًا، ولا تهتز أو تغضب لأية جريمة مهما عظمت وضخمت.

"ولكن حرية الأقلام – وأسفاه – يفسح لها المجال العريض الطويل للتبخير والتبجيل في هذا الوطن المسكين... الذليل"...

وكم من ردٍّ مُزلزلٍ بعث به الشاعر إلى "قلم المطبوعات" دفاعًا عن الدكتور داهش وتوضيحًا لمبادئ رسالته السماوية، وذلك في خضمِّ فترة الاضطهاد، لكن رسائله كانت تخنق في صناديق الطغيان، فيسمح لكلمات المفترين بنشرها في الصحف المحلية، وما ذلك إلا تنفيذًا للخطة الجهنمية التي رسمتها الدولة وزبانيتها.

سيبقى اسم حليم مقرونا بالرسالة الداهشية، يذكر كلما ذكرت، ويكرّم كلما كرِّمت. فالمواقفُ الجبَّارة تدمغ التاريخ بأحرفٍ خالدة من نور ونار.

لقد جهلوا قدر الفتى في حياتهِ                     فمات شقيًا وهو للعلم شيقُ

فتى خدم الأوطان عشرين حجّة                   وذاب كمصباح به النور يخفق

وما أدباء الشرق إلا كأنجم                        ترى في ظلام الليل إذ تتألق

وكم من أديب عاش في الأرض مُهملاً             وبعد الردى في ظلمةِ القبر يشرق

المراجع:

1 – يوسف الحاج، "الدكتور داهش والروحانية" (بيروت، 1946)، ص 213

2 – حليم دموس، معجزات مؤسس العقيدة الداهشية ومدهشاته الخارقة" (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ص 37.

3 . المصدر السابق، ص 39

4 – الدكتور داهش، "جحيم الذكريات" (دار النسر المحلق، بيروت، 184)، قطعة "الضباب ص 265 – 274.

5 – حليم دموس، "معجزات مؤسس العقيدة الداهشية ومدهشاته الخارقة"، ص40

6 – حليم دموس، المصدر السابق ص 18

7 – حليم دموس، المصدر السابق، ص 45 – 49.

8 – إنجيل يوحنا، الاصحاح 3، الآية 3.

9 – لطفي رضوان، "معجزات وخوارقُ الدكتور داهش" (بيروت، 1979)، ص 61

10 – حليم دموس، "معجزاتُ والخوارق الداهشية المذهلة" (دار النار والنور، بيروت، 1983)، "المقدمة"، ص 13.

12 – حليم دموس، "من أناشيد الملحمة العربي الكبرى" (بيروت، 1940 – 1941)، ص 43.

13 – حليم دموس، تمهيد العدد الأول من جريدة "الأقلام، بيروت، أول كانون الثاني 1932، ص 1؛ والعدد 9، السنة الأولى، 27 شباط 1932، ص 8، راجع أيضًا حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه" في 60.

14 – نجوى سلام براكس، "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 179

15 – حليم دموس، "معجزات مؤسس العقيدة الداهشية ومدهشاته الخارقة"، ص 29.

16 – المصدر السابق، ص 36.

17 – المصدر السابق، ص 49.

18 – المصدر السابق، ص 49.

19 – "دراسات ومقالات الأدباء والكتاب والصحفيين في كتاب مذكرات دينار لمؤلفه الدكتور داهش" (دار النسر المحلق، بيروت، 1980)، ص 67.

20 – حليم دموس، "يقظة الروح أو ترانيم حليم"، ص 188.

21 – راجع "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 171.

22 – حليم دموس، "المعجزات والخوارق الداهشية المذهلة"، ص 70.

23 – يوسف الحاج، "الدكتور داهش والروحانية"، "من إفادة حليم دموس الخطية التي قدمت إلى رئيس البوليس العدلي في بيروت الأستاذ إدوار أبو جوده بطلب رسمي منه، وذلك بتاريخ 23 شباط سنة 1944"، ص 215 – 216.

24 – حليم دموس، "يقظة الروح"، (بدون تاريخ) ص 194.

25 – نجوى براكس، "الدكتور داهش الأديب العملاق بين كواكبه الأدبية (دار النسر المحلق، بيروت، 1981)، ص 48 (نقلاً عن مخطوطة).

26 – "تقييم مؤلفات الدكتور داهش الأدبية بأقلام أدباء وشعراء وكتاب وصحافيي البلاد العربية" (دار النسر المحلق، بيروت 1980)، ص 13.

27 – الدكتور داهش، "ناثر وشاعر" (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ج 3، ص 104.

28 – للاطلاع على مضامين هذه المقدمات راجع "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 308 – 314.

29 – من قصيدةٌ "تلك الحقيقة". نظمها الشاعر في مطلع حزيران 1944. انظرها في ملحق "حليم دموس والاتجاه الروةحي في أدبه"، ص 397 – 398. نشر حليم هذه القصيدة في مجلة "هوليوود"، السنة الثانية، آذار 1951، بعد أن حذف منها بضعة أبياتٍ وزاد البيت التالي:

            ولأجلها سجنوا وأقصوا داهشًا          ولذا يشرقُ تارةً ويغربُ

30 – من منظومةٍ مخطوطة عنوانها "نجاة السفينة". أنظرها في "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 416.

31 – أنظر "حليم دموس والاتجاه الروحي ف أدبه"، ص 218.

32 – من قصيدة "ميلاد الهادي"، مطلع حزيران 1957. انظر ملحق "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 415.

33 – آراء الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة الداهشية" (دارس النسر المحلق، بيروت، 1979)، ص 134.

34 – حليم دموس، "رباعيات وتأملات" (دار الإنصاف، بيروت، 1953) ج2، ص 21.

35 – "آراءُ الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة الداهشية"، ص 182 – 183 . راجع أيضًا مجلة "المختصر"، العدد 14، كانون الأول 1946.

36 – "رباعيات وتأملات"، ج 2 ، ص 77.

37 – "آراء الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة الداهشية"، ص 148.

38 – راجع قصيدة "شاعر متمرد" في "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 417.

39 – حليم دموس، "يقظة الروح"، ص 190.

40 – آراءُ الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة الداهشية،" ص 207 – 208.

41 – مجلة "الورود"، السنة 3، ج9، أيلول 1979، ص 8.

42 – الفجر، 25/5/1950. راجعها أيضًا في "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 430.

43 – مجلة "الدبور"، 4/4/1949. راجع القصيدة في "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 420.

44 – أنظر: غازي براكس، "مدخل إلى الداهشية" (الدار الداهشية، نيويورك، 1992)، ص 111- 119). و"مراتي الأدباء والشعراء والصحفيين والأطباء والمحامين ورجال الدين والحكام والقضاة بمؤسس العقيدة الداهشية"، دار النسر المحلق، بيروت، 1979.

45 – عنوان القصيدة "أنات سجين". راجعها في "مراثي الأدباء والشعراء والفصحفيين"... ص 21 – 23. وقد نشرت بخط حليم في "الاتجاه الروحي في أدب حليم دموس"، ص 436 – 438.

46 – "مراثي الأدباء والشعراء والصحفيين"... ص 17.

47 – "رباعيات وتأملات"، ج 1 (دار الإنصاف، بيروت، 1952)، ص 48.

  1. 48. "رباعيات وتأملات"، ج2، ص5
  2. 49. "يقظة الروح"، ص 207.

50 – المصدر السابق، ص 205.

51 – المصدر السابق نفسه.

52 – من قصيدة لحليم مخطوطة.

53 – من كلمة حليم دموس في مطلع حزيران 1948. "مولد الهادي" (مخطوطة). راجعها في "حليم دموس والاتجاه الروحي في أدبه"، ص 402.

54 – حليم دموس، "صواعقُ مدمرة انقضت على الفرسان الأربعة" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت، 1979)، ص 60.

55 – حليم دموس، "رباعيات وتأملات"، ج 1، ص 35.   

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.