المقالة الثانية في مجلة " الغريّ " العراقيّة
صدر العدّد ال 14 من مجلّة ( الغري ) العراقيّة ( السنة الثامنة ) التي يصدرها العلاّمة شيخ العراقيين آل كاشف الغطاء وفيها هذه المقالة بتوقيع ( رائد الحق ) الشاعر الناثر الشيخ سليمان الظاهر من علماء النبطيّة – جبل عامل – في لبنان الجنوبي .
حول الداهشيّة ودعوتها الجديدة
كتب اليّ حضرة المفضال الغيّور صاحب مجلّة تاغري الغرّاء بمناسبة الضجّة القائمة اليوم حول الداهشيّة ومراميها وأهدافها واختلاف أقاويل الناس فيها وفي دعوتها الجديدة , يستوضح عمّا بلغه علمي عن حقيقة أمرها وما الى ذلك مما يتّصل بهذا الموضوع الخطير .
فرأيت لزاماً عليّ وقد أحرجني – أيّده أللّه – لخوض بحث لم أكن أعدّدت له من قبل عدّته , ولم أكن أحطت به خبراً , أن أصرف وقتاً في الوقوف على الحقيقة , أو ما يقرب من الحقيقة , لأسلم من المعرّة , من معرّة الحكم على القوم بما يجانب الحقّ فأتحمّل لوم اللائم ووخز الضمير .
فرأيت , مع إلمامي بعض الإلمام بشيء من أحوالهم , أن أتّصل ببعض من لي سابق معرفة وصداقة به , وهو من العليّة من أتباع المذهب الداهشيّ ومن دعاته ومروّجيه ومن احتملوا في هذا السبيل أذى كثيراً , ولم يمنعه ذلك كلّه عن المضيّ في الأمر , والدفاع باللسان واليراع والخطابة بتأييد ما يعتقده حقّاً .
فلم يضنّ بما طلبته منه , وكتب اليّ كتاباً , واصحبه بإضبارة من كتبهم المنشورة , وبالطبع منها ما يعرب عن إعتقادهم الصريح , ومنها ما يشرح شرحاً ضافياً عمّا لاقاه إخوانه من إضطهاد .
وكلّها كما كتب لي وكتبتم اليّ قد أهدي لكم منها .
ومما كتب اليّ بذلك الكتاب الذي لم أجده كافياً في الحكم لهم أو عليهم فيما أكتب , فراجعته في الإستيضاح عن أمور تزيدني إطمئناناً .
فلم يبخل عليّ بكتاب آخر فيه الصراحة .
وقبل نشر كتابيه بمقالي هذا , وقبل إبداء رأيي بمقالة القوم والحكم بإسلامهم , من أقوالهم وأفعالهم , أراني مضطرّاً الى تمهيد وجيز له كمال الإتّصال بهم , وبأنّهم قوم باحثون عن الحقّ , عاملون الى ما تطمئن به نفوسهم من الزلزال فأقول :
إن الشرق وهو المستغرق في الحياة الروحانيّة , منه إنتشرت الأديان السماويّة , وابتعث أللّه جلّ وعلا الأنبياء والمرسلين لإصلاح العالم الإنساني , والتسامي به الى أسمى مراقي الروح .
وفي هذه الأزمان التي اتصل بها الشرق وهو متأخّر في الحياة الماديّة بالغرب المنغمفي حمأتها , سرت فيه الروح الغربيّة الماديّة , وخاصة في معرّتها ونقائصها , وما تحمله من سموم مبادىء متناقضة متباينة عاكست سير الإنسانيّة المستقيم , وبعثت فيها الآلام النفسانيّة التي لا قرار لها والتي شكا منها الغرب قبل الشرق , وقام فيه من المصلحين من يعمل على إنقاذ البشر من شرور تلك السموم التي إضطرب لها العالم شرقيّة وغربيّة , وأنذره بالزلزال , بل وبالتلاشي من لوح الوجود , وهو صائر إليه عاجلاً أم آجلاً , إن لم يتغلّب المصلحون على محو تلك المبادىء المرتطم فيها , والسير فيه بمبادىء هي أقرب لصلاح البشر وإنقاذهم من هذه الهوّة السحيقة التي لا قرار لها .
وما صلاحه بالنازيّة , ولا بالفاشيّة , ولا بالشيوعيّة وما الى ذلك مما لا يعدّ , ولا يحدّ بحد , من سمومها القتّالة .
وإن من تعاليم الدين الإسلامي المبيّن دواءً لتلك الأدواء . والإسلام نفسه لا يناقض المسيحيّة ولا الإسرائيليّة من حيث القواعد العامّة الملائمة للعقول , ففيه الديانتان من هذه الناحية مجتمعتان , ولكنّه ... وقد جاء خاتمة الشرائع , ونبيّه العظيم خاتمة للنبيين , فقد كفل بما فيه من تعاليم تصل بالعالم الى المثالية – سعادة البشر . وفيه ما يضمن بما فيه من مبادىء سامية , وما سنّ من سنن قانونيّة واجتماعيّة وماديّة وأدبيّة وروحيّة ما يردّهم الى الإعتدال والقصد , فلا بدع إذا بحث الداهشيّون , وهم من صميم الشرق الروحيّ , وقد رأوا تسرّب الماديّة الممقوتة بكل معرّاتها الى جماعات شرقهم , في طرق إنقاذهم من تلك المعرّات والنقائص .
ورأس الداهشيين رجل أوتي ذكاءً رائعاً , وفكراً صائباً , وصراحة فذّة , وصبراً عجيباً , ومعرفة بالأنفس وخوالجها ... فليس من المستغرب أن يرشده بحثه في إدواء أمّته , وما آل إليه أمرها , وما شارك منها الكثيرون الغرب الماديّ في مبادئه الهدّامة الى أن دواء الداء الذي رآه منحصراً في إختلاف الأديان , وإن شئت فقل ( أرباب الأديان ) , باعتناق الدين الإسلامي الذي فيه ( المسيحيّة والإسرائيليّة ) وزيادة .
وهي التعاليم الكافلة لسعادة أمّته ومؤاخاتهم , ومداواة كل ما يشكون منه من إلحاد ومن مبادىء سرت ما بينهم , وكلّها معاول تهديم وضلال وإضلال .
قام داهش بك وأتباعه بهذه الدعوة , ولا عجب إذا نفر منها ومنهم من لا يهون عليهم التخلّي عن عقائدهم , وقيام ما يدعو الى اتباع سواها وهو من أهل دينهم .
ولاقى وأتباعه ما لاقوه من تهجين دعوتهم وإلباسها غير لباسها , وإبرازها في غير شكلها ...
وبعد فأجتزىء بهذه المقدّمة الخاطفة , وأعود فأنشر كتابيّ ذلك الصديق :
الكتاب الأول
طلعت عليّ رسالتك الأنيقة المؤرّخة في 7 الجاري كانون الثاني 1947 طلوع القمر الساطع بعين المدلج الساري , فقرأتها مثنى وثلاث ورباع , وشكرت لكم تلك العاطفة الرقيقة المترقرقة من خلال سطورها . وللحال زرت منزل الداهشيّة حيث إجتمعت بفريق من الإخوان مع آل حدّاد وقرأت عليهم رسالتكم الكريمة , واستقرّ الرأي أن نبعث إليكم ببعض مطبوعات فيها الجواب الشافي الوافي عمّا سألتموني عنه , وما سألكم عنه صديقكم النجفيّ الصحفي , ولعله صاحب الغريّ , ويمكنكم أن تبعثوا إليه بنسخة من المرسل .
أمّا المقاومات والإضطهادات فلا تزال كالجمر تحت الرماد ...
وكل دعوة إصلاحيّة لا بدّ لها من مقاومة وإضطهاد .
عذراً لهذا الإختصار والإكتفاء هنا بالتلميح , لا بالتصريح , فيما يتعلّق بأسئلتكم جميعها . فالأمور مرهونة بأوقاتها , ويكفي أن أقول بلساني ولسان إخواني الدّاهشيين المؤمنين الذين لا يخافون في الحقّ لومة لائم :
أنا بإسم ربّي رأيت النورا وكفى بربّي هاديــاً ونصيـراً
الكتاب الثاني
... وبعد فقد سألتموني عن الداهشيّة وأهدافها في رسالتكم الأولى والثانية .
وكنت أتمنّى لو راجعتم بعناية جميع ما أرسل إليكم , لأدركتم الأهداف من تلك الردود والمناشير والبيانات . وأن للداهشيّة أهدافاً عديدة :
منها تحطيم سلاسل الدجل والشعوذة , والضرب على أيدي رجال الدين الذين يشوّهون التعاليم السماويّة لغايات دنيويّة .
وهي تكره الذين يضلّون عن طريق العقل , ويضلّلون الملايين من عباد أللّه المساكين .
وهي تنزع وتهدف لتغرس في قلوب من ينتمون إليها محبّة النبي العربيّ القرشيّ , وتكريم ذكره , والإطّلاع على سيرته النبويّة الجليلة , والتعمّق في أسرار آياته وأحاديثه , والتمسّك بأهداب القرآن الكريم . وبعد إنتشار هذه الدعوة تزول الحدود والسدود , ويدين الجميع بدين الحق , دين المحبّة والحرّية والآخاء .
ومن أهدافها إنذار العالم الأسلامي بسوء المصير إذغ بقي مسترسلاً في غوايته , وهي تعتبر أن الإسلام لا يسير اليوم على تعاليم محمّد ووصايا أللّه وإرادته ...
وإذا كانت هناك فئة قليلة تسير على النهج القويم فهذا لا يكفي ولا يشفي .
ومما تقوله الداهشيّة إن من أراد أن يطلق عليه إسم مسلم وجب عليه أن يعود الى سيرة المجاهدين الأقدمين , وينسج على منوالهم , ويزهد في الدنيا , ويتطلّع الى المثل العليا , والفضائل السامية التي خلّدت ذكر محمّد وأبي بكر وعليّ وعثمان وعمر ومن طرّسوا على أثارهم من الأبطال العظام الذين جاهدوا وإستشهدوا في سبيل الحقيقة والإسلام .
ثم أن رجال الدين ولا سيّما رجال ... الكاثوليك لم يتركوا وسيلة إلاّ حاربونا بها , ولم يتورّعوا عن نشر المختلقات وترويج المفتريات حول داهش وإخوانه .
وقد ظنّوا أن بعملهم هذا يثبطون من عزائمنا الفولاذيّة , ويضعفون من إيماننا الراسخ رسوخ الأطواد , فباؤوا بالفشل الذريع بعد أن تكشّفت الحقائق للجميع , فعرف الناس الصادق من الكاذب , والصالح من الطالح . ولذا أخذت دعوتنا تنو نموّ شجرة مباركة قويّة الأعراق والجذور , فلا تقوى هوج الرياح على إقتلاعها . وها إن عدد الأنصار أصبح عظيماً والحمد للّه ...
وهناك أسر وعائلات كثيرة تدين بالداهشيّة في لبنان وخارج لبنان , ولكنّها لم تبح بسرّها لأحد , لأسباب حكيمة , لأن ظهورهم اليوم يعرّضهم للإضطهاد والسجون وملاحقة الشرطة وخسارة بعض المصالح والوظائف ...
ولكن هذه الفئة تعمل في لبنان , وخارج لبنان , بغيرة وإخلاص , وبصمت عميق , لأن إعلان إيمانها اليوم ليس من الحكمة في شيء ... وقريباً يكشفون القناع عن وجه الحقيقة , ومعظمهم من عليّة القوم , ومن أصحاب المهن الحرّة والوظائف الرفيعة , والتجارات الواسعة ...
وقبل كلمة الختام أتقدّم إليكم بطلب خاص وهو أن تبادروا لمعالجة هذه القضيّة ونشر مقالات متسلسلة , والطلب من صاحب مجلّة الغريّ وأصحاب غير صحف تعرفونهم ليوجّهوا نداءً صارخاً الى العالم الإسلامي أن يستيقظ من سباته العميق , ويدرك معنى الجهاد الحقيقي الذي يقوم به الداهشيّون دفاعاً عن الحقّ الشريف , وانتصاراً للدين الحنيف . وكلّما أنشأتم مقالة وأرسلتموها الى إحدى الصحف نرجو موافاتنا بنسخة منها لنحتفظ بها وننشرها بين الإخوة الداهشيين الذين يتوقّعون من أمثالكم رفع منار الحقّ والحقيقة والثبات الى النهاية لبلوغ الغاية :
وقلّ من جدّ في أمـر يحاوله وأستخدم الصبر إلاّ فاز بالظفر
هذان كتابان صريحان كل الصراحة بما يهدف إليه الداهشيّون , وبما يعتقدون . ومن نشراتهم المطبوعة ومنها بيان الى علماء المسلمين ووجهائهم وأدبائهم المحترمين , ومن إتصالنا ببعضهم ممن له مكانته الممتازة بين قومه والمستنيرين , ومصارحته لنا باعتقاده بنبوّة محمّد صلّى أللّه عليه وسلّم وبإعجاز القرآن , ومن أن المرء يدان بأقواله ... كل أولئك مما نستدل منه على إسلامهم وأنّهم صائرون إذا ارتفع عنهم الضغط الى نباهة شأن , وسموّ مكان , وكثرة الأشياع والأتباع والأعوان .
وعلى المسلمين أن يناصروهم ويمدّوا إليهم يد المعاونة .
وألله الهادي الى سواء السبيل .
رائــد الحــقّ
سليمــــــان الظاهـــــــر
النبطيّــــــة – لبنــــــــان