الصحافي حافظ إبراهيم خير الله
صحافيٌ لبناني. اشتغل في وكالة الصحافة الفرنسية، ثم في وكالة الأسوشيتدبرس الأميركية قبل أن يترك لبنان للدراسة الجامعية في برلين، ثم العودة إلى بيروت للعمل في الصحف اليومية ثم في مجلة "الحوادث". هاجر إلى لندن في مطلع الحرب الأهلية، ومارس العمل في اليوميات والأسبوعيات التي نشأت فيها. وهو الآن في لندن مواطنٌ بريطاني متقاعد.
لماذا الاكتفاءُ "بالعجائب"
دون الحديث عن الأهم!
الداهشيون في عيد. هم يحتفلون في العام 2009 بمرور مئة سنةٍ على ولادة الدكتور داهش في مطلع حزيران 1909. وهم يتناقلون الأخبار عنه بكثافةٍ متميزة لأنهم اعتادو احترامَ ما كان يجري معه في حياته التي امتدت خمسًا وسبعين سنةً.
الدكتور داهش كتب ما يَنوفُ على مئة كتاب في كل المواضيع التي خطرتْ في باله. وبعضُ هذه الكتب جرت ترجمتُه بصفةٍ رئيسيةٍ إلى الفرنسية والإنكليزية، وبعضها صار الآن بالألمانية والإسبانية. ما يقوله أو يوحيه في هذه الكتب غامضٌ على كثيثرين من غير الداهشيين، فيما هو مسألةٌ لا تجوز المناقشة فيها عند أتباعه ومُحبيه وأصدقائه. أمرُه لا يزال محيرًا. وهو، بعد وفاته، سيكون أكثرَ فأكثرَ موضوعًا للجدل عند من يًصدقون ومَن لا يصدقون.
أنا عاشرتُ وما أزال معاشراً لعددٍ وفير من الداهشيين، وتعلمتُ أن أحترم مشاعرهم في مسائل ليست من صُلب تفكيري. المسالة الأساس عند كثثيرين منهم أن الداهشية حركة لها علاقةٌ قوية بالروحانيات، وأن الرجل في ما كتب كان متميزًا في البحث بالروحانيات.
لا بأس، فإذا كان ها اعتقادهم، فلماذا السعي، إلى تعديل أو تغيير هذا الاعتقاد!
في الستينيات من القرن الماضي، دخلتُ بيته في الجزء الأسفل من شارع القنطاري في بيروت عشرات المرات؛ وهو مبنى يخصُّ آل حداد الذين انتمى عدد منهم إلى الحركة الداهشية منذ مطلع انطلاقها في الأربعينيات. جالستُه الساعاتِ الطوال مستعمًا ومستفهِمًا، بل مشككًا في بعض الأحيان. كان، رحمَه الله، واسعَ الصدر، وصابرًا إلى أقصى الحدود على ما يريد من الآخرين أن يفهموه. ما كتبتُه عنه في تلك السنوات كان محايدًا على قدر الإمكان ولو أنني لا أزال إلى الآن أُعاتب نفسي على استعمال كلمة "سائل" بدلاً من كلمة "سيال"، إذ إن هذه الأخيرة لها مفهومُها الخاصُّ جدًا في الروحانيات الداهشية التي لم أعرفها.
ما لا يزال عالقًا في دهني عن علاقتي الشخصية به هو هذا الفارق بين مفهومه عن نفسه ومفهوم عدد وفيرٍ من الداهشيين عنه. أنا لم ألحظ فيه إلا الرغبة في الرقة والهدوء والتعامل مع أي موضوع ضمنَ المنطق المقبول، ولو أنني أعترف بأن ما كان يكتبُه قبل فترة الستينات كان متفجرًا إلى حدِّ بعيد، كما كان كمَن يِشهرُ سيفَه في وجوه مَن لا يُعجبونه من مدنيين وإكليريكيين.
"مذكرات دينار" فيها شيءٌ من هذا، ولو أن الدكتور كان يلمِّحُ لي إلى رمزية ما وردَ من كلام. واقعيًا هو كان ضدَّ شيءٍ ما في هذه الدنيا، أقلُه الظلم والتعسف والتسلط والاستغلال، فيما هو يفتقدُ الرقة والنقاء والمنطق الإنساني في التعاملات البشرية. ربما يجوز التحليل أنَّ الرجل كان متوجعًا عن غيره، مع العلم أنه قد مرت عليه في حياته هو مظلمةٌ خطيرة لم يستطع أن ينساها، وهي تجريده في عهد الرئيس بشاره خليل الخوري من الجنسية اللبنانية (الدكتور من مواليد القدس) وإطلاقُ الأمن العام ضدَّه في ملاحقاتٍ قال بعضهم إنها انتهتْ إلى نفي من لبنان، وقال بعضهم الآخر إنها انتهت إلى اغتياله.
اغتياله؟! هذا موضوع جديرٌ بالاهتمام. في أحد حوارتنا الطويلة أفهمني أنه تعرض بالفعل للاغتيال ومات. في مفهومه وشرحه: "نعم، هم قتلوا واحدةً من شخصياتي الست، وهي شخصياتٌ عُلوية تتجسدُ لاسباب روحية، والموتُ لا يسري عليها". صدقوا أو لا تصدقوا: هذا شأنكم. أنا صدقت. لماذا؟ ربما بسبب هذا الاتصال الشخصي المستمر والقائم على توسيع العقل والصدر في التفهم والتفاهم، وربما لأنه كان لا يعرفُ "التقشير" في شروحِه، وأخيرًا ربما لأنني تأثرتُ بموجبات صداقةٍ شخصيةٍ أعتزُّ بها.
بعضٌ غير قليل من الداهشيين يبدون لي وكأنهم في وادٍ آخر. إلى اليوم لا أدري معنى هذه الظهرة لدى هؤلاء، إذ يستحْلُون، وبشغفٍ غير معقول، أن يتحدثوا عن "عجائب" الدكتور. حسنًا، أنا الذي يعرف "عجائبه" ربما أكثر من غيري، وفي أكثر من مناسبةٍ مارستُ تصويرها بالكاميرا والكتابة عنها. أما هو، العاقلُ المتزن رحمه الله، فقد كان يشرحُ لي رمزية ما كان يجري أمامي ومن غير انفعالٍ أو "انفحاط". مسائلُ طبيعية (أو ربما غير طبيعية) هو كان قادرًا عليها فيما سواه غيرُ قادر. المسألةُ عنده تنتهي عند هذه النقطة، فيما بعضهم كان يطيرُ فوق الغيم ليشرح أمورًا "عجائبية" يسرحُ فيها بخياله وصولاً إلى القمر!
هنا أقول بوقاحةٍ وبمحبةٍ معًا إن هذه الميول الانبهارية تستوجبُ بعضَ التعقل، إذ إن في الداهشية ما يُغني عنها بما هو أكثرُ اتزانًا وتعقلاً، أي بالعودة إلى الأصول في ما وردَ عبرَ مئةِ كتابٍ حسبما أراد صاحبُها وكاتبُها بثها إلى عقولِ مُريديه وأصدقائه وأحبائه.
لستُ ذا رغبةٍ في الانتقاد أو إلقاء المواعظ على أحد. العقل زينة والتعقل فضيلة. الدكتور صار في عالمٍ آخر، ومن حقه أن يحافظ له أصدقاؤه ومُحبُّوه على مهابته التي أرادها لنفسه.
واقعيًا، ها قد مرت السنواتُ المئةُ الأولى التي عاش منها الدكتور خمسًا وسبعين. نحن الذين عرفناه صِرنا قلائل، والزمنُ كفيلٌ بإزالتنا من الوجود الواحد بعد الآخر في مُدّدٍ قريبة. العوض بسلامتكم، فالذين يستطعيون التحدث بما كان مباشراً بينهم وبين الدكتور سيختفون. ولكن ماذا بعد؟ هذا هو المهمُّ الآن: تحديدًا، الانطلاق من "كثرة الحكي" إلى كثرة الكتابة والتسجيل والتوثيق. فإذا كان أصدقاؤنا الداهشيون يريدون استمرارًا لما يعتقدونه صوابًا، فالدعوةُ هي العملُ منذ الآن لأشباع نَهَمِ مَن يريدون في العام 2109 (أي المئوية الثانية) الذي لا حيلةَ لهم آنذاك ولا واسطة معهم إلاَّ الكتب وما يتبعثها من آلياتٍ سمعيةٍ أو بصرية وكل ما تتفتقُ عنه التكنولوجيات الحديثة.
نعم، انتقلَت الداهشية من القنطاري في بيروت إلى جزيرة مانهاتن في نيويورك، وصار لها مُتحفٌ ودارُ نشرٍ ومطبوعةٌ دوريةٌ باللغتين العربية والإنكليزية. أصدقاؤنا الداهشيون نستطيع أن نُطالبهم بأن يبدأُوا منذ الآن بالتحضير لمناسبة المئوية الثانية عام 2109. أمامهم كل التكنولوجيا الحديثة، وهي بين أيديهم، وأمامهم شعوبٌ وأقوامٌ بالملايين ليُخاطبوهم بلغاتهم، وأمامهم جامعاتٌ ومعاهدُ ومُختبراتٌ أميركيةٌ لا حصر لها يمكنُ أن تصبح فيها الداهشية موضوع نقاشٍ واختلاف وضد ومع؛ وهذا كلُه مُفيدٌ للقضية التي بين أيديهم. انتهت النصيحة، ولم نطلب جملاً، ولا عجلاً!...
الولايات المتحدة بحرٌ عميقٌ يستوعبُ كل شيءٍ وكل جديد. هي جديرةٌ بأن يهتم بها المشرفون على المؤسسة الداهشية هناك عن طريق توسيع رقعة التعريف بالمعتقد الذي به يلتزمون؛ توسيع الترجمة ربما إلى الصينية أو اليابانية أو الروسية أو الألمانية أو الإسبانية. مشروعٌ ضخم، وهذا كله لا يتم بين يومٍ وآخر، لكنه ممكن بالمثابرة والعناد والتعامل الإيجابي والتخفيف من الشخصانية. الدكتور داهش يستحق هذا الاهتمام، وعلى البشر أن يقرروا بأنفسهم تردَّدهم أو قبولهم أو التزامهم. أنا لستُ من الداهشيين حتى أقرر لهم ما يفعلون أو أتفلسفَ عليهم في مايقررون. وما أقولُه هو أن الوفاء للصداقة مع المرحوم هو من أقلِّ واجباتي.
كبِّر الله واجبكم، والسلام على الطيبين.
لندن