تمهيــــــد
ما يضمُّه هذا الكتاب بين دفَّتيه من موضوعاتٍ كالعدالة الإلهيَّة، و التقمُّص، و الوعي الفكريِّ، النفس ، و الطبيعة و عبث الإنسان بها... إنمَّا هو حصيلةُ تأمُّلاتٍ شخصيَّة في بعض التعاليم الداهشيَّة توخَّيتُ بها إعطاءَ القارئ فكرةً مُوجَزة عنها.
هذه التأّمُّلات استُوحِيَتْ، في الدرجة الأُولى، من إيماني بالعقيدة الداهشيَّة منذ عام 1963. و هذا يَعني أنَّ الآراء المُدَرجَة في هذا الكتاب ناشئةٌ من " انغماسي" النفسيِّ و الروحيِّ في كلِّ ما يتعلَّق بهذه العقيدة، سواءٌ تحصَّل لي ذلك من مُطالعة مؤلَّفات الدكتور داهش المتعدِّدة المتنوِّعة أو ممَّا أُتيح لي الاطِّلاعُ عليه من رسائلَ روحيَّةٍ كانت تُوحى إليه أو ممَّا تَسَقَّطْتُهُ منه مباشرةً أو نقلاً عن رواةٍ ثِقات. زدْ على ذلك كلِّه ما استخلصتُه من معاني بعض الظاهرات الروحيَّة التي كانت تجري على يدَيه.
و لقد حاولتُ ، تعزيزاً لتلك التأَمُّلات ، ربطَ المفاهيم الداهشيَّة بما وردَ في الكتب المقدَّسة، و لا سيَّما الإنجيل المقدَّس و القرآن الكريم؛ كما حاولتُ ربطَها بما بات العِلمُ يتحدَّث عنه في هذا الشأْن من خلال اكتشافاته الحديثة. و مع ذلك كلِّه، فلا يَسعُني إلاَّ أَن أُصارحَ القارئَ بأنَّ ما توصَّلتُ إليه من قناعاتٍ و استنتاجاتِ لا يَعدو الاجتهادَ الشخصيَّ الذي لا يُلزِم أحداً ، سواءٌ أَكان فرداً ام مؤسَّسة.
إنَّ الرسالة الداهشيَّة، بوجهٍ عامٍّ، تَمُدُّ المرءَ بالمبادئ و القواعد العامَّة التي يسهلُ على الجميع فَهمُها و اعتناقُها. و لكنَّ فيها أَيضاً موضوعاتٍ عميقةً لم توضَّحْ تماماً ، و ذلك إمَّا لصعوبةِ فهمها و إمَّا لاقتضائِها قَدْراً كافياً من الاستعداد الفكريِّ و النفسيِّ و الروحيِّ. و لذلك لا يَبعدُ أَن يقعَ الاختلافُ على تفسيرها، فيؤوِّلُها كلُّ امرئٍ بحسب قناعته و مستواه النفسيِّ، فلا تُحمَل على درجةٍ واحدة من القبول و اليقين عند الجميع.
لقد كان الدكتور داهش، مؤسِّسُ العقيدة الداهشيَّة، يوضِّح ، أحياناً، لبعض الإخوة و الأَخوات أُموراً روحيَّة لا يتيسَّرُ فهمُها لعامَّة الداهشييِّين، و ذلك انسجاماً مع المبدأ القائل إنَّ الحقائق الروحيَّة لا تُعطى كاملةً للناس أَجمعين لأنَّهم يختلفون من حيث مستوياتُهم و خصائصُهم النفسيَّة و الروحيَّة ( أو سيَّالاتُهم ، بحسب الُمصْطَلَحِ الداهشيِّ.)
و الواقع أَنَّ حَجْبَ بعض الحقائق الروحيَّة و عدمَ توضيحها لا يقتصران على الرسالة الداهشيَّة فحسب. الرسالات السماويَّة الأُخرى تحتوي كُتُبُها المقدَّسة على أُمورٍ لم توضَّحْ في حينها، و ما تزال حتَّى اليوم عُرضةً لشتَّى ضروب الاجتهاد و التأْويل. السيِّد المسيح، له المجد، قال لتلامذته:" إن كنتُ حدَّثتُكم بأُمور الأرض و لم تؤمنوا، فكيف تؤمنون إنْ حدَّثْتُكم بأُمور السماء؟"( يوحنا 3: 12) و لمَّا أَلحَّ على النبيِّ العربيِّ الكريم بعضُ صحابته ليوضِحَّ لهم حقيقة الروح، نزلَت الآيةُ الكريمة:"و يسأَلونك عن الروح ، قُل الروح من أَمر ربِّي، و ما أُوتيتم من العِلم إلاً قليلاً".(الاسراء 85).
جُملةُ القول إِنَّ الرسالات السماويَّة جمعاء لا تخلو من أُمورٍ تحتملُ التأْويل و الاجتهاد و إنَّ كلَّ مؤمنٍ يفهم تعاليمَ دينه من خلال زاويته الخاصَّة، و من خلال قناعاته النفسيَّة و مُستوى سيَّالاته الروحيَّة.
بالإضافة إلى ذلكَ كلّه فإن المقالات المُدْرَجَة في هذا الكتاب تحتوي على الكثير من الشروحات و المفاهيم الخاصَّة بالعقيدة الداهشيَّة غير الموجودة في سِواها، كمفاهيم السيَّالات الروحيَّة و الثواب و العقاب تلك المفاهيم التي يتحمّلها كل كائن بالنسبة لأفعاله و أفكاره ووجود الوعي الفكري و النفسيّ عند جميع الكائنات و غيرها من الشروح و المفاهيم التي لا يستطيع القارئ الغير مُلمْ بالتعاليم الداهشيَّة أن يتتبّعها بِيُسر ، بينما قد يجدها القارئ الداهشيّ المتفهم لعقيدته سهلة الشرح و الوضوح.
* * *
تنطوي مُعالَجَةُ الموضوعات في هذا الكتاب على تشابُهٍ كبير. ورُبَّما أَخَذَ عليَّ بعضُهم الاسهابَ و التكرار على أَنَّني أُشير منذ البداية إلى أنَّ السببَ هو تداخُلُ المفاهيم الداهشيَّة بعضِها ببعض و ترابُطُها، الأَمر الذي يؤدِّي إلى شيءٍ من التَّرداد سواءٌ في خلال المُعالجَة أَو في الاستنتاج. الاعتقادُ الداهشيُّ، مثلاً،أَنَّ الكائنات جميعها تتمتَّع بالوعي. و الادراك النفسيِّ إنَّما يَستلزِمُه قانونُ التقمُّص الذي يؤمن به الداهشيُّون إِيمانَهم بالله، عزَّ و جلَّ. التقمُّص، عند الداهشيِّين ، قانون يشملُ الكائناتِ كافَّةً. فإذا كانت قوى الوعي النفسيِّ ( أَو ما تدعوه الداهشيَّة سيَّالات) تنتقل ، وفقاً لقانون التقمُّص، بين جميع الموجودات بلا استثناء ، فقد لزمَ أَنَّ الحيوان و النباتَ و الجماد موجودات تتحلَّى ، هي أيضاً بما يتحلَّى به الإِنسان من وعيٍ و إدراك. هذه الحقيقة تحفلُ بها مؤلَّفاتُ الدكتور داهش، و لا سيَّما قصصه المُلهَمة، و تؤكِّدها تأْكيداً قاطعاً . ومن النافل القول انَّ الإيمانَ بالتقمُّص يقودُنا أَيْضاً إلى الإيمان بخلود النفس و عدمِ فنائها بفناء الجسد.
و فضلاً عن ذلك، فإنَّ التعاليم الداهشيَّة تقول إنَّ قانون التقمُّص يستوجبُه مبدأُ العدالة و الاستحقاق الروحيِّ( أو ما يمكن اختصارُه بمفهوم السببيَّة الروحيَّة) . فمَن يُسفِّلْ سيَّالاتِه باقترافه المعاصي يتقمَّصْ ، حينَ توافيه المنيَّة ، نوعاً من أَنواع المخلوقات و حالةً تجسُّديَّة يستحقُّهما ، أُسوةً بما جاء في القرآن الكريم عن فئةٍ من الناس سفَّلَتْ نفوسَها(أَو سيَّالاتها)، فغضبَ الله، عزَّ و جلَّ، عليها فمسخَها قِرَدَةً و خنازير: ( مَن لعَنَه الله و غضبَ عليه و جعلَ منهم القِرَدةَ و الخنازير...) ( المائدة 60) و عليه ، فإنَّ النوعَ المُتقَمَّص و الحالةَ التجسُّديَّة مرتبطان بالسببيَّة الروحيَّة. و السببيَّة الروحيَّة تشملُ ، في ما تشمل، العدالة الإلهيَّة التي تحاسبُ كلَّ مخلوقٍ بما يستحقُّه بالنسبة إلى أَفعالِه و أَفكاره.
زدْ على ذلك أَنَّ السببيَّة الروحيَّة ترتبطُ ، هي أَيضاً ، بسيَّالات المخلوقات كافَّةً، فتفعلُ فيها و تسبِّبُ لها ما تُسبِّبُه من أُمور و أَحداث، سواءٌ في دَورِ حياةٍ واحدة أَو أَدوارٍ مُتعاقِبة، تبعاً لاختلاف سيَّالاتها و ما بلَغَتْه من مستوياتٍ نفسيَّة، سُمُوًّا أَو انحطاطاً . و هي ( أي السيَّالات) ستبقى أَسيرةَ سجونها المادِّيِّة المُمِلَّة التاعسة ريثما تتحسَنُ تحسُّناً روحيًّا كبيراً ، فتتحرَّر عندئذ كلِّياً من مِحَن تقمُّصاتها المادِّيَّة و آلامِها لتعاود الرجوع إلى عوالم الروح التي انبثقت عنها. و هكذا إذا استطاع القارئُ أَن يستوعبَ، و لو بصورةٍ مُبسَّطةٍ، مفهوم السيَّالات الذي جاءتْ به التعاليمُ الروحيَّة الداهشيَّة، و إذا استطاع أَن يُدرِك ماذا تعني كلمة سيَّالات و إلامَ تُشير الداهشيَّة حينما تتحدَّث عنها و كيف تتَّخذُ السيَّالاتُ الحالاتِ المادِّيَّة الآنيَّة التي تستحقُّها و كيف تعمل و تتحرَّك و تؤثِّر في الأَشياء و الأَحداث- إذا استطاع القارئُ ذلك، فانَّه يكون قد قطعَ شوطاً بعيداً في فهم التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة. و عندئذٍ يَجدُ أَنَّ المبادئَ الداهشيَّة هي في الحقيقة نظامٌ متكامل من القوانين الروحيَّة المترابطة المتجانسة، يتَّصل بعضُها ببعضٍ اتِّصالاً منطقيَّاً وثيقاً . و هي، إلى ذلك ، مبادئُ جميلةٌ غيرُ عسيرةِ الفهم، يعشقُها مَن يفهمُها و يستوعبها.
* * *
و قد يأْخذُ بعضُهم عليَّ استخدامي مُصطَلَحاتٍ لا توافق المعنى الدقيق الذي أَقصدُه ، كاستخدامي كلمة " الوعي الفكريّ" مثلاً ، للدلالة على القوى الفكريَّة الروحيَّة العاقلة في الانسان مما يدعوه الداهشيون بالسيَّالات الفكريَّة القادرة على التسفّل و الرقي الروحيّين. هذه السيَّالات التي يستطيع بواسطتها الإنسان أن يقيّم الأمور و يميّز بين أفعال و رغبات الخير من الشر، و بين الصحيح و الخاطئ من الأمور و الأَشياء و المفيد و الضار من الأعمال. و الحق أني عقدت العزم على استخدامِ كلمة ( الوعي الفكريّ) بعد طول تأمّل و تردّد و استشارة يبرِّر ذلك عندي أن لنشاط القوى النفسيَّة جذوراً أو أصولاً فكرية. أفليست السيَّالات الفكرية هي التي تحرّك المشاعر و الأحاسيس في النفس و تولد الميول و الرغبات و الغرائز السفليّة فيها؟
فمن أين تأتينا الميول و الرغبات و النزعات التي تعتلج فينا؟ و كيف نحدّدها أو نصِفُها؟ و بأيَّة مفاهيم و مقاييس ندركها و نتحكَّم بها؟ أليس أفضل ما نحدّد به تلك الحالات هو الأفكار؟ أليس بالأفكار و بالأفكار وحدها، نستطيع أن نكبح أو نؤجج ما ينتابنا من ميول سفلية كالطمع و الحسد و التكبّر و الكذب و السرقة والنميمة و الاعتداء و ما إليها؟...
و لقد عزَّز اعتمادي ايَّاها أن مؤسِّس الداهشيَّة استخدمها لوصف المشاعر السفليَّة ( السيَّالات السفليَّة) التي تراودنا من حينٍ إلى آخر، فهو يخاطب الباري، عز وجلَّ، في ابتهالاته الخشوعية قائلاً:" أبعد عنَّا الأفكار الدنيئة، و لا تجعلها تقرب منّا ..."
كل هذه الامور تجعلني اقول بان قوى الوعي الفكري أو السيَّالات الفكرية هي السيَّالات الأساسية في الكائنات، و في سموّها و انحطاطها الروحِيَّيْن الفكريَّيْن ، تتنوّع و تتقرّر الأمور و الأشياء(1).
و مما قد يُؤْخَذ عليّ الالتباس الناشئ عن استخدامي كلمة روحيّ او روحيَّة في مواضع مختلفة من الكتاب، والحقيقة ان الالتباس ناشئ عمّا تتَّخِذْه الكلمةُ نفسُها على أقلام الكُتَّاب من معانٍ مختلفة؛ فهي تعني حيناً ما هو سماويٌّ أو عُلويٌّ او سامٍ، و حيناً ما يَنْجُم عن المشيئة الإلهيَّة . و قد تعني الجانبَ الثقافيَّ أو الفكريَّ أو الخُلقيَّ من المجتمع، كما تعني أيضاً الجانبَ النفسيَّ غيرَ المحسوس في الكائنات الحيَّة – و في رأْسِها طبعاً الإنسان. و أَنا ، عندما أَتكلَّمُ ، مثلاً ، على السببيَّة الروحيَّة أَو الأَفكار أَو السيَّالات الروحيَّة، فإِنَّما أَقصدُ هذا المعنى الأَخير، أَي الحالات النفسيَّة و الفكريَّة غيرَ المحسوسة. لا عند الإنسان فحسب بل في الأَشياء أَو الكائنات المادِّيَّة كلِّها، بصرف النظر عمَا سبَّب تلك الحالاتِ: هل هي ناجمةٌ عن مشيئةٍ سماويَّة أَم مشيئةٍ إنسانيَّة؛ و بصرف النظر عن مستوى تلك الأَفكار أَو السيَّالات : هل هي عُلويَّة أَم سُفليَّة. و عليه، فقد جاز القول ، مُجاراة لِما نقلَه الشاعر الداهشيُّ حليم دمُّوس من شروحٍ روحيَّة:؟" الظُّلم سيَّالٌ روحيٌّ درَّاكٌ مريدٌ مسؤول." فقد استُخدِمَتْ كلمة "روحيّ" هنا في وصفِ سيَّالٍ سُفليّ؛ أَو ، في تعبيرٍ آخر، لقد استُخدِمَتْ بمعنىً وجوديٍّ أَو كينونيٍّ ، لا بمعنىً تراتُبيٍّ أَو تقويميٍّ.
أَخيراً ، لا يَسَعُني إِلاَّ أَن أُقدِّم شكري و امتناني إلى الصديق الأديب السيِّد طوني شعشع الذي كان له فضلٌ كبيرٌ في مُثابَرتي على تأْليف هذا الكتاب و في ضبط مقالاته لغوياًّ، الأَمر الذي أَسهمَ في توضيح بعضِ ما كان مُلتبِساً. كما أَشكر كلَّ مَن اهتمَّ بمواضيع هذا الكتاب ، و زوَّدَني بملاحظاته
إهداء
إلى الرجل الذي جدّد إيماني بالله تعالى، و بمراحمه العميمة و طرقه العادلة و رسالاته السماوية
إلى الذي أذكى في نفسي مشاعر الأمل و العزاءَ بعدما كدت أفقد الاطمئنان إلى ما في الحياة من قساوة و مظالم و منغّصات ؛
إلى الرجل الذي حارب الفساد و الشرور و الرذيلة في كلّ أشكالها و انواعها بثبات و عزيمة و عناد؛
إلى الرسالة السماويّة المجيدة التي اتى من اجلها و جاهد واُضطهِد بسببها؛
إلى القِيَم و المبادئ الروحية السامية التي عاش من أجلها و اوقف حياته كلّها عليها
إلى الدكتور داهش أهدي هذا الكتاب.