أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

حليم دموس والأتجاه الروحي

حليم دمّوس والاتّجاه الروحيّ في أدبه

 

 

نجوى سلام براكس

ماجستير في اللغة العربيّة وآدابها

هذه الدراسة حازت صاحبتها بموجبها شهادة الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها من كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة .

 

                                 إهداء

إلى روح حليم السّابحة في بحار العوالم الروحيّة الأبديّة

حيث العدالــــة الإلهيّة تقتصّ مــــن ظُـــــلاّم البشريّــــة

والسّعـــــــادة تسكب من توهّج الأنـــــوار السّرمديّــــــة

 

إلى السَّيَّال الذي اهتدى بالداهشيّة وبنارِ إيمانها التهبا

فاستلّ مرقمه سيفــاً توقّد في سماء الهـــدى كوكبـــــاً

                           تقدير وشكر

تعاقب في الإشراف على هذه الرسالة عدد من الدكاترة ، كان بعضهم – وللأسف – ينكص دونها تهيّباً أو تعصّباً . لكنّني تجلّدت وثابرت وصبرت حتى قيّض الله عزّ وجلّ لي أستاذاً مشرفاً تُختصر الحياة عنده بكلمات ثلاث :" وقفة جرأة وحقّ " هو الدكتور غازي براكس . وما كنت لأنتظر منه ، بعد أن قرن حياته بحياتي ، التساهل في العمل ، بل على العكس ، فإنّ شهرته الصرامة إزاء طُلاّب الماجستير – لما يكلّفهم به من عمل دائب مضنٍ لتخرج دراساتهم على المستوى الأكاديمي الرفيع – جعلتني أتوقّع شهوراً بل سنين من العمل الشاقّ في ظلّ إشرافه . وفي الواقع ، ما كان يرضى عن هذه الدراسة إلاّ بعد أن بذلت في إعدادها حوالي ألفي ساعة . وقد رافقني فيها ، رافعاً مشعل أصغريه ، مضيئاً لي بإرشاداته الثمينة طريق البحث المعتمة . فله عرفاني وعظيم شكراني .

كذلك أتقدّم بخالص الشكر للدكتور وجيه فانوس الذي استقبل رسالتي بالترحاب ومدّني بالنصائح المفيدة ، فكان موقفه جريئاً ومشجّعاً ومشرّفاً ، في حين اعتذر سواه ! وذكّرني موقفه المشرّف بموقف طه حسين القائل :

" يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربيّ وتاريخه أن ننسى عواطفنا القوميّة وكلّ مشخّصاتها ، وأن ننسى عواطفنا الدينيّة وكلّ ما يتّصل بها ، وأن ننسى ما يضادّ هذه العواطف القوميّة والدينيّة ".

                                                              نجوى

                            مقدّمة           

                                                        بقلم نجوى براكس

لقد استهوتني أشعار حليم دمّوس مذ كنت يافعاً ، فاستظهرتها ، ورويتها . وما إن اضطلعت بمهمّة التعليم ، حتى انبريت ، بدوري ، أعلّمها ، لسهولتها وعذوبتها ومعانيها الوطنيّة والروحيّة والإصلاحيّة . وعندما واجهت مسألة تسجيل موضوع لرسالة الماجستير ، لمع اسم الشاعر الداهشيّ في ذاكرتي ، فأدبه الروحيّ لم يتناوله أيّ باحث بجرأة وجدّيّة ومنهجيّة ، وحياته في ظلّ الداهشيّة لم يتصدّ لتفاصيلها أيّ قلم جامعيّ . وهذا الجانب الروحيّ في أدبه وحياته هو الذي أحببته وأكبرته ورأيت فيه دواءً ناجعاً لكثير من أمراضنا النفسيّة والاجتماعية.

وشاءت الأقدار أن تنشب الحرب اللبنانيّة بعد بضعة أشهر من تسجيلي الموضوع ، فازداد حبّي للشاعر وإكباري له ، لأنّ صوته كان صوت الضمير الأنقى في هذا الوطن ، وأدبه كان النذير المدوّي بما سيضرب الشعب من ويلات وأهوال إذا اجتاحته أنواء الصراع الطائفيّ . بين يديّ كان أدب المحبّة التي تجمع الصفوف وتوحّد القلوب وتسمو بها إلى الخالق عزّ وجلّ ، وفي البلاد كان البغض الذي يفرّق الصفوف ويمزّق القلوب ويهبط بها إلى جحيم الشياطين . لولا سنوات الحرب وما جرّته وما تزال تَلِدَه من شقاءٍ ونكباتٍ لما استطعت أن أدرك مدى العمق والسّموّ في فكرِ حليم وأدبه ، ولما انجلت لي حقيقة قيمته العظيمة ، لأنّ الأحداث الرهيبة والظروف القاسية التي عصفت بنا كانت ترجمةً حيّة للرؤى التي حملها شعره نقلاً عن تنبّؤات مؤسّس الداهشيّة .

كانت الدكتورة نبيلة إبراهيم أوّل من أشرف على هذه الرسالة . تحمّست للموضوع ، وشجّعتني، ووافقت على المخطّط الذي أعددته ؛ فلها الشكر . ولكن الحرب الداهمة حالت بيني وبينها ، فغادرت لبنان إلى القاهرة ، وخلّفتني وحيدة .

لكنّني لم أقف ، بل صمّمت على متابعة المسير . فمشيت بتؤدة ، مُقتحمة سدود المصاعب ، متجاوزة حدود المتاعب . وكأنّما كُتب عليّ أن أخترق حصناً منيعاً لم يجرؤ طالب قبلي على اقتحامه .

ورحت طوال السنة الأولى من الأحداث الدامية أتردّد إلى منزل آل حدّاد الكائن في حيّ القنطاري من بيروت ، والذي أصبح مقرّاً للدعوة الداهشيّة . والحقّ يقال إنّني ولجت عالماً جديداً نقيّاً رحباً تجتمع فيه شتّى الملل والنّحل إخوة متحابّين ، متضامنين ، بينما نيران الاقتتال الطائفيّ تتعالى ألسنة لهبها في الخارج ، مُدمّرة ، قاتلة ، مُرمّلة ، مُيتّمة ، وباسم الأديان ، وربّ الأديان ، وأصحاب الأديان ، يُقتل بنو الأديان !

تعرّفت عن كثب إلى مؤسّس الداهشيّة وإخوان الحليم في الإيمان الذين لازموه سحابة خمس عشرة سنة ، فكانوا عائلته الروحيّة التي آثرها على أسرة الرّحم . أصغيت إليهم يتحدّثون عن مُؤرّخ رسالتهم وعن دفاعه المُستميت لنصرتها ، تلك الرسالة التي وقف عليها حياته وقلمه وعقله ولسانه ، رافضاً أن تضطهده ظلماً وجهالة !

وتكرّرت زياراتي للمنزل الداهشيّ ، حيث كانت تفتح لي ، في كلّ زيارة ، الوثائق والمخطوطات ، فضلاً عن الصّحف والمجلاّت التي كانت متوافرة بجميع أنواعها وعشرات الألوف من أعدادها منذ بدء صدورها ؛ لكنّي ، وللأسف ، لم أستطع الإطّلاع عليها بأكملها بسبب نقل المكتبة الداهشيّة الضخمة المُذهلة إلى خارج لبنان . ثم قصدت مكتبة الجامعة الأمريكيّة ، فاطّلعت على جريدة "الأقلام" بطريقة " الميكروفيلم" . كما تسنّى لي الإطّلاع على بعض آثار المرحلة الأولى من حياة حليم من مُخلّفاته المخطوطة المتواضعة في منزله الذي يشغله حاليّا ابنه فؤاد .

وأقولها حقيقة عاريةً : " إنّ رؤيتي عن كثب للدكتور داهش وأتباعه كانت مخالفة لما يشاع عنه وعنهم في الخارج ! فالناس ما عادوه إلاّ لأنّهم جهلوه ، فتناولته ألسنتهم بالمتناقضات والإشاعات والمفتريات ! ولا عجب ، فكلّ حقيقة لا بدّ من أن تشوّه قبل أن تنتصر ويكتب لها الخلود !

وكانت محطّة السلام الأولى لقطار الحرب مع بداية سنة 1977 . ففتحت الجامعة أبوابها ، وعُيّن الدكتور أسامة عانوتي مشرفاً جديداً على رسالتي . وإنّني أقولها بجرأة ودونما مُواربة : لقد ذقت مرارة " الإعنات" في ظلّ إشرافه . فبعد أن اطّلع على مُخطّط بحثي الذي باشرت توسيعه ، بناء على موافقة الدكتورة نبيلة إبراهيم ، أبى التوقيع حتى يوافق عليه رئيس قسم اللغة العربيّة وآدابها الدكتور الشيخ صبحي الصالح .

وأيم الحقّ ، لقد صدمني موقفه ! فأين الجرأة الأدبيّة التي يجب أن يتحلّى بها أساتذة الجامعات؟! وما علاقة رؤساء الأقسام والإدارات بالموافقة على موضوعات الرسائل ومخطّطاتها وهي ، في العرف الأكّاديمي العالميّ ، من صلاحيّات الأساتذة المشرفين عليها فقط (1)؟!

حملت مُخطّط رسالتي وقصدت رئيس القسم ، فما إن ألقى نظرةً عليه حتى صرخ "الداهشيّة"؟! لا ، لن يُسجّل هذا الموضوع في قسم الأدب العربيّ ؛ سجّليه في فرع الفلسفة !"

أدركت فوراً أنّه إنّما قال ذلك من أجل إعناتي وإحراجي وتغيير موضوعي . فأجبته :" وكيف يكون ذلك والاختصاص يجب أن يكون متكاملاً مع شهادة الإجازة ؛ وإجازتي هي في الأدب العربيّ وليست في الفلسفة ؟ ثم إنّني سأعالج موضوع الداهشيّة معالجة أدبيّة من خلال إنتاج حليم الأدبيّ ، وحليم دمّوس شاعر مشهور وليس فيلسوفاً ". فأردف قائلاً :" هناك من يعتبر الدكتور داهش Charlatan ومن يعتبره نبيّاً ! فيكف نوفّق بين هذا وذاك ؟" أجبته :" جميع الأنبياء والمُصلحين والهُداة والعُظماء لهم أنصار ومحبّون ولهم أيضاً أعداءُ ومبغضون ! فحقيقة الشخص لا تحدّدها مواقف الناس منه . وهل حرّمت الجامعات دراسة المتنبّي ، لأنّ فريقاً من الناس زعم أنّه ادّعى النبوءة ؟ ثم ما يهمّ كلّ ذلك إذا كانت الدراسة منهجيّة علميّة ؟"

وكان جدال طويل ... وكانت زيارات متكرّرة ... أخيراً ، بعد جهد جهيد ، ألزمني بأن أغيّر مُخطّطي الأوّل الذي صدّقت عليه الدكتور نبيلة إبراهيم ، وأعيد كتابة بحثي .

من هنا بدأ يُستضام في حرم جامعة وطنيّة ؛ لكنّي تجلّدت وصبرت ، فاختصرت التصميم الذي سأبني عليه صورة الحليم الداهشيّ . وشعرت أنّ الأستاذ المُشرف ، أصبح أشرافه مُجرّد صورة ، وأنّ سياسة الأمر الواقع فرضت عليّ أن أتعامل مع الشيخ الصالح . لكنّ الشيخ لم يكتف بذلك ، بل تناول قلمه وشطب كلمات "الداهشيّة" ، و"الرسالة" وكلّ ما يستشفّ منه معنى "العقيدة الروحيّة " و"الهداية" وهي المحاور الضروريّة التي ستقوم عليها رسالتي الجامعيّة ، ثم ... وقّع إمضاءه بتاريخ 1/7/1977 . إذ ذاك أسرع الأستاذ المُشرف إلى المُوافقة على المُخطّط !

وهكذا غدت رسالتي ، وأنا معها ، كطائر قُصَّ جناحاه ، ثمّ سُجن في قفصٍ التزمّت والأغراض غير الأكاديميّة ؛ ومع ذلك أوعز إليه بأن يطير !

حاولت أن أطير بدون جناحين ، لكنّي عجزت عن ذلك . فالدكتور عانوتي طلبَ إليّ أن أتحدّث عن شعر حليم دمّوس الداهشيّ من دون أن أتحدّث عن الدكتور داهش ، وأن أبحث في أدب حليم الداهشيّ من غير أن أتكلّم على الداهشيّة بأكثر من أربعة أسطر !

هذا مع العلم أنّ الدكتور أسامة تعرّف إلى مؤسّس الداهشيّة ، وعقدت له جلسة روحيّة اجترحت خلالها الخوارق والمُعجزات الدامغة ؛ وقد ألّفَّ حموه الشيخ العلاّمة عبد الله العلايلي كتاباً في مؤسّس الداهشيّة عنوانه " كيف عرفت الدكتور داهش "(2).

وقد تبيّن لي ، بعد تعمّقي في درس آثار الحليم ، أنّ "الاتّجاه الروحيّ في أدبه" لا يمكن ، على الإطلاق ، مُعالجته بدون التوضيح الكافي للداهشيّة ، لأنّ معظم ما كتبه بعد اعتناقه هذه العقيدة الروحيّة يتمحّور حولها ، وكذلك يستحيل أن نتحدّث عن الداهشيّة بدون الكلام على الدكتور داهش ، إذ هو مؤسّسها وحامل لوائها ، وتأثيرها الشخصيّ جدّ بارز في أدب حليم دمّوس ؛ فضلاً عن أنّ الشاعر لازمه خمس عشرة سنة ، جنّد في خلالها قلمه للتبشير بمبادئه ، وللمنافحة عنه ، وعانى السّجن والاضطهاد من أجله .

ثمّ كيف تقبل أستاذة جامعيّة مُخطّطاً وتصدّق عليه مُرحّبة بموضوعه البكر ، ثم يأتي آخر فيحذف ما شاء له الحذف ممّا وافقت عليه ؟! فوالحالة هذه أين النهج الأكاديمي المُوحّد ؟ وأين المبدأ الذي يسير عليه الأساتذة ؟ بل أين الجرأة الأدبيّة الصادعة بالكلمة الحقّانيّة ؟

فالجامعات يجب أن تكون المهد الذي تولد فيه الحقائق وتنمو وتحتضن ، لتصدّر بفخرٍ واعتزازٍ إلى العالم أجمع . ويجب أن تُصان فيها الحريّات المُقدّسة التي هي هبة المنّان للإنسان ، وأن يُطلق فيها العنان لشتّى الآراء والأفكار والمُعتقدات ، شرط أن تُعالج بمنهجيّة أكاديميّة موضوعيّة لا تُراعي العواطف والأهواء الدينيّة أو السياسيّة أو الشخصيّة ....

فإذا فقدت الجامعات مرتكزاتها الأكاديميّة القائمة على البحث المنهجيّ ، وعلى الحريّة ونشدان الحقيقة ، فقدت شرف رسالتها النيّر ، وتحوّلت إلى شبه معاقل وسجون تُنفى إلى غياهبها الكلمة الجريئة وتُستعبدُ فيها الحريّات ، ثم ... تدرّ على نفسها الويلات والنكبات !

وإذا كانت مثل هذه الجامعات الوطنيّة وسيلةً لطمس أنوار الحقائق ، ألا فالسلام على البلاد الجائرة السائرة نحو الذبول والغائرة في ضبابِ الأفول .

ولست أدري لماذا تخاف الجامعات في لبنان موضوع الداهشيّة الذي اقتحم جامعات أمريكا وأوروبا . تُرى ، ألأنّ الداهشيّة دعوة روحيّة شاءت العناية الإلهيّة أن يكون منبعها لبنان ؟! وأن يتفرّد بها هذا البلد عن سائر البلدان ؟ حقّاً ، لا كرامة لنبيّ في وطنه ، ولا مسند لرسالةٍ روحيّة في مسقطِ رأسها !

إنّ جون ستيورت مل الهادر صوته بقدسيّة الحريّة وضرورة صونها ، يعلن أنّه لو ظهر امرؤ ينادي بأنّه اكتشف أنّ في الحجر إلها ، وأنه سيدعو إلى عبادة الحجر ، ثم تألّب الناس ضدّه ليمنعوه عن التصريح برأيه ، لتوجّب على الحكومة العادلة أن تحميه وتصون حريّته في الجهر بعقيدته ، ولو كلّفها ذلك سجن شعب بأكمله ، لأنّه من يدري بأنّ المستقبل لا يكشف عن أنّ مزاعم ذلك الرجل تحمل نواةً حقيقيّة قد تفيد البشريّة كلّها !

والحقُّ يُقال إنّني أضعت سنوات وأنا أتأرجح بين هذا وذاك ، فما حدث معي لا أتمنّاه لطالب جامعيّ ، ولا تُغبط عليه جامعة حريصة على أن تصون مستواها الأكاديمي بعيداً عن الأهواء والأغراض غير الأكاديميّة .

وكأنّما أراد الله تعالى أن يكافئني على صبري وثباتي ، فقيّض لي الدكتور غازي براكس ، المعروف بجرأته ومنهجيّته الصارمة ، مُشرفاً جديداً في أواخر 1981، فنشطت الدراسة بسرعة ، وشعرت معه أنني أبني على أرض صخريّة يعلو عليها البناء فلا تزعزعه الأواء والأهواء .

وما إن أنجزت رسالتي وتدبّرها القارئ الثاني الدكتور وجيه فانوس برويّة وموضوعيّة ، حتى أُعجب بها وهنّأني ، وطلب إليّ أن أزيد الداهشيّة إيضاحاً . فشتّان ما بين الناس !

وها أنذا فخورة بالكنوز التي نبشتها بمعولِ الدأب والتعب ؛ أقدّمها للقارئ ثمرة طيّبة من دوحة الداهشيّة التي كان حليم دمّوس غصناً من خير أغصانها .

                                                                       نجوى سلام براكس

                                                               بيروت ، مطلع آب 1983

 

                           توطئة

مُبَرِّرُ الدراسة

قليلون من الأحداث لم يستظهروا لحليم دمّوس ، على مقاعد الدراسة ، قصائد في حبّ الوطن ، واستنهاض الهمَمْ ، وتمجيد اللغة العربيّة ، وحنان الأمّ ، وتهذيب النفس الخ ....

وأنا ، إذ كنت طريّة العود ، استهوتني أشعاره الرقيقة السهلة العذبة ، فحفظت كثيراً منها . وهكذا تأصّل حبّه في نفسي ، حتى إذا ما كبرت واضطلعت بمهمّة التعليم ، رحت أعلّم ، بدوري ، قصائد الحليم . فهو بحقّ ، شاعر الناشئة الأوّل في لبنان . وبصفته هذه ذاع اسمه في المعاهد والأندية والجمعيّات في الثّلث الأولّ من هذا القرن (3).

لكنّ لحليم جانباً شعريّاً آخر طغى على شخصيّته في المحافل الأدبيّة حتى سنة 1942، وهو الجانب الاتّباعيّ الذي برز في قصائد المدح والرثاء ، وسائر شعر المناسبات والمجاملات ، فغضّ من قيمته الإبداعيّة ، لا سيّما أنّ النزعات القوميّة والوجدانيّة كانت تشتدّ في الشعر العربيّ ، وأنّ المذاهب الأدبيّة الحديثة من رومنسيّة ورمزيّة وغيرهما أخذت تظهر ملامحها على أقلام الأدباء .

لكن ، في حين أنّ حليم دمّوس تحوّل سنة 1942 إلى منعطفٍ جديد في حياته وأدبه ، فانتقل من الماديّة إلى الروحانيّة ، ومن شعر التكسّب إلى شعر الهداية ، فاكتسب إنتاجه الجديد بُعداً خطيراً وقيمةً جُلّى ، فإنّ دارسيه ظلّوا واقفين عند حدود سنة 1942 ، فما تجاوزوها ، وبقيت أحكامهم على الشاعر تُرسل مقصورةً على عهده الأوّل مُتجاهلين عن عمدٍ أو عن عَجزٍ أهميّة إنتاجه في عهده الروحيّ .

وقد يُردُّ تجاهلهم إلى تخوّفهم من الغوصِ في العقيدة الروحيّة الجديدة التي اعتنقها حليم دمّوس ، وهي الداهشيّة ، إذ اكتنفتها الأسرار ، ورافقت ظهورها وانتشارها الخضّات الدينيّة والسياسيّة ، فارتدّ الدارسون عنها هيّابين . لكنّني أقدمت من حيث أحجموا ولم أكن بنادمة . فقد اكتشفت عالماً جذّاباً ، ونبشت كنزاً ثميناً كان مدفونا .

وإذا كانت قيمة الأدب ، على الصعيد الإنسانيّ ، لا بدّ من أن تعظُم بقدر ما تزداد حاجة الأمّة إلى صوته ، إذ إنّ المشعل الذي يحمله يحتاج شعبه إليه أكثر عندما يخوض في الظلمات ، فإنّ حليم دمّوس – أديب الهداية الروحيّة والوحدة الدينيّة والأُخوّة الوطنيّة والمحبّة الإنسانيّة – لا بدّ من أن يعلو شأنه اليوم وتمسّ الحاجة إلى دراسته ، لا سيّما في بلد تناهشته الفتن والأحقاد ، وتقاسمته النعرات والعصبيّات ، وجعلت حكمه فوضى ، وشعبه شراذم ، وعمرانه خراباً ، ومصيره على فوهة بركان .

قال الأديب لبيب الرياشي في حليم ، في الثلاثينات :

" لو كنت أُسقفاً أو رئيس كنيسة أو شيخ دين ، لأسميتك (شاعر الكنيسة ) أو (شاعر الجامع) ، ورسمت أشعارك في ذاكرات النّشء " (4).

وإنّما قال ذلك ، لأنّ حليم – وهو المسيحيّ – كان يدخل الجوامع ، مُلقياً القصائد الروحيّة والوطنيّة ، مُبشّراً بوحدةِ الأديان ، ومُنادياً بالإخاء الإنسانيّ ، بدافعٍ من أصالته الروحيّة ، قبل أن يعتنق العقيدة الداهشيّة ، ويتفرّغ لدعوة المحبّة والوحدة الدينيّة . وإن صحّ كلام الرياشي في حليم – وهو يخوض حياته الماديّة – فالأحرى أن يصحّ فيه ، وأن يُسمّى "شاعر الروح والهدى والمحبّة"، وهو يحيا في ظلال الروحانيّة .

قال الدكتور غازي براكس في المهرجان التكريميّ الذي أقيم لحليم في زحلة بتاريخ الثاني من تشرين الأوّل سنة 1966:

" ظُلمٌ وأيّ ظلم أن لا يعرفَ الناس في حليم دمّوس ، بعد تسع سنوات من خلعه ثوب التراب ، إلاّ شاعر مدح وتعزيةٍ وتهنئة ، شاعر مُجاملات ومُناسبات ، ذاك هو الوجه الهزيل الزائل من الحليم الذي ولده لبنان التجارة. حليم الذي يخلّد ويُكرّم هو الذي ولدته ، ذات يوم ، لا مشيئة اللحم والدم ، بل مشيئة الرُّوح ، مشيئة لبنان الرسالة (5).

وقال الدكتور محسن جمال الدين الأديب العراقيّ ، وأحد أساتذة الأدب العربيّ في جامعة بغداد:" إنّ هذا الشاعر كان مظلوماً حيّاً وميّتاً ، منسيّاً في وطنه الذي أحبّه ، مُهملاً في دراسات الجامعات العربيّة ومدارس العالم العربيّ "(6).

يُستنتج من القولين أنّ دراسة حليم دمّوس بصورة عامّة قد تكون ضرورة أدبيّة ، وأنّ دراسته في عهده الروحيّ لها الأفضليّة . وهذا ما اعتزمته هذه الرسالة . ذلك بأنّ الأبحاث التي كُتبت فيه لا تعدو أن تكون مقالات وجيزة تناولت نُبَذاً من حياته ، أو أرسلت أحكاماّ سريعة في أدبه، وخصوصاً الذي وضعه قبل سنة 1942 ، باستثناء دراسة جامعيّة أعدّها رضوان وديع أبو فيصل ، عنوانها "حليم دمّوس : حياته وآثاره"، وقد وضعها لإنجاز مُقرّرات شهادة الكفاءة في اللغة العربيّة وآدابها ، بإشراف الدكتور كمال اليازجي ، وذلك في كليّة التربية بالجامعة اللبنانيّة سنة 1979.

تقع هذه الرسالة في 161 صفحة ، يشغل المُلحق منها – وهو يضمّ منتخبات من شعر دمّوس العائد إلى المرحلة الأولى من حياته – ثلاثين صفحة . وتنطوي الدراسة على ثلاثة فصول ، تناولت الباحث في الأوّل منها مراحل حياة الشاعر ، عارضاً أحداثها عرضاً سريعاً في مقطّع السياق ، مارّاً على الداهشيّة مروراً خاطفاً لم يستغرق سوى بضعة أسطر ، مع أنّ هذه العقيدة الروحيّة استأثرت بكلّ اهتمامه ، وشغلته عملاً وكتابةً سحابةَ خمسة عشر عاماً .

ومع أنّه جعل عنوان رسالته يتضمّن حياة حليم دمّوس وآثاره ، فقد أهمل دراسة شخصيّته ، أما آثاره فقد عرضها عرضاً سريعاً هو أقرب إلى التعداد منه إلى التعريف ، باستثناء "قاموس العوامّ" الذي عرّف به في سياق حديثه عن نشاط حليم اللغوي ، و"في سبيل التاج "، و"من أناشيد الملحمة العربيّة الكبرى " اللذين عرّف بهما في أثناء معالجته القصص المُترجم والقصص الملحميّ .

وعلى تأكيده أنه أورد "أسماء جميع آثاره المطبوعة وغير المنشورة "(7)، فقد غفلَ عن ذكر عدد غير قليل من مؤلّفات الشاعر المطبوعة أو التي ما تزال مخطوطة والعائدة إلى مرحلتي حياته . ويبدو أنّه تنبّه لهذا الأمر ، فاعترف قائلاً في خاتمة دراسته : "هنالك الكثير الكثير من الأمور التي لم أستطع التعرّف إليها ، لا تقصيراً ، وإنّما نتيجة لعدم توفّر كامل نتاج الحليم ، وخاصّة المقدّمات التي قدّم بها كتب داهش وما نظمه ، وكان نثراً ، من الكتبِ التي تتعلّق بالداهشيّة (8)؛ وهو تبرير غير كافٍ ، ولا مُقنع .

أما الفصل الثاني فقد تناول فيه شعر دمّوس وشاعريّته . فعرض ، أوّلاً ، نزعاته التقليديّة ، والوجدانيّة ، والملحميّة ، والداهشيّة التي خصّها بصفحةٍ واحدة ، ثم درس أسلوبه وخصائصه حسبما تمثّلت في شعره العائد إلى ما قبل اعتناقه الداهشيّة ، بالدرجة الأولى .

أمّا الفصل الثالث فقد عرض فيه أغراض حليم الشعريّة ، معرّجاً إلى المنحى التأمّلي الروحانيّ في بضع صفحات .

وخير ما توصف به دراسة أبي فيصل قوله فيها إنّها :" إنارة بسيطة لحياة رجل أعطى كثيراً وجاهد أكثر من سبيل بلاده "(9).

ميزة الدراسة وخطّتها

تطمح هذه الدراسة ، أوّلاً ، إلى تقصّي حياة حليم دمّوس ، في معالمها ودقائقها ، من المهدِ إلى اللحد ، تقصّياً موضوعياً منهجيّاً ، فلا تدع أيّ وجه ذي بال من وجوه حياته إلاّ تقف عنده ، فتنعم النظر في أسرته ، ودراسته ، وهجرته ، وزواجه ، وسجنه ، وفجيعته بابنه ، وفي خوضه الحياة العمليّة ، مُنضوياً تحت لواء الصحافة ومُنخرطاً في سلك الجمعيّات .

وإنه لمن العدل القول إنّ تفصيل البحث في حياة حليم دمّوس ، بعد اعتناقه العقيدة الروحيّة الداهشيّة ، لمن أعسر الأمور وأشقّ المهمّات ، لما يحتاج إليه من وثائق ومخطوطات ومقابلات دونها خرط القتاد .

وهذا القطاع الروحيّ من حياته ، إن ألمع إليه بعض الباحثين ، فإنّ أحداً ، من قبل ، لم يقتحم حصنه ويرفع الحُجب عن هيكله ، إمّا حذراً أو تهيّباً ، للغموض الذي أحاط بشخصِ مؤسّس الداهشيّة ، وللضجّة العظمى التي أثارها وما يزال يثيرها في الأوساط جميعها ، علماً بأنّ قطاع حليم الحياتيّ هذا هو الأخصب والأعمق والأبلغ تأثيراً في شخصيّته وأدبه ، حسبما سيتضح من سياق هذه الدراسة .

وترمي هذه الرسالة ، ثانياً ، إلى دراسة شخصيّة الشاعر الزحليّ دراسة لا تستند إلى ركام اتّفاقيّ من الوقائع أو الشواهد التاريخيّة السطحيّة ، بل تعتمد القواعد السيكولوجيّة ، فتفصّل الكلام على سماته النفسيّة الثابتة المتمثّلة في قدراته واستعداداته كما في سماته المزاجيّة وسماته الأسلوبيّة ، ثم تخوض في الحديث عن سماته النفسيّة المتطوّرة وفق تطوّر مثلها العليا من الماسونيّة إلى الداهشيّة ، شاملة مكوّنات شخصيّته الإرثيّة والاكتسابيّة ، ومقوّماتها الثقافيّة .

ويستهدف هذا البحث ، ثالثاً ، عرضاً شاملاً لآثار الحليم مطبوعة ومخطوطة ، في عهديه . ولن يكتفي هذا العرض بذكر عناوين مؤلّفاته ، بل سيكون له جولة سريعة في مضمون كلّ منها ورأي في أهمّها .

وبهذه الفصول الثلاثة تتّضح خطوط حياته وشخصيّته وآثاره ، ويقفل الباب الأوّل من هذه الرسالة .

أما الباب الثاني منها فيهدف إلى دراسة الأتّجاه الروحيّ في أدب الحليم ، وهو الذي ساد المرحلة الثانية من حياته (1942-1957). وقد تمثّل بإيمانه بالعقيدة الداهشيّة وما أوحت إليه من مُثُل عُلّيا وقيم مثلى ومواقف وآراء في شعره ونثره . وهذه العقيدة ، إن التقت الأديان والفلسفات في كثير من موقفها ، فهي تبقى دعوةً روحيّة قائمة بذاتها . وتأثّر حليم بها هو تأثّر مباشر لا يمكن أن يردّ إلى حركات روحيّة أو شبه روحيّة سابقة لها في الزمن ، ولا سيّما التصوّف والإسماعيلية أو البوذيّة أو غيرها .

وقد انبسط البحث في هذا الباب على ثلاثة فصول :

تناول أوّلها جذور الاتّجاه الروحيّ في أدبه ؛ ذلك بأنّ الحياة وإن توزّعتها المراحل ، يبقى فيها خطّ جوهريّ يوحّدها .

وتناول الفصل الثاني محاور أدبه الروحيّ الداهشيّ ، في أربعة أقسام : قسم يتناول شخص مؤسّس الداهشيّة وكيفيّة تجلّيه – بقيمه العليا وميزاته الفريدة وأعماله الخارقة ، ثم اضطهاده ومصرعه – في شعر حليم ونثره .

وقسم ثان يتناول ما استتبع اعتناق الشاعر العقيدة الروحيّة الجديدة من سجنه وحملته على الظالمين والمتخاذلين .

وقسم ثالث تناول العقيدة الداهشيّة نفسها التي أصبحت أهمّ محور في أدبه . فكان لا بدّ من إفاضة الكلام على خصائصها وآثارها المتجلّية في شعره ونثره ، ومن أهمّها ما تميّزت به من دعوة إلى العودة إلى الروحانيّة الدينيّة الحقيقيّة ، وممارسة الحياة الفاضلة ، ومناداة بتوحيد الأديان ، والإيمان بالتقمّص ، وحضّ على إصلاح وطنيّ وإنسانيّ انطلاقاً من إصلاح الفرد لنفسه .

وقسم رابع خُصّص للدراسات الوجيزة التي عقدها حليم دمّوس على أدب الدكتور داهش ، وهي عبارة من مقدّمات لعدد من كتبه ، فكشفت عن مضامينها وميزاتها .

أما الفصل الثالث والأخير فقد عالجت فيه الصياغة الفنيّة في أدب حليم الروحيّ . فأظهرت فيه معالم الكلاسيكيّة ، وومضات الرومنسيّة ، كما كانت لي وقفة عند خاصّة السخرية في بعض كتاباته ، وعند خاصّة أخرى برّز بها وكاد يتفرّد ، وهي تحويل النثر إلى نظم ، وقد استنفدت منه جهداً عظيماً ، إذ حوّل الكثير الكثير من كتابات مؤسّس الداهشيّة النثريّة إلى شعر .

مصادر الدراسة

لقد اعتمدت في دراستي ، على المصادر التالية :

أ‌-       معظم آثار الحليم المطبوعة والمخطوطة ، والتي ستُذكر مفصّلاً في فصل آثاره .

ب‌-  عدد من المقالات والقصائد المنشورة في الصّحف (10).

ج- طائفة من المقدّمات تصدّرت عدداً من الكتب التي وضعها الدكتور داهش .

د- بعض القطع النثريّة للدكتور داهش عقدها الحليم شعراً ؛ علماً بأنّ مُعظم ما ألّفه مؤسّس الداهشيّة ، قبل وفاة حليم – وهو كثير – حوّله الشاعر الزحليّ إلى شعرٍ منظوم ، ولكنّنا لم نتمكّن من دراسته بمجمله ، لوجوده في المكتبة الداهشيّة (11)التي نُقلت في أوائل الأحداث الدامية الأخيرة إلى خارج لبنان .

ه- مقابلات شخصيّة مع شهود لازموه حوالى خمس عشرة سنة ، إذ أصبحوا أسرته الجديدة، ومستودع أسراره ، وهم إخوانه في العقيدة الداهشيّة ؛ منهم الأديبتان ماري حدّاد وابنتها زينا ، والدكتور جورج خبصا وفريد أبو سليمان والأديب جوزيف حجّار (12). فقد كانوا يتساكنون في منزل واحد (منزل آل حدّاد) ، فعرفوا عاداته وأخلاقه ووقائع حياته .

كذلك اجتمعت بابنه فؤاد ، لكنّه للأسف – لم يفدني بشيء جدير بالذكر ، عدا بعض مخطوطات الحليم التي خلّفها في منزله ، وهي تعود إلى عهده الأوّل .

                                          الباب الأوّل

حياة حليم دمّوس

 شخصيّته

   آثاره

                                      الفصل الأوّل

                                         حياته

                                         أوّلاً :

                                   حياته في العهد الأوّل

                                   (1888-1942)

أ- أسرته:

ولد حليم بن إبراهيم بن جرجس دمّوس في زحلة عاصمة البقاع وعروس المدن اللبنانيّة ، في شهر أيّار ، سنة 1888.

تنتمي أسرتا والديه إلى آل عيسى المتحدّرين من بني غسّان ، وقد نزحتا من الكرك إلى ضهر الأحمر من حوالى ثلاثة أجيال ونصف ، فإلى زحلة من نحو مئتي سنة (13).

وكان آل دمّوس – استناداً إلى قول فؤاد حليم دمّوس (14)- يحمون أملاك آل حرفوش ويعتنون بها (15)، فينالون أجرهم قطعاً من الأراضي . وكان نصيب إبراهيم دمّوس (1844-1921) أرضاً في مجدلون (16).

كان إبراهيم – حسبما يظهره حليم – قنوعاً – يعيش من موارد الأرض ومساعدات أبنائه في البرازيل . كما كان حميد الأخلاق ، يحرص على الإخلاص في مودّته ، والتسامح مع الناس ، ويميل إلى التنكّب عن زخارف الدنيا وبهارجها (17).

ويبدو أنّه كان شاعراً ينظم باللهجة الشعبيّة (قوّال معنّى) ، ومن مؤسّسي جمعيّة بزوغ شمس الإحسان (18).

أمّا أمّ حليم سيّدة نعمة عبّود (توفيت سنة 1940) فكانت مُلمّة بالقراءة إلماماً قليلاً ، ولكنّها تروي الشعر والأناشيد القوميّة (19).

ورزق الله إبراهيم أربعة أنجال هم : حليم وفارس ومخايل وجورج (20)، وابنتين هما سليمة ونجلا .

ت‌-   التلميذ النابه :

تعلّم حليم دمّوس ، على نحو ما ذكر جرجي باز (21) بزحلة في المدرسة الأميركيّة ، فمدرسة الروم الأرثوذكس ، فالكليّة الشرقيّة التي تابع دراسته فيها حتى سنة 1904 (22). من أساتذته : بولس الكفوري ، جرجس همّام ، بطرس مختارة ، عيسى المعلوف ، إبراهيم غزالة ، وفي الخطّ نجيب هواويني .

وقد نال الشهادة على عهد الأستاذ بولس الكفوري الذي بعث إليه حليم دمّوس من البرازيل في 15 نيسان 1906 بقصيدة "من وراء البحار" ، وقد جعلها تتصدّر ديوانه ، مع أنّها القصيدة الثانية من حيث تاريخ نظمها ، ومطلعها :

أرض الأحبّة ما أبهى مغانيها                 وما أُحيلى زماناً لي مضى فيها

إلى أن يذكر مدرسته وفضلها عليه :

معاذ ربّي أن أنسى عوارفها                 وإن نأيت فبالذكرى أُناجيها (23)

وقد عُرف ، بأثناء دراسته في الكلّية الشرقيّة ، بنباهته وانفتاحه على النقد ، ومُطالعة الصّحف .

جاء في رسالة بعث بها الشيخ إبراهيم اليازجي (1847-1906) من القاهرة بتاريخ 14/6/1905، إلى الأستاذ بولس الكفوري ، وكان يومذاك رئيس الكلّية الشرقيّة في زحلة :

"....قد وقفت على ما انتقده أحد تلامذتكم النجباء حليم أفندي دمّوس على ما مرّ في بعض أجزاء الضياء ، فسرّني ذلك غاية السرور ، أكثر الله من أمثاله عندكم . غير أنّ كلّ ما ذكره وارد في كلام مكاتبي الضياء ، وليس كلّ من كاتب الضياء يجوز لي أن أبدّل في كلامه ، ومع ذلك فرقعته راجعة وعليها جواب لبعض ما انتقده . وفي الختام أرفع إلى حضرتكم واجب احترامي ؛ وأطال الله تعالى بقاءك "(24).

وإليك ما قاله جرجس همّام في تلميذه الحليم :

" نعلم من أيّام تخرّجكم في المدرسة أنّكم امتزتم عن أقرانكم قبل سنّ التمييز . وحام خاطركم وقتئذٍ على صوغ القريض ، فجاش صدركم وفاضت قريحتكم به مراراً (25).

أمّا تكوين حليم الثقافي فسأفصّل الكلام عليه في أثناء دراستي لشخصيّته ، في الفصل الثاني من هذا الباب .

ث‌-   حليم في البرازيل :

هاجر حليم في السابعة عشرة من عمره إلى البرازيل ليلتحق بأخوته ، وكانت هجرته في تشرين الثاني عام 1905 إلى كورومبا عاصمة ولاية ماتوغروسو (26).

وفي الباخرة التي أقلّته إلى البرازيل نظم أولى قصائده المنشورة ، وعنوانها : "من بحرٍ إلى بحرٍ في بحر"(27).

في البرازيل تعلّم اللغة البرتغاليّة فترجم بعض أشعار كازمير دي أبراو إلى العربيّة ، ونشر قسماً منها ومن منظوماته العربيّة في صحف الوطن والمهجر (28).

وأولى قصائده المنشورة والمنظومة في المهجر عنوانها "لبنان"؛ وقد كان عمره عندما نظمها ثماني عشرة سنة ، وهي تفيض بالشوق إلى وطنه وأحبابه ؛ ومطلع هذه القصيدة :

ذكر الأحبّـــة والغـــرام               فبكى كمــا يبكي الغـلام

إلى أن يأتي ذكر "هيفاء" فيقول :

فإذا جرت في خاطـري                 جرت المدامع بانسجام(29).

ولعلّ من آثار هجرته في أدبه مقارناته – في بعض قصائده – بين الشرق والغرب (30).

وقد أسّس حليم في كورومبا جمعيّة أدبيّة (31).

لكن يبدو أنّ شاعر البردونيّ لم تستهوه البرازيل (32)؛ بل كانت عاطفته الوطنيّة (33)وحنينه إلى زحله والأهل والأصدقاء ، وشوقه إلى لغة الضاد ، تعجّل في رجوعه إلى لبنان .

وقد مرّ في طريق عودته ، ببونس إيرس – الأرجنتين ، في حزيران 1908 (34)، فنزل مدّة وجيزة عند ابني عمّه نايف وجورج (35).

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.