العلاَّمة الشيخ عبد الله العَلايلي
( 1914 – 1996 )
وُلد الشيخ عبد الله العَلايلي في بيروت عام 1914 ، وإنتسب إلى مدرسة المقاصد الإسلاميَّة في العام 1920 . وفي العاشرة من عمره سافر إلى القاهرة لدراسة الشريعة الإسلاميَّة في جامعة الأَزهر . ثمَّ التَحقَ بجامعة فؤاد الأَوَّل لدارسة الحقوق ، وتخرَّج منها في أَواخر الثلاثينيَّات .
أَصدرَ في القاهرة ، عام 1938 ، كتاباً بعنوان " مقدِّمة لدرس لغة العرب " ، أَثار ضجَّةً في الأَوساط الثقافيَّة المصريَّة ، وتناولتْه الصحف بين مؤيِّد ومُندِّد . وبعد عودته إلى بيروت عام 1940 بادر إلى إصدار سلسلة " إنِّي أَتَّهِم "، انتقدَ فيها الأَوضاعَ السياسيَّة والإداريَّة في عهد الانتداب . ومع انبعاث فكرة القوميَّة العربيَّة ونشوء الحركات القوميَّة ، أَصدرَ ، عام 1941 ، " دستور العرب القوميّ " ، ومن خلاله خاض غمار السياسة بوجهَيها النظريِّ والعمليِّ ، فأَسهمَ في النشاط السياسيِّ بفعَّاليَّةٍ وقوَّةٍ حتَّى أُطلِقَ عليه لقبَ " الشيخ الأَحمر " .
إلاَّ أَنَّه عاد إلى الإهتمام بالشأْن اللغويِّ فأَصدر أَربعة أَجزاء من " المعجم الكبير " الذي كان مقدَّراً له ، لو أُنجِزَ بكامله ، أَن يسدَّ فراغاً كبيراً في مجال المعاجم العربيَّة . كذلك اشتغل العلايلي – يُعاونه آخرون – بوَضع " المعجم العسكريّ " .
وبالرغم من إنشغاله المزدوج بالشأْنَين اللغويِّ والسياسيِّ ، فقد عمل العلايلي على وضعِ مؤلَّفات " سِيَر أَعلام الإسلام " على نحو ما جرى عليه العقَّاد وهَيكل وطَه حسين . صدر منها : " تاريخ الحسن " عام 1940 ، و "مَثلهُنَّ الأَعلى السيِّدة خديجة " عام 1947 ، و" أَيَّام الحسين " عام 1948 ، إضافةً إلى كتاب " أَين الخطأ " الذي مُنِعَ من التداول لإحتوائه اجتهاداتٍ فقهيَّة جريئة . وفي العام 1944 ، أَصدرَ " المعرِّي ذلك المجهول " مُحاولاً دراسة ألمعرِّي وِفقَ نهجٍ جديدٍ قائمٍ على التحليل اللغويِّ واستِكناه الرموز . وللعلايلي مقالات عديدة متفرقَّة في مختلف الصحف والمجلاَّت لم يُعمل على جمعِها حتَّى الآن .
وثمَّةَ جانبٌ آخَر من اهتمامات الشيخ عبد الله العلايلي لم تُسلَّط عليه أَضواء كافية ، هو الجانب الداهشيّ . ففي العام 1942 ، تعرَّف العَلايلي بالدكتور داهش فرأَى فيه صديقاً " لصداقته طَعم الصِّدق ، وفي كتاباته أَدباً فوق الأَدب ..." وقد انعكس هذا الإعجاب بالدكتور داهش والداهشيَّة لدى العلايلي مواقفَ جريئةً في امتداح المبادىء الداهشيَّة والدفاع عن الدكتور داهش في أَكثر من مناسبة ، كردِّه العنيف على جريدة " البشير " اليسوعيَّة عام 1942 ، عندما شنَّت حملتَها الافترائيَّة على الدكتور داهش ، وكلمة الحقِّ التي أَطلقها في وجه الرئيس اللبنانيّ الأَسبَق ، بشاره الخوري ، في رسالته التاريخيَّة التي دافع فيها عن الدكتور داهش وندَّد بحملات الاضطهاد التي تُشَنُّ عليه .
وحين تناهَت إليه أَنباءُ مصرع الدكتور داهش في أَذربيجان عام 1947، رَثاهُ بكلمةٍ شُجاعةٍ مؤثِّرة ، يوم كان مجرَّد التلفُّظ بإسم الدكتور داهش يقود إلى غياهب السجون . ومنها قوله : " أَيْ أَخي داهش ، في حكاية مأْساتك حكاية مأْساة الحرِّيَّة في كلِّ جيل ... فأَنت وإن ظنُّوا أَنَّهم هزموك ... إنَّما واقع الحال ينادي : إنَّك أَنت الذي هزمتهم ، بل هدَّمتَهم ، بل هشَّمَتهم ..."
وإضافةً إلى كلِّ ذلك ، وضع العلايلي كتاباً صدر في بيروت عن " دار النسر المحلَّق " عام 1980 ، بعنوان " كيف عرفتُ الدكتور داهش " تحدَّثَ فيه عن علاقته به ومُعايشته لبعض أَعماله الخارقة كما قدَّم لكتابه " عواطف وعواصف " ، وقيَّمَ كتابه " مذكِّرات دينار " . على أَنَّ مأْثِرته الداهشيَّة الكُبرى كانت في نَظْم كتاب " جحيم الدكتور داهش " شِعراً يُحاكي شِعرَ الملاحم . وعند صدور هذا الأَثر الأَدبيّ الكبير سوف يتَّضحُ جانبٌ هامٌّ من شخصيَّة العلايلي ، ويضطرُّ قلمُ النقد أَن يضعَه في خانة كبارشعراء العربيَّة ، إضافةً إلى كَونه من كبار أُدبائها وفقهائها ولغويِّيها .
ترك أَدبُ الدكتور داهش أَثَراً عميقاً في نفس العلايلي . ولعلَّ في هذه الكلمات المقتطفة من مقدِّمته لكتاب " عواطف وعواصف " ما يُجسِّد هذا الإعجاب :
" فهذه رسالةُ أَدبِ الصِّدقِ دون ما زورِ أَضاليلَ ينطق به أَدبُ البهتان . فإنَّ في الأَدب الحقِّ قِوىً تنزع من النفس أَلواناً وتجيءُ إليها بأَلوان،
وتبعثُ الانسانَ بعثاً جديداً حتَّى يجيءَ كائناً حَيًّا أَسمى بين الإفتانِ والافتنان ، وتتناول المجتمعَ فتصوغه صوغاً آخَر
حتَّى يجيءَ كائناً إجتماعيّاً أَكملَ بين الإتقان والإحسان .
فليس إلاَّ ( أَدبُ الصدق ) خالداً على لسان الدهور والأَزمان .
وهل لغير أَدبِ الخلود قدرةٌ على استبدال ما ينبغي أَن يكون في الحياة والأَخلاق والفكر بما هو كائن وما قد كان ؟...
تلك غاية ( الدكتور داهش ) ،
وفي سبيلها يرسل نفثات صدره المُنبَثق بشعلاتِ الإيمان .
فجاءَت أَدباً فوق الأَدب بما تميسُ به مَيَسان حالياتِ الأَفنان !
وجاءَت صوفيَّةً فريدةً بما فيها من مِثاليَّةِ الضمير الريَّان !
وبرَزَتْ في أُلْفَتها صورةً من نضارٍ تراكَبَ عليه درٌّ ومرجان !
أَلا سِرْ في طريقك غيرَ عابىءٍ بما يصدُّونك به من صارمٍ أَو مُرَّان ؛
فالناسُ في هذه ( الأَرض ) في مِثلِ مسبَح التماسيح والحيتان .
وعسى أَن يعود الكون ويبتسمَ ثغرُ الزمان ،
والمجدُ لله في العلاءِ ، وفي الناس المسرَّة ، وعلى الأَرض السلام والأَمان ."