كلمة أول حزيـران
للعام 1998
بقلم علي محمد يونس
أيْها الإخوة والأخوات الأحبّاء....
نحتفل اليوم بمرور تسعة وثمانين عاماً على ميلاد الهادي الحبيب داهش: رجل الروح الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وحيّر العقول والألباب، فوقفت دونه عاجزة صاغرة قاصرة ... وبقي علامة استفهام كبيرة في أذهان الكثيرين.
لقد كانت حياته سجلاً حافلاً بالبطولات، غنياً بالمآثر والثمرات، ملأها عملاً متواصلاً، وجهوداً متكاثفة، حتى تسنّم في نهايتها ذروة المجد، واستحقّ إكليل الغار، وتمكّن بفضل رقيّ درجته العلوّية، من أن يصير محلاً للحوادث الروحيّة، ومنبعاً للظاهرات الإعجازيّة. فأسّس، على ضوء ذلك، عقيدة سامية تُعَدّ بحق فلسفة الأجيال المقبلة، والتعبير الحضاري المتميّز، إذ تقوم على الإيمان بوحدة الدين والعلم في حقائقهما النهائيّة، والوحدة الجوهريّة للوجود بمظهريه المادّي والروحي.
وقد دعا الدكتور داهش إلى التحلّي بالأخلاق الحميدة، والمناقب الرفيعة، وإلى تمثّل الفضائل النفسيّة التي تحرّر الإنسان، وتسمو به إلى ما وراء حدود الكشف والعيان، فلا يبقى عبداً ذليلاً صاغراً أمام سدنة شهواته، بل يصير سيّداً لنفسه وإنساناً بكلّ ما في الكلمة من معان، حيث تنكشف له أنوار السماء الباهرة، وتتجلّى أمام عينيه الحقائق الروحيّة الصاهرة، فيرى طريق الحق واليقين، ونور العرفان.
كما سبّح خالقه العظيم، على آياتـه المبدعة، فناجاه في العشيّة والأسحار، منحنياً أمام سدّته الإلهيّة، ضارعاً إليه بخشوع تام ورهبـة كلّية، أن يمنحه الهدوء والأمان، ويهبه العفو والغفران، طالباً إليه أن يشمله بمراحمه الواسعة مدى الآباد والأدهار ...
فأيّده تعالى بروح من لدنـه، وبثّ في نفسه السكينة والإستقرار، وثبتّ قلبه بالإيمان، وعزّزه بالحجّة والبرهان، ليتحرّر من قيود الأرض وكبول الأدران، ويستعدّ لمواجهة الطوارىء، ومقارعة الحدثان، ويهنأ بذاك العطاء وذيّاك الإحسان. فانطلق لأداء رسالته الروحية الملهمة من لدن الديّان، كأحسن ما يكون الأداء، مؤزراً بالأنصار والأعوان، مستمعاً لنداء المحبّة والرجاء، داعياً إلى الوحدة والإخاء، خارجاً في قومه يطلب العدل والإنصاف، والقضاء على أسباب الفرقة والإختلاف، ساعياً لتغيير الأوضاع الإجتماعيّة السائدة الفاسدة، وإزالة المظالم النكراء، فأبت عليه ذلك زمرة الأدنياء.
فثار على الظلم والطغيان، وأشفق لمعاثر الأوطان، يخطّ مصائرها الحمقى والأغبياء والعميان، وأنكر شرور بني الإنسان، فتألّب عليه الأعداء، ورموه بكلّ فريّة وادّعاء، وعصفت به الخطوب والأرزاء، فجحدوا حقّه في الحريّة والحياة والإفصاح عن الآراء، لكنّه أبي الخضوع، ورفض المذلّة والخنوع، وآمن بأنّ الحرية حقّ مقدّس تُهرق دونه الدماء والدموع، فهي هبة الخالق للخلائق من شتّى الفرق ومختلف الجموع، وليس يحقّ لأحد أن ينتزعها منهم كائناً من كان، ولو من أهل المال والسلطان. فشهر لذلك سيف الإصلاح، ودافع عن نفسه، وعن حقّه الهضيم، دفاع الرآبلة الأبطال، فصبر وتجلّد حتى قُيّد له النصر والظفر، وباء أعداؤه بالخسارة والخذلان، وكتبت عليهم الذلّة والهوان، فاستعاد حقّه السليب الغصيب من أهل الحكم، وسائر من لهم من أعوان، أولئك الذين يطبقّون القوانين على الضعفاء دون الأقوياء، حتى رأى في عدالة العالم الفاني رابع المستحيل ونسج الهبـاء، حيث يقول:
" عالمنا تعمّه الشرور، وليله أبديّ اليدجور، وستبقى العدالة فيه موءودة حتى يوم النشور ".
مقارباً بذلك جبران خليل جبران في مواكبه حيث يقول:
" والعدل في الأرض يُبكي الجنَّ لو سمعوا به
ويستضحك الأموات لو نظروا "
أو:
" إنّ عدل الناس ثلج إن رأته الشمس ذاب "
وهكذا انتصر الهادي الحبيب على أعدائه المغرضين، بعد أن حاولوا تشويه سمعته، ومناوأته، واضطهاد مؤيّديه، وتلطيخ دعوته بأقبح النعوت والصفات، فبان وجه الحقّ ناصعاً، سافراً كوجه الصبح في الليالي المقمرات.
فشدا الحبيب، ورنّم على القيثار – يا لرنّة ذلك القيثار – موقعاً لحن الهوى، مردّداً حديث الأسمار، مسامراً نجوم الليل وبنات الطبيعة الأبكار، هاتفاً لنيّرات الكواكب تسحره بألقها الجبّار .... وأنشأ المتحف الداهشيّ وهو على أحرّ من الجمر أو النار، وغنّى للمعابد الروحيّة الداهشيّة تُشاد على إسم الباري ذي الجلال، ليُذكر فيها آناء الليل وأطراف النهار.
لقد مرّ في عالمنا للحظات، فكان كالرعد الداوي، وكالبرق الخاطف الذي ومض ومضى، وكان كالطائر الذي غرّد خارج سربه، يُنشد ويُردّد ألحان الخالدين، فلا يلقى أذناً صاغية من المستمعين. أمّا آراء أعدائه فيه فقد كانت تقوم على الظنّ والتخمين، ولا تستند إلى ظلٍّ من الحقيقة والواقع أو اليقين.
حقاً، لقد كان بيننا غريباً، وعاش في عالمنا وحيداً، فريداً، طريداً، حيث يقول:
" وحيداً أتيت عالم أحزاني،
ووحيداً سأغادره كما أتيته ".
إنه الدكتور داهش، وكفى!
المراجـع والمصادر:
[1] - إيليا حجّار: قائمة بالكتب السوداء التي نشرت في عهد الشيخ بشارة الخوري (ملحقة بكتاب "حدائق الآلهة وفراديس الإلهات " للدكتور غازي براكس – ص 137) دار النسر المحلق – بيروت 1981.
[2] - الدكتور داهش: كلمات الدكتور داهش – طبعة ثانية ص 90 دار النار والنور – بيروت 1983.
[3] - نفس المصدر السابق ص 91.
[4] - نفس المصدر السابق ص 100-101.
[5] - من العبارات التي كثيراً ما كان يردّدها الدكتور داهش أمام زائريه.
[6] - كلمات الدكتور داهش – ط 2 – ص 82.
[7] - الدكتور داهش: الرحلات الداهشيّة حول الكرة الأرضية (20 جزءاً) مقدّمة الرحلة الثانية ص 6-7 دار النار والنور – بيروت 1983.
[8] - القرآن الكريم: سورة الأحزاب – الآيات : 45 – 46.
[9] - جرجي زيدان: بناة النهضة العربية ص 202 – دار الكاتب العربي عام 1982.
[10] - الدكتور عمر فرّوخ: الشابي شاعر الحبّ والحياة – ص 305 – 306 – ط 4 - دار العلم للملايين – بيروت 1987.
[11] - أبو القاسم الشابي: الديوان – المجلد الأوّل – ص 462 - ط 1 - دار الجيل – بيروت 1997 – تحقيق الدكتور إميل كبا.
[12] - حليم دمّوس: المعجزات والخوارق الداهشية المذهلة - ص 43 - دار النار والنور – بيروت 1983.