الطريق ممتدّة أمامي , وأنا أسير بخطى ثابتة , راجيا بلوغ محطّ رحالي ...
ومضت الساعات , ولاشاها العدم , وعرت بتعب لسيري المتواصل . وكنت قد وصلت الى غابة أشجارها ظليلة وبحيرتها نميرة , فجلست بظل شجرة فاتنة متهدلة الأغصان . واذا بعصفور يقف على أحد أفنانها ,ويغرّد , فانتشت روحي بعد مشّاق السير , وأضيعت لصدحه بجوارحي , ورحت أخاطبه قائلا له :
أيّها العصفور الغريد ,
يا سمير الأشجار وحبيب الأزهار ,
أيّها المخلوق اللطيف الرائع الصّداح ,
إنّ شدوك قد أثلمني ,
وغناءك الأخاذ استولى على لبيّ .
فليتني كنت طليقا مثلك أيّها الجميل ,
أرود الغياض , وأحلق فوق الأرباض ,
مغردا على رؤوس الأشجار السامقة ,
مرحا , فرحا , طروبا , جائبا الحدائق الفاتنة ,
أتناول من ثمار جنيّها
وأشرب من فرات البحيرة السحريّة .
لك الله يا عصفوري الغرّيد , فإنّ صدحك المذهل قد شده الغاب وأطرب الألباب .
فليتني مثلك يا عصفوري المبدع
حرّا طليقا , لا شيء يكبلني بقيود المادة اللعينة .
إنّها أمنية لن يحقّقها سوى الموت ,
يا عصفوري الغرّيد .
واستولى عليّ نعاس بعد مشاق السفر , فاستغرقت في نوم عميق ...
وسرعان ما شاهدت نفسي أسير في طريق عبدت بالذهب الوهّاج , ورصّعت بالجواهر اليتيمة . وكانت أشجار العقيق , والعاج , والمرجان , والياقوت , والزفير , والماس المتألق تقوم على جانبيها , وهي مثقلة بقطوف من الجواهر النادرة . فتلك تتدلى منها عناقيد من اللؤلؤ الناصع البياض , وأخرى مبهظة بحملها من ثمار اليشب , وأخرى ملأى بحبوب من ثمار الجزع الرائع , فبهرني منظر لم يخطر على بال بشر .
وسرت بين صفيّن من الأشجار العجيبة وكأنني في عالم الملكوت القصيّ . وإذا بي أصل الى حديق الجمال الذي لا يضارعه جمال !
فأزهار هذه الحديقة المذهلة تضوع أشذاؤها في الفضاء , فيترّنح من يتنسمّها ابتهاجا وطربا .
وتجلّت أمام ناظريّ حورية حوراء لم يخلق الله من يضارعها بالحسن والرواء , والفتنة والبهاء . كانت هذه الحوريّة الغناج تسير بتؤدة ودلال , ومكان كل خطوة تخطوها تنبثق زنابق ناصعة وورود مخملية , وأضاليا رائعة , وبنفسج عجيب . وكان الفراش العجيب الألوان يحوم حولها ولثم وجنتيها .
وجلست هذه الغادة الألهية ذات الفتنة الخلاّبة بجانب بحيرة يترقرق ماؤها . واذا بالأسماك الملوّنة تجوب الماء الفرات , وكأنها تتمنى لو كان باستطاعتها مغادرة مياه البحيرة لتلثم قدميها . وأنشدت هذه الفتنة المجسّدة بصوتها الملائكي المذهل , واذا بطيور الغاب تهرع نحوها , وتجثم على باسق الأشجار , مصغيّة لشدو الحسناء المبدع . وكنت كالمسحور مسمّرا بمكاني وراء شجرة غضّة تخفيني عن الأنظار .
وفجأة كشف الغطاء عن بصري , فاذا بي أشاهد عصفورين يكسوهما ريش عجيب غريب , إذ كلّ ريشة بلون يختلف عن اللون الآخر , فهما فتنة عجيبة محبّبة للنظر . وقال العصفور لرفيقه : إنّ هذا الزائر لعالمنا قد سمح له أن يلجه بروحه وليس بجسده . فبعد أن أغلق النوم عينيه , أذن لروحه أن يجوب عالمنا , أمّا جسده فها أنت تراه مستلقيا تحت شجرة في عالم الأرض . وسيعود اليها , إذ إنّ أيّامه عليها لم تنته حتى الآن , وما يزال أمامه متسع من الوقت ليغادرها . فان ارتكب المعاصي فالويل لروحه ممّا ستلاقيه في عالم ظلماته مدلهمّة , وويلاته مرعبة وهائلة .
أما اذا كان الصلاح ديدنه والخير غايته , وتمسّك بالفضيلة ونبذ الرذيلة , وتغلّب على ميوله الدنيوية , وداس بجبروت رغباته الدنيّة , فمكافأته كوكبا بهيا في الديار العلويّة .
واذا بالعصفور الآخر يقول لرفيقه : إنّ هذا الإنسان يغذّ السير نحو مدينة القاهرة لينصب فخا لرجل مسكين سيستلب منه ماله , ويقطع عنه رزقه . ويا لسوء مصيره اذا نفذّ ما عزم عليه من شر وبيل . فاذا عدل عن هذا العمل الاجرامي ّ , وأصلح نفسه , فانه ساعة انتهاء أيّامه , يأتي الى عالمنا هذا لتقوده الغادة التي شاهدها ففتنت به , اذ ستقوده الى عالم بهيّ يتفوّق على هذا العالم بما يحتويه من بهجات لا يمكن لقلم أن يصفها .
وانتفض العصفوران فاذا هما شابّان يجللهما الحسن ويكسوهما ببردته المبدعة . فحيّاني كلّ منهما , وأوصاني أن أترك الشرّ جانبا , وأغير سلوكي لأحظى بعالم بهيّ لا يطاله حزن , ولا يعرف للأشجان اسما .
واستيقظت , واذا بي قد انقلبت رأسا على عقب إكمال سفري الى القاهرة , وعدت الى منزلي , وبعت أملاكي , ووزّعت ثمنها على الفقراء والمعوزين , وحسنّت سلوكي , وبت أنتظر انتقالي الى هذا العالم الذي شاهدته لدقائق معدودات لعلّني أعود فأشاهد حوريّة ذلك العالم البعيد السعيد لتكون دليلتي الى عالم لا تقربه الأحزان ولا يعرف معنى للأشجان .
الولايات المتحدة الأمريكية , الساعة الواحدة
من فجر 24\ 10 \ 1978 .