أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

رحلة النجاة العجيبة

بِقَلَم يوسف قبلان سلامة

 

كان مصطفى يعيش في جزيرة تقع في قارة أمريكا الجنوبية. وقد هاجر أهله من لبنان قاصدين البرازيل في أثناء الحرب العالمية الثانية. إلا أن الحالة المَعيشية الصعبة في تلك الاثناء هي التي دفعت بهم الى هجرة وطنهم، ليغادروا في أحد الأيام على متن إحدى السّفن المسافرة. وما أن اقتربت تلك السفينة من الشواطئ الجنوبية البرازيليّة حتى تعرضت سفينتهم لعاصفة هوجاء انقلبت على اثرها السفينة، وكان من نصيب عائلة مصطفى أن تنجو مع العشرات من الأشخاص الذين تشبّث بعضهم بحُطام السفينة، وآخَرون ركِبوا قوارب للنجاة. وقد وصلوا الى جزيرة نائية يقطنها أناس يعيشون حياة بدائية. ولكن ، ومع مرور السنين، اعتاد كل من نجا وبقي على قيد الحياة على العيش وسط تلك الظروف الصّعبة فقد كانت الجزيرة مَلأى بالأشجار المُثمِرة والدّواب كالماعز والغزلان. ولكن وبعد سبع سنوات تقريبا، كان نبأ تحطّم السّفينة قد وصل الى مسامع إحدى العصابات التي كانت تجني الأموال من السّرِقة. كانت هذه العصابة تملك أسلِحة فتّاكة وطائرات حربية. وحدث في إحدى الليالي أن أن استطاعت أن تجد تلك الجزيرة بواسطة آلاتِ الرّصدِ التي تملكها وشَنّت حرباً على قاطني تلك الجزيرة. وكان آنذاك مصطفى صغير السّن يبلغ من العُمرِ الرّابِعة، أما والداه فقد كانا من الأشخاص الذين قدّموا حياتهم في سبيل الدّفاع عن وَطَنِهِم الجديد. فقد استُشهِد والداه على اثر تعرّض منزله الى غارة جوية عنيفة. وهكذا احتُلّت الجزيرة من قِبَلِ أفرادِ تلك العصابة . كان من الصّعب التّعرّف على هويات الجُثَث بسبب التشوّهات التي أصابت الأجساد. أما مصطفى فقد استطاع التّعرّف إلى مَلامِح ذويه على الرغم من صعوبة واستحالة الأمر حتى على الرّجال المختصين من تلك العصابة الدولية! ولكن، ظلّ ذلك المشهد محفوراً في ذاكرته. ظلّ مًصطفى رازحاً مُدّة سنة تحت وطأة الألم النّفسي الناتج عن تلك الذّكريات المؤلمة.حقاً، لقد عاش طيلة حياته في الأسر، وكان على الرغم من حالته الصّعبة يساعد المَرضى على تخطّي آلامِهم بواسطةِ قيامه بمهِمّةِ التّدليك الطبيّ الذي كان قد بَرَعَ به وألمّ بجميع خفاياه، لدرجة أنه تفوّق بِفنَّهِ على جميع الأطباء الذين كانوا يزورون المُعتقَل من فترةٍ الى أخرى. وقد أراح الكثيرين ممّن كانوا يعانون من أمراض نفسية كادت أن تصيبهم في وقت لاحق. وقد أعجبت إحدى الفتيات بطريقة مساعدته للمرضى، وكانت هي نفسها تشكو من مرض في القلب. وقد تَعرّفَ إليها عندما كان في الرّابعة عشر من عمره. وقد كانت هذه الفتاة "ناتالي" تجمع القِصص والأخبار في أثناءِ سيرها داخل هذا المُعْتَقَل الكبير؛ فتستمِعُ الى جميع من كانت لديهم خبرة ومعلومات.كما كانت تجلس معهم مُشاركةً إيّاهُم في المواضيع الرّوحيّة والعلوم وغيرها. وقد حدّثَت مُصطفى عن روايات الأساطير الموجودة في الكُتُب الدينيّة كقِصّةِ شمشون الجَبّار وعن الحُروبِ الفينيقيّة، كما ووصَفَتْ له أشكال المَراكب الفينيقيّة. وقد خطرت على باله فكرة على اثر ذلك، وهي أن يُمضي وقت فراغِه بصناعة قارب فينيقيّ بحسب وصف ناتالي له. وقد أنجز بناءه في غضون شهرين. حَقّاً لقد أعجِب أحد الَضبّاط بهذه السّفينة فقام بوضع زجاجٍ كالقُبّة ليكون بِمثابة سقف للقارِب، وفُتحة دائرية على الجِهة الأماميّة للنّافِذة. أمّا الزّجاج فقَد اقتُلِعَ مِن إحدى الطّائرات،وهكذا يستطيع الأنسان الدّخول عبر هذه النافذة. وهكذا كان الغِطاء الزّجاجيّ يُغَطّي المَركَبة كُلّها باسثناء تِلك الفُتحة. وقَد ثُبّت في وسط القارِب صارياً، وجُعِلَ في سقفِ الزّجاج فُتحة لكي يدخل مِنها عامود الصّاري، وذلك لِرَبطِ الشّراع، وقام بإحكام تلك العصا بواسطة مادّة صمغيّة لاصقة لمنع تسرّب الهواء إلى داخل السّفينة. وقد قام بِطَلي الزّجاج بِمادّة حاجِبة للنور، وذلك لتفادي أشعّة الشّمس الحارِقة عن الرّاكِب. وقام مُصطفى بِصناعة دَفّة صغيرة.

وحَدَثَ في أحَد الأيّام أن اشتدّ مرض القلب على ناتالي، فأصابتها آلام شديدة. وحدث في إحدى الليالي أن أصيبت بنوبةٍ قلبيّة. فما كان من مصطفى الا أن تسلّل الى غرفتها، وقام بالضّغط على صدرِها بِكِلتا يديه بأسلوب مُعيّن عَلّ وضعها الصحي يتحسّن. وكان يهمس في أذنها في تلك اللحظة عن كيفية إنقاذه لأحد الطيور من المَوْت جوعاً علّه يُنسيها آلامَها. وأخبرها بأنّه كان يعزف على ناي كان قد صَنَعَهُ في المُعتقل، وقد تشقّقت أصابعه نظراً للثقوب الحادّة الموجودة فيه أثناء عزفه في تلك اللحظة. وما أن شاهد ذلك الطائر الشّبيه بالنّسر النّاي حتى وضع منقاره في الثقوب المليئة بالدّماء ماصّاً إيّاها.وعادت الحياة إذ ذاك الى الطائر بأعجوبة. ولكن حدث بعد إنهائه للقصة أن ابتسمت ناتالي في وجه حبيبها ابتسامة لن ينساها الى الأبد لجمال سحرها الأخّاذ، لكن سُرعان ما فقدت الوعي بعد ذلك. فَغَضِبَ إذ ذّاك غضباً شديداَ، فضغط على صَدْرِ ناتالي بطريقة معينة وقاسية، (لاشعوريّاً)، وأغميَ عليه من الحزن والضيق المُفرَط ، ليجد نفسه في اليوم التالي في السّجن. وقد حُكِمَ عليه بالموت شنقاً لأن يديه قد اخترقتا صدر الفتاة البالِغ الشفّافيّة والرّقّة ، ليبرز شريان قلبها الرّئيسي مِن عُنقِها.

وهكذا نُفّذ فيه حكم الإعدام وقرّروا نقل جثمانِه الى وطنه على متن إحدى السفن لدفنه. ثم بعد ذلك التفّ عَدَدٌ من الأطباء حول ناتالي ليحدّدوا سبب الوفاة، لكن الأمر العجيب هو ملاحظتهم بأن الجُرْح قد التأم. وأمّا السّبَب فهو أنّ مصطفى الذي كاد يصاب بالجنون في أثناء مُعالَجَتِه إيّاها جَعَلَ يلوّح بيديه الاثنتين في الهواء، فشاهده نسر على اثر ذلك ولاحظ الدّماء، ولاحظ أيضا الأمكنة التي كانت أصابع مصطفى تضغط على صدر الفتاة، ثم أخذ ينتزع الشّحم المترسّب حول شريان الفتاة الذي برز، الأمر الذي أعاد تدفق الدماء الى قلب ناتالي. فقد تبع النّسر يد مصطفى البارعة التي دلّته إلى حيث ينبغي أن يمتصّ الشّحم المُترسّب. وكانت ناتالي في لحظة استيقاظها من الغيبوبة تردّد اسم حبيبها دون انقطاع.

أمّا جسد مصطفى فقد وضِعَ في سفينةٍ لدَفنه في وطنه لبنان. أمّا القارب الصّغير الذي كان قد صنعه فقد استُخدِمَ كقاربِ نجاةٍ نظراً لِمتانةِ صنعه، فَرُبِطَ عندَ على متن السّفينة التي أقلّت مُصطفى.ترى هل سيردّ مصطفى على نداءِ نتالي وقد أصبح في العالم الآخر؟

لقد استغرق نقل جثمانه من السّجن الى السّفينة نصف ساعة.وقد وضع جُثمانه في أسفل السفينة. الا أنهُ بقي على قيد الحياة! وكان يأكل من المؤن التي تختزن في غرفة مجاورة. وقد استطاع التّسلّل ليلاً صاعداً إلى متن السّفينة، ثمّ قام بفكّ قارب النّجاة الصّغير الذي كان قد صنعه في المُعتقل، إذ كان القرار قد اتُخِذ بدفن مصطفى فيه. وهكذا دَفَعَت الرياح بالقارِب بعيداً عن السّفينة نحو وجهة غير معلومة وسط عاصفة شديدة. واقتادته الأمواج الى جزيرة ملأى بالأشجار الكثيفة المُثمِرَةِ والحشائش التي لم تطأها قدم. ومن الأشياء التي اكتشفها، نباتات ذات أوراق وثمار ذات ألوان فوسفوريّة مُشِعّة أضاءت له الطريق ليلاً، وقد بدت كأشجار عيد الميلاد المزيّنة بأجمل طريقة وإبداع.انها كالحَشرات المضيئة التي يستعين بها الفلاّحون ليلاً لإرشادِهِم عبر المَسالِكِ الوعِرة. لقد أمضى في تلك الليلة أوقاتاً صعْبة اذ كان يستيقظ من نومه من فترةٍ لأخرى على أصوات الحيوانات المفترسة التي كانت تُسْمَع باستمرار حول المَكان، وباتَ المُكوث هناك مُستحيلا، فأيقن بأن نهايته قد أصبحت وشيكة. وقد لاحظ بأن تلك النّباتات المشعّة كانت تُفرِزُ سائلاً ذو حَرارةٍ عالية، فجمع عدداً كبيراً منها وقام بتنظيف قاربه بهذا السائل، وما ذلك الاّ لكي يُبعِد انتباه الحيونات المفترسة عنه.إذ لاحظ أنّه عندَ الضّغط على هذه الأزهار، ينطفئ الضّوء المُنْبَعِث مِنها، مُخرِجاً سائلاً مائيّاً، مُتَغلغِلاً في خشَب القارِب. لكن أمراً عجيبا حدَثَ فجأة، إذ لاحظ بأن تفاعلاً كيميائياً بدأ يَحْدُث لدى تسرّب ذلك السّائل في الخشب الأمر الذي أنتج بخاراً كثيفاً وضغطاً عالياً حول المركب،ليرتفع القارب على اثر تلك القوّة الضّاغِطَة نحو الأعلى. وما أن ارتفع القارب الى مستوى رأسه حتى قفز فقزةً استعراضيّةً في الهواء مُدخِلاً نَفْسَهُ في غُرْفَةٍ المرْكب الصغيرة ذات النّافِذة الصّغيرة. وكم كانت سعادته لدى مشاهدته قفزات الحيوانات المُفتَرِسةِ التي كانت تحاول الوصول إليهِ أسفل القارِب لكن دون جدوى، اذ كان القارب آخذاً في الارتفاع بِشكلٍ عاموديّ رويداً رويداً بسبب تفاعل سائل تلك النّباتات إذ بدا كتفاعل نووي! وكم كان شعوره جميلاً لدى وصولِ السّفينة الى قِمّة مجموعة من الأشجار الشّاهقة، إذ شعر نفسه كأنّه في عشّ نسر أو طائر ينتقل من غصن الى غصن. وجعَلَ يقطَع بواسطة خنجره ما أمكَنَهُ مِن حِبال لِنباتات مُتَسَلّقة لاستِخدامِها عند الضّرورة. والجَدير ذكره هو المتانة العَجيبة لهذه الحِبال. وما أن مَضت ساعتان دون أن يَشعُر بهما حتّى شاهد أشجار هذه الغابة وقد بدَت كأرض من الحشائش تحيط بها الجبال بشكل دائري عجيب، كما استطاع أن يشاهد الأفق، وأيضا مجموعة من السفنِ التّجاريّة البعيدة جدّا عن الشّاطئ. وإذ كان خائفا من السّقوط، قام بربط نفسه بواسطة الحِبالٍ ،أما الجزء الأخر فربطه بصاري السفينة المتقن الأحكام. وبعد أربع ساعات أي عند ال"الثامنة صباحا" بدت له الأرض كَكُتلة أنوار لامعةٍ أي وتلاشي الظّلام. وقد ظهرت له مساحة كبيرة من جنوب قارّة أمريكا الشّماليّة حيث صحراء تِكساس. وها قد بدأت سرعة المركبة تزداد وتنساب مع الهواء شمالا حتّى بدأت الجبال الخضراء تظهر ليرى الوديان السّحيقة التي تملأها الأزهار، وتحوم حولها الطّيور ذات الألوان والأشكال المختلفة. شاهد أيضا جُسوراً غير مُكتشفة تتخلّل الجبال عبر كُهوفٍ ودَهاليز، ومتاهات، وكانت الجسور ذات تصميم هندَسيّ رائع .ثم بدأ يشعر بأنّ سرعة المركبة بدأت تزداد اذ راحت المركبة تتّجه نحو الشّرق ولم يجرؤ على وضع يده الى الخارج اذ أخرج خشبة غليظة كانت في داخل الغرفة فانشطرت الى قسمين كأنها قطعت بواسطة شفرة. وقد شاهد في تلك اللحظة نسراً يحلّق فوق الغيوم حيث كانت المركبة محلّقة. إلا أنّ النّسر بمهارته استطاع الدّخول الى السّفينة بعد سيره في طريق متعرّج صعودا وهُبوطا. وتناول الطّائر بعض الحُبوب النّباتيّة الموجودة بجوارِ مصطفى، لكن سرعان ما أخرجها كفضلات بسبب سرعة السٍّفينة التي لم يشهد الطّائر مثلها حتّى في مرحلة هبوطه. وشعر النّسر بجوع شديد كما شعر مصطفى بألم شديد في رأسه على اثر قِلّةِ الهواء. لكنّ بهجة عارمة استولت عليه ولاسيما عندما أدرك أنّ هذا النّسر هو نفسه الذي شاهدهُ في المُعْتَقَل، فقد لحق(النّسر) به علّه يُساعده، الأمر الذي أعطى مصطفى قوّةً معنويّةً للتّغلّب على آلامه. لكنّه لاحظ بأن النّسر أيضا سيموت. فقوّة الضّغط الجوّي ضغطت على جسد الطّائر حتّى بدا ككتلة معجونة.أمّا مصطفى فقد شعر براحة في الّنفّس وما أن نظر الى النّافذة حتى عرف السّبب.اذ بدا جسد الطّائر كحِجابٍ حاجزٍ مطّاطي ساعد على تنظيم الهواء في السّفينة وابقاء الضّغط فيها كي يعادل ضغط الانسان.اذ سدّ ذلك الطّائر الباب بجسده وبدا جسده أكبر من المعتاد وكان النّسر يسْحب الهواء بإخراج رأسِهِ إلى الخارج ثم إدْخالِهِ إلى الغُرفَة كي يتنفّس مصطفى، فالهواء يَدخُلْ تلقائياً في رِئةِ النّسر مالئاً الفراغ في رئتيه على هذا العلو. أمّا مصطفى فقد ساعد النّسر على البقاء على قيد الحياة بسبب سحبه للهواء داخل الغرفة وبالتّالي يتحرّك صدر النّسر دون عناء شهيقاً وزفيراً، وقد تشكّل على أثر ذلك جهاز تنفسي ّ طبيعي مشترك بين مصطفى والطّائر. وما إن نَظَرَ مصطفى الى أسفل حتى شاهد طبقةً كبيرةً من الغيوم كانت بعيدة جداً عنه، وهكذا أدرك أنه أصبح على ارتفاع شاهق. وسرعان ما شعر بالنعاس،ثم نام فعلا. لكنه استيقظ بعد ساعتين تقريبا ليشاهد سلسلة من الجبال الجليديّة ممتدّة عبر مسافات شاسعة، ثمّ شاهد من هذا الارتفاع دوّامات لغيوم هائلة ومرعبة كانت آخذةً في الارتفاع مشّكلة بؤر مائيّة وأمواج عاتية يعرف بأنّها ناتجة عن أعاصير. كانت الغيوم تلتف حول نفسها بشكل دائري وكان خَطر تَحُطّم السّفينة مُحتّماً. وقد ساعدت قوّة الهواء المتعارضة على الحفاظ على توازن السّفينة. وللحال جاء تيّاران متعارضان وبدَت تيّارات الهواء كأمواج بَحْرٍ عظيمة فتذكّر كيف على مرتادي الأمواج أن يغطسوا إلى عُمقِ الموجة ليتفادوا سقوط وزن الموجة الهائل فوق رؤوسهم. لكن كيف له أن ينفّذ هذه الفكرة وهو مقيّد داخل السّفيتة ليقيها شرّ التحطّم ولا سيما بأن السفينة بدأت تتأرجح كريشة في مهبّ الرّيح تارةً تخفّ سرعتها وطوراً تزداد وِفقا لِدَرَجَةِ اندفاع الرّياح. وقام بِرَبط أحد الحِبال النباتيّة المُتسلّقة التي كان قَد جمعها في الغابة، وربط أحد أطرافه بِصاري القارِب، أمّا الطّرَف الآخر فَرَبَطَهُ حول وَسطه. وحدث في تلك اللحظة أن أفلت الطائر عند اقتراب المركبة من الاعصاران، فما كان من مصطفى الا أن انطلق باتجاهه، وقد بدت المركبة كأنها جزءً منه،إلاّ أنّ رأس مصطفى كان قد اخترق قوّة الهواء المعاكسة(إذ كانت المركبة قد علِقَت بين تيّارين مُتَعارِضيْن،في نُقطةٍ يَخِفّ فيها الانجِذاب نحو أحد التيّارات)،الأمر الذي دَفَعَ بالسّفينة إلى عمق التيّار الرّهيب الذي تكوّن ليشاهد التيّاران اللّذان تبلغ سرعتهما المزدوجة أكثر من مِئة كيلومتر في السّاعة، لكن اختراقه السّريع، الجميل والفنّي جعله ينساب بسهولة ليُدرِكَ بعد دقائق بأنه قد نجا بأعجوبة كَنَجاةِ الغطّاسين تماماً من الأمواج القاتلة حين يغطسون عند مجيئها لتلافي ضربتها البالغة الثّقل. وهكذا نجا بالسّفينة والطائر من موت رهيب، إذ دَخلا السّفينة دون أن يدريا. وقد شاهد لحظة وقوع حادثة تلاحم الاعصاران، لكن في لحظة خروجه من الدوّامة لاحظ خطوطا هندسيّة جميلة على الأرض كانت لسورِ الصين العظيم، وذلك بعد غيبوبة صغيرة كانت قد حدثت له. لقد لاحظ بأن يداه مطبقتانِ على رِجليّ النّسر دون أن يدري. كانت السّاعة آنذاك الثانية عشرة ظُهراً. وفجأة شعر بقوّة ضغط شديدة كادت تعجن عظامه عجنا، إذ كانت المركبة قد وصلت إلى ارتفاع ثلاثين كيلومتراً. وقد مرّت الدّقائق في تلك اللحظة كأنّها دهورا، حتى أصبح مصطفى جمادا أي جسدا دون روح. أمّا السّبب في ذلك فهو كميّة الضّغط التي ضغطت عليه بقوّة وعلى أخشاب السفينة لتزداد سرعتها بالغة السّبعمِئة كيلومتراً في السّاعة. واستطاع مشاهدة مظلّة بخاريّة كانت آخذةً بالامتداد في جَميع الاتّجاهات، وكانت متّصلة بالمركبة وبه أيضاً (نتيجَةً للتّفاعُل الكيميائي الذي أحدثتهُ تلك النّباتات العجيبة) فقد أصبَح هيكل السّفينة نفسه آخِذاً بالتمدّد،لِتبدو بِدورِها(السّفينة) كبيرة الحجم. وقد سبّبت هذه المظلّة حالة كسوف في الأرض. أمّا تلك المظلّة فأجبرت السّفينة على الارتفاع بقوّة إلى عُلوّ مُحَدّد. وأمّنت الهواء والطّقس المناسب والحماية من أشعّة الشّمس الخطِرة. وفقد مصطفى في تلك اللحظة لأسبابٍ جسديّةٍ خاصّة القُدرة على التّركيز والتّنفّس إذ انتابَهُ دُوار لم يستَطِع تَحَمّلهُ. ثمّ بعد قليل شاهدَ نفسهُ يدخُل في ظلام دامس؛ فقد حَجَبَت تلك المظلّة الشّمس عن الأرض، ثم أدرك بأنّه يحلّق الآن فوق القارّة القطبيّة الشماليّة حيث تستمر مدّة اليوم هناك ستّة أشهر تقريبا. لكن ارتفاعه الشّديد عن الأرض لم يجعلاه يشاهد سوى قبّة السّماء السوداء مع النّجوم والمذنّبات على الرّغم من إشراق الشّمس.أمّا تلك الطّبَقة الجديدة المتكوّنة فكانت تخيّم فوق جزء كبير من اليابان حيث شاهد جُزُرُها الجميلة المضيئة. أمّا مصطفى فقد أصبح بين حالتي الوعي والاّوعي وحاول استجماع أفكاره لكن دون جدوى. وتقيّأ كثيراً شاعرا بأنّ روحه بدأت تزهق. وقد حدَث أن بعضاً من ريش الطّائر كان قد اقتُلِعَ من جسد النّسر ودَخَلَ كالرّصاص في خشب السّفينة وفي جَسَدِه وكان له تأثير سام على تفكيره وعلى حالته العصبيّة. الأمر الذي أدّى الى خَلَلٍ في جهازه العَصبي، لتسبق الصورة التي يراها الفكرة التي تدفعه لعمل شيء! أي عِوَضَ أن يقوم بأمر نتيجة فكرةٍ ما، أصبح يرى الشّيء الذي يودّ القيام به ثمّ يفكّر لماذا فعله. لقد شعر بأنه داخل قصر امبراطوريّ كبير. لكنّ تلك المادة لَم تكُن (البَتّة) مِن نارٍ أو ضوءٍ عاديّ.أجل لقد كانت تلك الطّبقة الجويّة بِمثابة غلافٍ جَوّيّ عاكسٍ للنّور لشدّة نقائه ليُحتجَز النّور بِداخله وبالتّالي يُحْتَجَز ومركبته التي بدا حجمها كأنه آخِذٌ بالامتِداد. وقد بدا هذا الغلاف كعدسة مقعّرة لتبدو الأشياء البالغة البعد قريبة جدا. ولا يُمكِن لأيّ شيء اختراقَهُ مهما كان مُتناهياً في الصّغَر، إلاّ بِمُعجِزة روحيّة. ثم بدأت تظهر أمواج في ذلك الغلاف الجوي الذي بدا كماءِ نهر صافٍ كالبلّور لتتحرّك وتتمايل الأمواج وفقا لأيّ حركةٍ تنتج داخل هذا الغلاف وبالتّالي وفقا لحركة السّفينة وما فيها. كانت التركيبة الكيميائيّة لتلك النباتات عَجيبة، فقد أدّت إلى تَفاعُلٍ غريب، الأمر الذي أدّى إلى حدوث ذبذبات لدى تَحَرّكه. أمّا شكل الغلاف فكان بيضاويّاً محيطاً بالمركبة؛ أي أن قطبيه العلويّ والسّفليّ كانا شِبه مسطّحين، أما مساحتهُما فكانت حوالي مئة وخمسين كيلومتر عامودياً، ومئتيّ كيلومتر أفقيّ .أمّا الجزء السّفليّ فقد لامس سطح البحر مُمتدّاً إلى مسافة كبيرة. وقد شاهد بيوتا ثلجيّة شبيهة ببيوت الأسكيمو مَحفورة في التّلال لتبدو مُجتمِعةً كقصر ثلجيّ رائع، كما شاهد تماثيل ثلجيّة منحوتة لآلهة إغريقيّة. وفجأة بدأ البخار يتكثّف متحوّلا للون أسود فاحِم،مشكّلة شبكة ساحبة للهواء هي كناية عن امتدادٍ لقوّة الهواء النّاتِج عن تَحَلّلِ السّفينة. الواقع بين أمريكا واليابان. وللحال توقّفت السّفينة تدريجيّا بسبب تلك الأعمدة التي عملت كمَكابِح، ليَشعُر بأنّه داخل كهف حجري مظلم. وساد صمت وسكون كبيرين. كانت الأعمدة مُنسابة بشكل مقوّس على الغلاف البيضاويّ، لتجتمع في منطقة واحدة بين أمريكا والصين. وشعر مصطفى بأنّه محجوز داخل حُجْرَة أو خليّة من الطّاقة. وشعر بأن الرّؤيا قد أصبحت أفقيّة أي أن المناظر التي على الأرض صارَت تُرى أمامه وليس أسفله، على الرّغم من ارتفاع المركبة الشّديد عن الأرض. وشاهد نفقا طويلا بدا كالدّهليز، وعند حافّته شاهد أناسا (اذ كما ذكرت سابقا فقد ساعد الغلاف الجوي الأشياء البعيدة تبدو كأنّها قريبة). وكان هؤلاء النّاس واقفين عند مُنحدرٍ جَبليّ عالٍ يقرعون طبولاً ظانّين بأنّ تنّينا، بحسب معتقدهم، كان يحجُب الشّمس بأجنحته، إذ بدا المشهد في السّماء مع تكاثف الغيوم كتنّين حقيقي، وبدت الأعمدة الدّخانيّة كأذرع ذات مخالب لذلك التنين.أمّا السّبب في ذلك فهو بروز جسم المركبة المُشعّ بسبب تلك المادة الأثيرية،فقد بَدَت المركبة كتنّين. وهكذا ظنّ أولئك النّاس بأنّ التنّين سيسقط إذا قَرَعوا الطّبول. أمّا السّفينة المتوقّفة الآن في أعالي هذا النّفق الشّبيه بالمُنحَدَرِ الصّخري فقد أصبحت على علوّ مئة وخمسين كيلومتر عن سطح البحر. وقد بدَت المَركبة كحَجَرِ المقلاع المثبّت ليدور حول مركز الأرض. وشعر مصطفى بأنّ طبقة الغلاف تلك قد ارتطمت بشيء ضخم في البحر، كشبكة اصطادت شيئا ما، وللحال ظهر مخلوق ضخم من البحر. وقد أدّى تكثّف البخار الذي بدا كالمادّة الصّلبة الى توقّف السّفينة لأن حبالها قد علِقَت بذلك المخلوق أو الوحش، لتتحوّل الطّاقة المختزنة داخل الغلاف الجوي أي المركبة وما فيها ،من طاقة حركيّة الى طاقة كامنة إذ توقّفت عن الارتِفاع، هذا يعني أنّها بعد تحرّكها إمّا أن تنطلق بسرعة النّور نحو الفضاء في رحلة أبديّةٍ أو ترتطم في الأرض في أقلّ من ثانية شرّ ارتطام، فأي حركة صغيرةٍ ستُحَدّد مَصير مصطفى لأنّها ستدفع بالسّفينة بسرعة وقوّة فائقتين نحو المجهول؛ وكان عليه أن يبقى دون حراك لكي لا تنطلِق السّفينة في أيّ اتّجاه. بالنّسبة للسّفينة، لقد رَسَت في منتصف ذلك الغلاف مشكّلة شبكة من الغاز . لكن ذلك الغلاف كان آخِذاً بالتكَثّف لِدَرَجَة أنّه أصبَحَت (بين) الحالتين الصّلبة والسّائلة. وبَقِيَت الحَرَكة مُقتَصِرة على مُصطفى الذي باستِطاعَتِه التّحَكّم بِمسارِها لأنّها تحوي على قوّة مُختَزَنة هائلة؛ أي أن مكانه في المركبة كان الموجّه الوحيد للمركبة، فهو في مركز قوة توازُن السّفينة.

وبدت الثواني بالنسبة له كأنّها قرون. لكنّه كان يصلّي، اذ أن مصير المركبة متعلّق به وحده . ثم بدأت جنبات ذلك الدّهليز تتّخذ لوناً قُرْمُزيّا كالدّم. وفجأة رأى سِرباً من الطّيور كانت ذوات ألوان فضيّة وذهبيّة وزرقاء تحلّق بشكل دائري حول الوحش، إذ عَلِقَت في دَوّامة التيّار الهوائيّ الخاص بالمَركَبة. وشَعَرَ بأنّه مقيّد تماماً داخل سجنِ هذا الغلاف الجوّي، وبالطّبع لم يجرؤ على التّحرّك، إذاً ما العمل؟ ورَسَم بإصبَعِه نجمَةً خُماسيّة متّصلة الأضلاع، فإذا بنفَقٍ يظهَر مُختَرِقاً تلك الطّبقة الهُلاميّة. وكان ذا فتحتين عند طرَفيه. الأولى تنتهي عندَ المَركَبة والأخرى بين فكيّ التنّين. وحدث في تلك اللحظة أن شعر بفقدان وعي مؤقّت، وجعل يتخيّل بأنّه يحرّك جسده، وحدثت المفاجأة، إذ تحرّكت ذبذبات الغلاف الجوّي قاسمةً سِرْب الطّيور الذي كان يحلّق بشكل دائري حول الوحش الى مجموعتين. حقّا لقد بدا (كأنّه) يحرّك جسده فعلاً. وتخيّل بأنّه يمسك ريشة ذلك النّسر الذي كان يقف بالرّوح على كتفه، وتخيل أنّه يرسم بإصبَعه صورة نسر، وفيما كان يرسمه، شعر بأنّ (نفْسهُ) قد تقمّصت فعليّا هيئة ذلك الطّائر الذي كان يرسمه، وبأنّه ينخرط مع ذلك السّرب مُختَرِقاً ذلك النّفق الي حَدَث،ليجتمع ذلك السّرب متّحدا بقيادة النّسر الرّئيس الذي هو مُصطفى. وما أن شاهد التنين ذلك السّرب الذي ظنّه تنيناً حتى اقترب منه، لكن السّرب أخذ يدور ويلتف فوق رأس الوحش بسرعة وقوّة رهيبتين متحديّا التنين، إلاّ أنّ التنين راح يتّجه نحو مركز الدّائرة التي كانت تلتفّ حوله بانتظام كي تجعله يشعر بالدّوار وما أن اجتمعت الطيور لتفقأ عينيّ التنين حتّى وثب وثبة خاطفة مبتلعا السّرب.حقّا كان صراعاً رهيباً. لقد أطلق التنين غازاً سامّاً كاد يشلّ النّسر القائد، لكن النّسر استطاع أن يشُقّ طريقَهُ نحو المركبة، مُتَمَلّصاً مِن براثِن التنين،عائداً إلى حجرَته في المركَبة. إذ لم يستطِع إيجاد أي منفَذ ثالِث بِسَبب تلك الطّبَقة. وفقد مصطفى القدرة على التركيز والتّفكير، كأن طاقتا التّركيز والتفكير لديه قد انقطعتا في هذه اللحظة بِسَبب الانهاك والجّهد. وكانت السّفينة تارَةً تختفي جُزئيّاً وطوراً تظهر للعيان بسبب تفاعُل عناصرِها. وألقى مُصطفى في تِلك اللحظة نظرةً أخرى إلى العالَم ليُشاهِدَ قارّتا أمريكا وآسيا، وقد بدا الأفُق أمامه كالسّيف، وللحال شاهد مصطفى فم التنين وقد تحوّل الى لون ذهبي، وبدا كسيفٍ حاد، وبعد لحظات راح لون فمه يتحوّل لعدّة ألوان، ثما بدا رأسه على هيئة رجل محارب جبّار وكانت جنبات الكهف الحَجَريّ تزداد احمراراً. أمّا الوحش فأراد تخليص نفسه بالغوْصِ وبالتّالي جذب السّفينة العالق بها، حتّى لو كلّفه ذلك حياته. أمّا العجيب في الأمر، هو أنّ نور ذلك السّيف المُشع الذي بَدّد الظلام مخترقا إيّاه. وفجأة سمع مصطفى صوتاً صارخا يناديه قائلا:سدّد نحوَ عين الوحش. فاستيقظ فجأة مُدركاً أنه كان في حلم، ترى هل انطلقت نفْسَه، لا إراديّاً، أثناء نومه،آخذة هيئة النّسر ومحاربة إيّاه؟! .وتذكّر بأنّ المركبة قد (بدت) كشعلة شبه ضوئيّة كأنّها من نار (بالنّسبة للعين البشريّة)، وقد بدا الحبل الذي كان مصطفى يمسكه كأنه وتر لجذب القوس الخشبي الذي يستعمله المحاربون. وهكذا اندمجت المركبة أخيراً بذبذباتِ النّور بشكل كُليّ بما فيه جسد مصطفى. أمّا هو فكان تلك الطّلقة عينها مقيّدا بالقوس الذي هو المركبة. وقد بدا مصطفى كتمثال مصارع جبّار يريد الفتك بوحش عظيم قد عاث بالأرض فسادا. ما أن وجّه السّفينة نحو عين التنين بصعوبة كبيرة بعد الحساب المضني الشّديد. حتى انطلقت السّفينة بسرعة النّور مجدّدا كسَهْمٍ ناري بِسَبب القوّة المختَزَنة فيها عبر الأجواء لتخترق قلب التنين مُحرِقةً التنين. وأخذت سرعة المركبة تنخفض محلّقة بشكل موازٍ للأرض بعد ارتطام المركبة الضّوئيّة بالسّيف أي الأفُق الذي بدا لمصطفى كأنّه أنياب التنين. تُرى ما هو سر جميع تلك الرّؤى؟ وهكذا بدأ ذلك الغِلاف الجوي يتقلّص ويذوب، وما ذلك إلاّ بِسَبَبِ انخفاض قوّة التّفاعُل الكيميائي وبالتّالي برودة أجزاء المركبة. وعادَت المَركَبة إلى هيئتِها الماديّة الطبيعيّة لأن الطاقة الُمُختَزَنة الناتِجة عن تلك المواد العُشبيّة فيها حالت دون تفَتّت المَركبة،فعادَت إلى حالتها السّابِقة،إذ انتَصَرَت تِلك التّركيبة العُشبيّة في النّهاية على الرّغم مِن احتراق العناصر؛ إذ هُناك طاقة خَفيّة أعادَتها في النّهاية. (فالأمر يُشبِه الحديد المُحَمّى ، فبعد ذوبانِه يعود إلى حالتِه الأصليّة الصّلبة)، وهذه هي حال هذه المادّة العجيبة. وعادت إلى مصطفى هيئته البشريّة. كان الرّجال الذين كانوا يدقّون على الطّبول يهتفون بسبب سقوط الوحش، فقد تحرّر البلد من سلطان ذلك الوحش، لكن الكثيرين من شهود العيان قالوا بأنّ الغيمة الّتي في السّماء بدت كتنّين، وقد بدا مصطفى كأنّه كان داخلا في جيب تنّين، إذ كان الغلاف البيضاويّ الَضاغط الى أعلى والسّاحب الهواء بِمثابةِ مَخالب. كان أوّل شيئ رآهُ بعد انتصارهِ هو الأفق الذي بدا كالسّيف، لكن، ولعينِ الدّهشة شاهد طيوراً مُطابقةً في شكلها للتي كان قد رآها من فوق، فقد خرجت إذاً مِن جوفِ التنين. وقد شاهد مع اندفاع المركبة جميع نفوس الذين قتلوا بسبب ذلك الاعصار القاتل الذي حطّم منازل كثيرة، ثم شاهد عند توجّه السّفينة بحراً مِن الأمواج العالية والدوّارات المائيّة. وفقد وعيه للحظات ليستفيق عند شاطئ بحريّ كانت الأمواج قد قذفت السّفينة اليه، لأن السّفينة كانت قد سقطت في البحر. لقد وصل إلى الجزيرة التي كان أسيراً فيها. وقد لاحظ بادئ الأمر بأنّ حجم السّفينة قد ازداد أضعافا مضاعفة! لقد استقرّت السّفينة تحت كهف حجري. أمّا سر عدم اكتشاف الحرّاس لمكان وجودها فهو بسبب الظّلال الآتية من جدران الكهف التي تبدو كأعمدة سوداء تجتمع في نقطة واحدة؛ أي بين سقف الكهف وأرضه لتبدو كبؤبؤ العين، ويقال بأن هذا الكهف كان في الأزمنة الغابرة مَعْبَداً للنسّاك. ثم تذكّر أنّ هذه الأرض هي تحت حراسةٍ مشدّدة؛ فالحرّاس يملأون كل بقعة فيها.أي من تحت الأرض ومن فوقها. الاّ أن ذلك المكان الذي كان متواجدا فيه لم يستطع أحد اكتشافه. ثمّ تذكّر صديقته ناتالي. لقد استطاع أيضاً مشاهدة صديقته بينما كانت تتأمّل النّجوم، وقد كان يعلم بأنّها تفكّر فيه. وللحال أخذ يلوّح لها بيده بعد أن صعد فوق ذلك الكهف البالغ الارتفاع. ولحُسن الحظ لاحظَتْهُ، ثمّ اتّجهت برفقة أصدقائها نحوه، وكان هاتف داخلي في قلبها يشعرها بأنه حبيبها. لكن الجنود الأشرار كانوا قد بدأوا بالرّكض خلفهم صاعدين التلّة التي باتّجاه الكهف. لقد برزت أعمدة السّفينة مخترقة الأرض الى عمق معيّن لتبرز فوق الأرض مجدّدا بهيكلها الخشبي اذ كان آخذاً بالتمدّد بفعل الطّاقة الكامنة التي كانت لا تزال تتبدّد شيئا فشيئا، فارتطم الحرّاس بهيكلها وغرقوا في أحراج النباتات الشّائكة. أمّا الغريب في الأمر فهو أن الحرّاس الذين كانوا خلفهم وبعد تطويق المنطقة من جميع الاتّجاهات، لم يستطيعوا إصابة أصدقاء مصطفى الكثيرين بواسطة بَنادقهم المُتطوّرة الصّنْع لأن مصطفى وأصدقاءه كانوا واقفين على أطراف حدود ذلك الكهف العجيب، أي على خطوط هندسيّة شبيهة بالمكعّب، وبالتّالي كانوا يظهرون بصورة معيّنة من ناحية معيّنة، ثمّ يظهرون واقفين في مكان آخر مِن ناحية أخرى وما تلك الاّ خدع بصريّة، فيبدو الواقفون حول الكهف في أثناء تغيّر مواقعهم الوهمية كانّهم أمواج بحر تظهر تارة لتختفي طوراً آخر، لتبدو الظلال أيضاً كأنّها تجذبهم، فكأنّ رؤيا مصطفى قد أخذت طابعا جديدا! وقد بدت السّفينة كقصر صخريّ عظيم وبديع. أمّا الفتاة وأصدقاؤها فقد شاهدوا مشهداً مدهشاً، إذ رأوا شيئا محفورا في الثّلج، اذ شاهدوا مصطفى مَدْفوناً في الثّلج،كأنّه في تابوت ثلجي، وكان مُكلّلاً بأزهار نادرة. وفيما كان الجميع يهمّون بالمغادرة نظراً لِرَداءةِ الطّقس، أصرّت ناتالي على البَقاء والموت مع حبيبها الذي أنقذها مع رفاقها بذكائه المدهش، بالرّغم من الحاح أصدقائها عليها بمغادرة المكان، وهكذا تركوها اذ وعدتهم بأنّها ستلحق بهم لاحقاً. لكن، ما أن ابتعدوا عنها حتّى ألقت بنفسها على التّابوت الثّلجي، وقد دُفِنَتْ فيه بسبب الحرارة المنبعثة من جسدها الذي اخترق الثلج لتضمّ حبيبها،اذ شاهدته لابساً ثياباً تشبه ريش الطيور ذات الألوان المتعدّدة. أجل لقد قطع حبيبها مسافة طويلة حول الأرض في أربعة وعشرين ساعة فقط. وقد علّق طوق الأزهار في عنق سوسن ليتوّجا كملك وملكة على هذه السّفينة. وظهر فجأة تمثال فوق السّفينة بمعجزة روحيّة يمثّل تمثالا ثلجيّا لكيوبيد يلقي سهمه على أبوليون ملاك الهاوية. إنه ذلك التنين الذي رسمه مصطفى في أثناء تواجده في الجوّ، وها قد خُلّدَتْ ذِكرى هذه المعركة الرّهيبة.

                                          في: 28-2-2007

نابيه-المتن الشّمالي، لُبنان

 

*ملاحظة هامّة: إن الأحداث الواردة في هذه القصّة هي من محض الخيال ولا تمُتّ للحقيقة بصلة

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.