رسالة الدكتور داهش الثانية الى الأديب الكبير
حسين هيكل باشا
ردّا على رسالته المؤرّخة في 9 آب ( أغسطس ) 1951
حلب في 15 آب 1951
أخي الكريم الدكتور حسين هيكل باشا حفظه الله وأبقاه .
هي ساعة سعيدة عندما قدم الشاعر العزيز الأخ الداهشيّ المجاهد حليم دمّوس ، وسلّمني رسالتك التي كانت مفاجأة سارّة لي .
ولقد طالعتها بشغف عجيب وأنا في وحدتي التي تحمّلتها سبع سنوات ونيّفا بعد ذلك الظلم الرهيب الذي أصابني ، والذي تحدّث به الركبان .
أما المسبّب للتجريد من الجنسيّة فهو ما ذكرته أنت في رسالتك .
وقد شاركه في ذلك ثلاثة أشخاص من أفراد عائلته وأقربائه .
وقد ظنّوا أنهم قد بلغوا الغاية بعد فعلتهم الرهيبة والتي هي وصمة هائلة سيسجّلها التاريخ بين دفّتيه بقلمه المرعب الذي لا يراعي فيه الاّ الحقّ . ولكنّ ظنونهم خابت ، وآمالهم تبدّدت ، وأحلامهم الجميلة سرعان ما تبخّرت . اذ كانت النتيجة مخيفة جدّا . كيف لا وقد صمّمت يومذاك ، ماجدا حدّاد أن تغتال المجرم . وعندما عرفت بعزمها وتصميمها التامّين أرسلت آمرها بأن لا ترتكب جريمة القتل ... فأسقط الأمر في يدها وانتحرت . وكان انتحارها كاحتجاج صارخ على تجريدي من جنسيّتي . وذنبي الوحيد هو أنني جعلت من لهم صلة بي من اخوان وأخوات أن يؤمنوا بنبوءة محمّد , وبأن قرآنه الكريم منزل .
وكان على رأس من أمنوا بهذا القول الحقّ السيدة ماري حدّاد الداهشيّة وقرينها وكريماتها الثلاث .
والسيّدة ماري حدّاد هي شقيقة ( لور ) عقيلة رئيس الجمهوريّة . والمنتحرة احتجاجا على التجريد هي كبرى كريمات السيّدة ماري حدّاد المجاهدة الجبّارة .
ومنذ انتحرت الشهيدة ( ماجدا ) برزت الفاجعة المؤسية ، وظهرت أولى نتائج التجريد ، بسبب عقيدة الداهشيين الذين هم أحرار باعتناق ما يشاؤون ما دام الدستور يحمي عقائد المواطنين ، ويردّ ببنوده عنهم كيد الكائدين ....
وتبعت فاجعة الانتحار سلسلة كتب سوداء أصدرتها السيّدة ماري حدّاد اذ شرحت فيها أسرار تجريدي من جنسيّتي والأسباب الحقيقيّة التي أدّت الى هذا التجريد والتشريد القسريّين .
أي أخي الكريم ،
أمّا قولك انّك مستعدّ لأن تتكلّم مع المسؤول الأساسيّ عن وجوب ارجاع جنسيّتي السليبة إلي ، فانني أشكرك على اهتمامك بهذا . ولكنّني أجيب أخي حسين هيكل قائلا :
" انّ الحقّ يؤخذ بالقسر والاغتصاب ولا يستجدى استجداء " .
والأيّام كفيلة باظهار حقيقة هذا القول . انني صاحب حقّ ، وحقّي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . والحقّ يعلو ولا يعلى عليه .
لهذا فانني أرجو من الأخ الكريم أن لا يكلّف نفسه مؤونة التحدّث مع المسؤول الأوّل عن التجريد . وسيأتي اليوم الذي يدفع كلّ من ظلم وتجاوز الحقّ حسابا عمّا ارتكبه وجاءه من حسنات وسيّئات . وسيكون الجزاء من نوع العمل .
فالجبان ، والعديم الشرف ، والساقط النفس هو من لا يحاسب الطغاة حينما تدقّ ساعة الحساب .
والتاريخ يعلّمنا أنه ما من ظالم غاشم الاّ ولاقى شرّ الجزاء الرهيب .
وسيجرّع المظلوم ظالمه كأس الذلّ والمهانة حتى الثمالة ....وأنا لا أشكّ بأنّ ساعة الحساب ستدقّ أعاجلا كان هذا أم آجلا . وعند ذاك سأدقّ أعناق أعدائي دقّا مزلزلا . ويومذاك ستجلجل نواقيس الهلع ، وسيعمّ الرعب والجزع في أفئدة كلّ من اعتدى على حقّي المقدّس الذي وهبني ايّاه الله كحقّ طبيعيّ أنعم به مثلما ينعم به كلّ مخلوق من مخلوقات الباري جلّت قدرته .
ورحم الله الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي راحت كلمته قولا مأثورا اذ قال :" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا ؟!"
أخي الدكتور المنافح عن الحقّ الهضيم .
بعدما طالعت رسالتك الكريمة تمثّلت للحال الكلمة البليغة القائلة :
" أحبّ الجهاد الى الله كلمة حقّ مدوّية تقال بوجه حاكم ظالم فتدكّ كبرياءه ، وتحطّم صلفه ، وتصفع خيلاءه ، فتظهره قزما حقيرا وامّعة مرذولا" .
نعم يا أخي ،
انني أشبّه الحقّ بقطعة من الفلّين الذي لا ولن يمكن أن تغرقها هوج الأمواج الغضوب مهما زمجرت الرياح العاصفة ، ومهما ثارت الأمواج العنيفة الهادرة بجبروت .
نعم ، مهما تألّبت عليها العواصف الغضوب فانها تبقى طافية على وجه المياه المزبدة ...
أعود فأقول : لقد تبخّرت آمال من جرّدوني من جنسيّتي ... اذ ظنّوا أنّه بعد ابعادي ستترك ماري حدّاد وعائلتها عقيدتهم الداهشيّة . وقد خابت آمالهم اذ ازدادت العقيدة تغلغلا في أعماق أعماقهم . وصقلت سلسلة الاضطهادات أرواحهم فازدادت رسوخا . وبوتقت نيران المظالم نفوسهم فطهّرتها بلهيبها المقدّس فازدادت شعلتها تألّقا . وتأصّل الايمان في كيانهم فزادوه تشبّثا . وهكذا باء خصومي بالخسران المبين .
وقبل أن أختم تحريري اليك أضع بين يديك كلمة صغيرة واختصرتها من الفصل الثاني من كتاب " الحريّة " لمؤلّفه ( جون ستيوارت ميل ) ، ترجمه طه باشا السباعي ، وذلك لكي تعلم – وأنت تتأكّد هذا دون ريب – كيف ينظر الأجانب الى الحريّة ، وكيف يقدّسونها بعد الله .
جاء في الصفحة 36 تحت عنوان " في حريّة الفكر والمناقشة " :
"لا يجوز البتّة لأيّة حكومة من الحكومات أن تعتدي على أيّ فرد من أفراد الشعب لأجل تعاليمه ومبادئه وعقائده سواء في ذلك أشرف الحكومات وأرفعها ، وأخسّها وأوضعها . وهي اذا صدرت بمشيئة الشعب وموافقته كانت أفظع وأشنع ممّا لو صدرت برغمه ومعارضته . فلو أنّ الناس قاطبة أجمعوا على رأي واحد ، وخالفهم في ذلك فرد فذّ ، لما كان لهم من الحقّ في اخراسه أكثر ممّا له في اخراسهم لو استطاع الى ذلك سبيلا ، اذ لا يقدح في أهميّة الرأي قلّة المنتصرين له ، وكثرة الزارين عليه .
ولو كان الرأي متاعا خاصّا لا قيمة له الاّ عند صاحبه وكان الضرر المترتّب على الحرمان من التمتّع به لا يتناول غير مالكه لكان في المسألة مجال للتمييز ومتّسع للتفريق ، ولكان هناك بون شاسع بين وقوع الضرر على فئة قليلة ووقوعه على فريق عظيم . ولكنّ الأمر بخلاف ذلك ، فان المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته ، وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيّديه وقابليه . ذلك أنّ الرأي ان كان صوابا فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ، ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة ، وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ ، والرسوخ في العلم ، على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومقارنة الخطأ بالصواب " الخ ...
أمّا قصّة الفيلسوف ( سقراط ) والحكم الظالم الذي صدر عليه ، وتقديس الأجيال لذكراه فذلك أشهر من أن يعرّف . وقد حفظ التاريخ أسماء الحكّام والقضاة الذين حاكموه ، تذكرهم الأجيال باللعنة الأبديّة ، وتستمطرهم الألسنة غضب الله ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء .
;وهكذا دوما يعيد التاريخ نفسه ، ويحشر الطغاة الأثمة اسماءهم في السجلّ الأسود لتعود الألسنة فتمطرهم باللعنات جزاء وفاقا .
واذ أختم رسالتي بشكرك أودّ أن تزداد صلات صداقتنا بالرسائل التي سنتبادلها معا . والسلام عليكم من المخلص .
داهش
حاشية : في كلّ البلدان الراقية يكون القضاة سياج الحرّيات المهدّدة من الحكّام والمتنفّذين . ويقف في وجوههم شاهرا سيفه ذا الحدّين لبتر رغباتهم وردّ كيدهم الى نحرهم ، وانقاذ من يريدون افتراس حرّياته ، ودوس حقوقه ، والاعتداء على حقّة بباطلهم .
هذا هو موقف القضاة النزيه العادل .
أمّا هنا في لبنان فانظر ، يا أخي الدكتور هيكل ، ماذا كان موقف قضائه الذليل الخاضع والمهان الخانع :
لقد كلّف المجرم الأوّل ( يوسف شربل ) المدّعي الاستئنافي العام أن يلاحقني ، وأن يتّخذ كلّ ذريعة مهما كانت وكيفما كانت لآجل ايقافي موقف المتّهم .
ففشل ( شربل ) رجل القانون والمؤتمن على العدالة ، ومهشّم القوانين ، والراقص على أشلاء الحقوق الهضيمة .
نعم فشل في مهمّته ممّا اضطرّ المجرمين لأن يرسلوا إلي شرذمة من الرعاع ، فاعتدوا عليّ في عقر داري ...وللحال برز رجال الشرطة واعتقلوني ، وأطلقوا سراح المجرمين الذي أرسلهم خصومي الأدنياء في نفوسهم ، وكلّفوا صنيعتهم المستنطق نديم حرفوش الذي وضع ضميره في ذمّة الأبالسة .
وراح هذا المستنطق المسخّر لوجدانه ينفذّ مآرب الطغمة الوصوليّة ، وذلك لقبوله الانضمام الى معسكرهم الشرّير ، وتحقيقه المضحك المبكي مع الأبرياء وهو متأكّد من أمر المؤامرة المجرمة المبيّتة التي ارتكبت باطّلاعه واطّلاع ريئسه ( يوسف شربل ) المدّعي الاستئنافي العامّ .
فيا لعار لبنان بقضاة مسخّرين لارتكاب الآثام وطمسهم للحقّ واعلائهم للباطل .
ولكن ، ثق يا أخي حسين هيكل ، بأنّ جريمة هذين القاضيين لن تموت ....وسيدفعان ثمن جريمتهما بحقّي وحقّ سواي كاملة غير منقوضة ....
والأيّام القادمة ستؤكّد لك أنه ما من حق ضاع ووراءه مطالب .
وما من ظالم الاّ وسيكتوى بالنار الصاهرة المذيبة عندما تدقّ ساعة الحساب الرهيبة الهائلة .
بقي ( ميشال شيحا ) وهو خال ( ماجدا حدّاد ) التي انتحرت احتجاجا على جريمة تجريدهم لجنسيّتي بالاعتداء الصارخ ...
انّ هذا المخلوق قد دمّر بغبائه العظيم عائلته المتعجرفة تدميرا تامّا ، وشهّرها تشهيرا رهيبا . فهو المسبّب الحقيقي لانتحار ابنة شقيقته المأسوف عليها ( ماجدا حدّاد ) . وهو المسؤول عن سجن شقيقته المجاهدة ماري حدّاد ، وسجن قرينها الداهشيّ جورج حدّاد . وهو المسؤول عن المأساة المدمّية التي حدثت منذ ثماني سنوات حتى اليوم ....
انّ هذا المتعجرف المغرور قد ذهب الى ألفرد نقّاش عندما كان رئيسا لجمهوريّة لبنان عام 1943 ورجا مرارا وتكرارا أن يبعدني عن لبنان ....
واستحلفه باسم الصداقة التي تربطه به منذ سنوات أن ينفّذ هذه الجريمة ....فرفض فخامة ( النقاش ) يومئذ طلبه رفضا باتّا .....
وعندما اعتلى ( بشارة الخوري ) الحكم – وبشارة مقترن بشقيقة ميشال شيحا المدعوّة ( لور ) – اذ ذاك طرب لهذه الفرصة السانحة ، وبالمؤامرة مع صهره وشقيقته نفّذت الجريمة اذ أرسلو شرذمة الرعاع فاعتدت عليّ ، ثم اعتقلوني وأبعدوني عن البلاد ، وجرّدوني من جنسيّتي رغما عن القانون ، ورغما عن الدستور حامي الحرّيات المهدّدة بأمثالهم .
وأخيرا ليتأكّد أخي حسين هيكل أنّ ( ميشال شيحا ) سيذوق من المرّ والصاب والغسلين أضعافا مضاعفة ممّا أذاقنيه .
أمّا الآن فكفاه عارا أنّه سبّب مقتل ابنة شقيقته ، وسجن شقيقته ماري حدّاد الأديبة الفنّانية . وسجن صهره ، والتنكيل بكريمتي شقيقته الداهشيّتين ، ثم اصدار شقيقته سلسلة من الكتب السوداء الرهيبة التي شرحت فيها مراحل جريمتهم الشوهاء الشنعاء ، ثم تبرّؤها من الانتساب اليهم . هذا تمّ بسبب هذا المتعجرف القاحل الفكر ، الماحل التمييز ، والذي يقول عن نفسه انه أنبغ من أنبته لبنان منذ كان لبنان ...يا للغرور الأعمى ، ويا للسخف والعته ، ويا للجنون المطبق !
أمّا المستقبل فهو الذي يتكفّل بتأديب هذا المجرم العديم العاطفة والذي نكب نفسه ونكب عائلته .
واذا كان حرّا بنكبة ذويه فهو وشأنه الخاصّ ...أما أنّه ينكبني وأنا الغريب عنه قلبا وقالبا ، جسما وروحا ... فهذا ما سوف يؤدّب عليه تأديبا صارما جدّا . وقد قال السيّد المسيح : " بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم ويزاد " . وهذا ما سيتمّ دون زيادة أو نقصان . والسلام عليكم من المخلص .
داهش