عذارى الفراديس
يا ربّات الخيال، وبنات السّحاب
أيتها العذارى اللواتي أراكن في تخيلاتي الفريدة
يا قيان الفراديس وعصافيرها الغرّيدة
أنتنّ أعذب من الأحلام وأبهى من أسلاك النور
أنتنّ أشعّة سحريّة تتألّق في ظلمات الدّيجور
فتضفي عليّ بهاءً رائعاً يطلّ نوره مدى الأحقاب
من كتاب "بروق ورعود"
للدكتور داهش
" حدائق الآلهة توشّيها الورود الفردوسيّة" و" فراديس الإلهات يرصّعها اللينوفار المقدّس"(1) رائعتان في الأدب الوجداني مثلهما كمثلِ جنّة الله بين سائر الجنان، وسدرة المنتهى بين ذوات الأفنان؛ فهما تشاركان مولّدات الأدباء الملهمين في أصالة الإبداع، وصدق العاطفة، وإشراق البيان، ولكنّهما تنفردان عنها جميعاً بما تفيض به الينابيع الروحيّة القدسيّة من الرّؤى المعجزة للإنسان!
إنهما اللُحمة والسّدى لنسيج عجيب حيّ نسجته شرايين قلبٍ كبير أحياه لطف النسائم وجبروت الإعصار؛ بل هما وجها كوكب سحريّ دريّ أبدعه خيال داهش وعقله الجبّار، ليطلق في مدار الحياة ما دامت الأرض في مدار!....
ولا تطمح هذه الدراسة لأن تكون أكثر من مدخلٍ يقود القارئ الى المتحف الفردوسيّ، ثم توقفه عند منبع الملذّات التي يرتشف منها كلّ متذوّق أصيل يجد نفسه أمام لوحات رائعة تُبدعها قدرة الفنّ العظيم، الفنّ الذي يولد من اقترانِ ربِّ الصدق بإلهة البَسَاطة، ويحيا بروحِ الجمال، ويتغذّى بخبزِ الحقّ والخير، الفنّ الذي يبقى رائعاً يسمو بالحياة حتى في تصويره القباحة والسيّئات.
ومن يخض عباب هذا الأوقيانوس الزخّار بأفكار داهش وعواطفه، والموّار بغضباته ولطائفه، لا بدّ من أن يفاجأ حيناً بالشمس تراقص أنوارها زبد الأمواج، فإذا العسجد واللجين في حفل زواج، وإذا السماء والبحر في عرسِ ابتهاج؛ وحيناً يفاجأ بأطباق من الغمام، وبدفعات كثيفة من الدجنّات والادلهمام، وبغضبِ العناصر المُهتاجة تصكّ منه العظام، فيطغى عليه الذعر ويجتاحه كابوس الموت الزؤام!...
إنهما وجها هذا الكوكب الوجدانيّ: واحد يلفّه قتام الحياة، تصطخب فيه آلام داهش وأحزانه، من حقارة البشر ومفاسدهم، ومن غربته الروحيّة بينهم ومعاناته القاسية لما سبّبوه له من عذابٍ وأهوال، فينتقم عليهم، ويذيقهم من سخطه شرّ الوبال؛ ووجه آخر تلتمع فيه ومضات من الفرح والغبطة، كاشفة عن سعادة الفراديس التي يحلم ببلوغها، وسلوى الطبيعة الفاتنة والمرأة المؤمنة اللتين ينشد فيهما بعض عزاء، ريثما تسطع شمس الرسالة الداهشيّة وتفتح له أبواب السماء.
ولذا جعلت هذه الدراسة السريعة في فصلين: المأساة أو الوجه القاتم، ومنافذ الأمل والعزاء والسعادة أو الوجه المشرق.
وكأنّما المؤلّف كان يتمنّى لو كانت الحياة كلّها نوراً، ودروب الإنسان لا تنبت إلاّ وروداً وزهوراً، فأخرج لنا كتابه بمتعدّد أجزائه وكأنّها مشاهد الفردوس الساحرة يرضي بها ذوقه الفنيّ الرهيف، ويعزّي نفسه عن هذه الدنيا الفاسدة الفاجرة .