تراب
كلُّ ما فيها تراب يسير فوق تراب.
مُكرَهينَ نأتي إليها لنخوض منها العُباب.
تسحرُنا ببهارجها الزائفة فيسيل منّا اللُعاب.
حكماؤها، علماؤها، جهابذتها، فلاسفتها، أراهم كألعاب.
سواءٌ أوُلِدَ أحدهم أم سواه قد غاب.
مهازلُ الحقيرة تضحكني: من سهل، ووعر، وجبل، أم من غاب.
ترى الشعوب تضجُّ بالملاهي، ولو عقلوا لكانوا من الندّاب.
تسألهم عن دنياهم فيجيبونك إنّها كشهد مُذاب.
يطلبون من المتشائمين أن يقيموهم عنهم كنوّاب .
يرتكبون أحطّ المعاصي ويقولون: إنّ ربّكَ غفورٌ توّاب،
وهم في أعماق نفوسهم لا يؤمنون بالعقاب أو بالثواب.
ترى أوقحهم يقذف السماء بأقذع ما عنده من سُباب،
ويلعن الجحيم ، ثمّ يكفربالنعيم، ويعود ايهزأ بالرباب.
وينكفؤا ليدعو من هم على شاكلته من الشيبِ ومن الشباب.
فمنهم من يعزف على عوده ، وآخر على قانونه، ثمّ سواه يعزف على الشبّاب ،
أناشيد المكرِ واللؤمِ والجحود، ثمّ يتبجّحون بالأنساب.
والقدر تراه ينظر إليهم برهبوت، وقد استلّ من جعبته النشّاب.
خسئت هذه المرذولة بما فيها من أسباب،
إذ عشّشت فيها الرذيلةُ طوال أدهار وأحقاب.
نحن نسير في رحابها كالسائر على رؤوس الحراب.
ولن يمضِي عليها أمدٌ طويل حتى تنقلب إلى خراب .
نرائي إذ نقوم ببناء معبدٍ وصومعةٍ أو محراب.
سكّان العوالم المضيئة يشاهدوننا وكأنّنا قدّسنا في جراب.
نقضي أعمارنا البائسة التعسة بين مجيء وذِهاب،
وفي كلّ دورٍ من أدوارنا تجدنا ما زلنا كألذئاب .
نحطُّ على مستنقعات الرغبات مثلكما يحطُّ على الجيفِ الذباب.
نتبع من يقودنا إلى الموبقات ، ونكون له من الأذناب.
نعتدي على الآمن الوادع من الإنسان أم من ذي ناب.
أشدّنا إقداماً على المعاصي ذلك الذي تراه قد تاب،
وذاك الذي يدّعي ميناً وتدليساً بأنّ رشده إليه قد ثاب.
جميعانا أشرار . ولكن أحدنا يطلق أفاعيه من النافذة، وآخر من الباب.
جميعنا نتمسّك بالقشور التافهة دون اللُباب.
نتشبّثُ بشهواتنا مثلما تتشبّثُ بالعظمةِ الكلاب،
ونحطّ على المآثم بجبروتٍ كانحطاطِ الخطّافِ أو ككلاّب.
نخوض غمرات المنايا ونتقلّب بين أحضان العذاب،
ثمّ نقول: للّه ما أطيب أمانينا ، إنّها أحلام عذاب!
أرى كلَّ من في الدنيا يجوبون محيطها ويمخرون هذا العباب،
ما بين طالب مالٍ وجاهٍ وساطةٍ وسطوةٍ وغيرها من الأسلاب.
فذاك يقول: للّه ما أجمل الدنيا فعيشي فيها قد لذّ وطاب!
وآخر يقول: واهاً فإنَّ أملي بها قد تبخّر وذاب!
وشقيق له يقول: واحسرتاه! فإنَّحلمي الذهبيّ قد تلاشى وخاب!
وآخر به جِنّةٌ للعبث واللهو وشرب الأنخاب،
وسواه يقول: إنّ العمر أثير رقيق شفّاف الإهاب،
وآخر مشغول ومغوفٌ بكلّيته برشف الرُّضاب،
ثمّ ترى جمهرة كالحة الوجوه وقد لازمها النتحاب.
مهازل تسير في الدنيا وقد فُقِدَ منها النصِّاب،
كأنّها أشباح المنايا وقد تغلغلتْ في حنايا الأنصاب.
شظايا الدهر سترمينا بقذائفها، إنّنا بها سنُصاب.
حيّرتني هذه الخليقة بالصامت منها وبالصخّاب.
زرتُ المقابر فشاهدتُ نُجْلَ العيون، وقد بدت منها الأوقاب،
وذوتْ ناضرات الوجنات، وزال منها حسنها الخلاّب،
واستوى في ( مدينة الصمت) الرهيب صاحب التاج مع الحطّاب،
وفي أجداثها الباردة تمزّقَ ذلك البرقع وعنه الغطاء قد انجاب.
تأملْتُ الراقدين بحسرة، وقلت لهم: أين، الآن، أمانيكم أيّها الطلاّب؟
لقد انقضت أحلامكم وتلاشت مثلما يتلاشى السحاب!
وقرأتُ، على رخامة قبرِ عاهلٍ، ما فيه الكثير من المديح والأطناب،
فخاطبته: أنبئني أين من كان يحتاط بك من الحُجّاب؟
وهل وُضِعَ بينهم وبينك اليوم حجاب؟
وهل غادرت رياضك وقصورك وخلّفت وراءك الهضاب؟
وهل نفضّتَ يديكَ من الصروح الفخمة ذات القباب؟
وماذا دهاك حتى انطلقتَ دون جنودك الأبطال الصّلاب؟
وأنت الذي كنت ترود الدنيا مع جيشك اللجِبِ أيّها الجوّاب؟
خاطبته طويلاً... ولمّا لم يَرِدْني منه جواب،
حنيتُ رأسي احتراماً لحرمة الموت، واحتاطَ بكياني ضباب،
وقلتُ: للّه درُّ هذا الدهر، فإنَّ دنياه دولاب،
تغدق عطاياها على كلِّ مجرمٍ وغدٍ وهو سلاّب نهّاب،
وتدفع بنقمتها على من يرهب الجريمة ومن شبحها يهاب.
ثمَّ عدّتُ لنفسي وقلتُ: علَّ لحكمة ما نراه لهذا الإرهاب،
ودرسٌ واجبٌ لكلِّ فردٍ ممّن يكون قد استراب.
عدّتُ وخاطبتُ من تحت الثرى وقد أخذني من كثرتهم العَجَبُ العُجاب،
فمن ملك إلى قائد، إلى فيلسوف، إلى شاعر، إلى تاجرٍ فقصّاب،
وقلتُ لهم: إعلموا بأنّكم ستقدّمون، الآن، أمام باريكم الحساب،
فمن عمل الصالحات سيكافأ عليها، وبعكس هذا سيكون العقاب.
ثمَّ رحلتُ عن ( مدينة الصمت) وحلّقتُ بأفكاري مثلما تحلّق العُقاب،
وناجيتُ نفسي بحزن قائلاً: حقّاً إنّنا من التراب،
وسنعود إلى التُّراب!
بيروت،15 تمّوز 1944
Back to أُسُسُ العقيدة الداهشيَّة بقلم الدكتور داهش