الأستاذ ياسين رفاعية
روائي سوري. مارس الصحافة والتحرير في الصفحات الأدبية. عمل موظفًا في المكتب الصحفي في القصر الجمهوري (1960 -1961)، وسكرتير تحرير في مجلة "المعرفة" السورية. رأس القسم الثقافي في مجلة "الأحد" اللبنانية. عضو "جمعية القصة والرواية". غزير الإنتاج. من مؤلفاته في القصة والرواية: "العالم يغرق" (1963)، "الممر" (1978)، "الرجال الخطرون" (1979)، "وردة الأُفق" (1985)، "إمرأة غامضة" (1993)؛ وفي الشعر: "أنت الحبيبة وأنا العاشق" (1978)، "كل لقاءٍ بك وداع" (1994).
داهش... كما أذكُرُه
كنت قد سمعتُ مراراً بخوارق الدكتور داهش. ولما كنت رجلاً علمياً وعلمانيًا، لم أكن أؤمن قط بالمعجزات وتحقيق ما لا يتحقق إلا بالعلم والحساب: واحد زائد واحد اثنانز وكنتُ أستغربُ كيف أن أساتذة جامعيين ورجالاً معروفين كانوا يتحدثون عن هذا الرجل النابغة الذي أعطاه الله نعمةَ الحاسة السادسة، بل النبوءة والمعرفة واستشراف المستقبل. وفي فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم تزايدَت الأحاديثُ عن هذا الرجل وعن خلافه مع الرئيس بشاره الخوري، والتقوُّلاتُ إن الرئيس الأسبق تآمر عليه ونفاه ليظهر في طهران، ويُقادَ إلى حبل المشنقة، وإن الصحافة الإيرانية والعالمية نشرت حادثة الإعدام ودعمتها بالصور بشكلٍ لا مجال للشك في حقيقتها. لكن الرجل سرعان ما ظهرَ ثانيةً كأنه بُعث من موته ليتمم رسالته التي نادى فيها بالتوحيد بين الأديان السماوية كافةً. وهي دعوةٌ جميلةٌن لو تحققت لنفت الحروب بين الشعوب ولتحققت وحدتُهم بما يشبه أنه عالمٌ واحد وإنسانٌ واحد وانتماءٌ واحد. إن دعوة داهش، من هذه الناحية، فيها بعدُ نظر: إن الشر والكراهية والاعتداء والعداوةَ التي يندفعُ العالم نحوها تنتفي كلها إذا تحققت الوحدةُ الروحية بين أبناء البشية في انتماءٍ واحد وعبادةِ إلهٍ واحد.
إذ أخذنا هذه الدعوة من وجهةِ نظرٍ سياسية، رأينا أن فيها من العقل والإيمان بالمستقبل ما يُنبئُ، لو تحققت، بسلام دائم بين الشعوب، فتنتصرُ البشرية على نفسها وتطردُ الرجالُ الطُغاة الذين يعيثون في الأرض فسادًا، ويحتقرون الإنسان، ويتآمرون عليه. من هنا فإن دعوة الدكتور داهش لاقت حماسةً من فئةٍ كبيرةٍ من الناس، خصوصاً الذين يعيشون تحت وطأة الظُلم والتعسُّف وإهانة الإنسان... إنها دعوةٌ إصلاحيةٌ تنشدُ للبشرية حياةً أفضل قوامُها الحرية والديمقراطية وحقوقٌ الإنسان والتعالي على المصائب والسعي إلى حياةٍ حُرَّةٍ تدعمُها الرفاهية والسعادة. وهي دعوةٌ لو تحققت لانتفى من حياة البشر الحاجةُ والعوز، وانحسر الفقر؛ ذلك أن ثلثي العالم تحت سقف الفقر، بل أشدُّ من ذلك. فعندما تتساوى البشريةُ في الأخذ والعطاء وتتقاسم ثرواتها الزراعية والنفطية والعلمية بأشكالها، يأخذ كل ذي حق حقه.
لقد قرأتُ مظم كتب الدكتور داهش، منها الفلسفية والشعرية الداعية إلى حب الحياة والانتصار عليها؛ وكلها كتبٌ جميلة تُنعشُ النفس الإنسانية لِما فيها من نظرةِ تفاؤلٍ وأمل وتحقيق أمنياتز هذا ما دعا إليه معظم الفلاسفة والمصلحين والزعماء الوطنيين في كل أنحاء العالم، منها ما تحقق ومنها لم يتحقق. لكن الدكتور داهش بث في النفس الإنسانية هذا الطموح الذي لا بد، مهما تعقدت الحياة اليومية، من أن ينجزَ ما تمناه في حياته الثرة الغنية التي امتدت إلى خمسةٍ وسبعين عامًا من العمر.
وكنتُ أتساءلُ هل حقق الدكتور داهش ما كان يتمنا في كل ما دعا إليه. ربما تحقق بعضُ هذا التمني في القليل، والأملُ أن يتحقق في الكثير. ولكن ما يسترعي النظر أنه زرعض الفكرةَ التي تجذرتْ في الأرض، وما زالت تتوسع وتُثمر يومًا بعد يوم. وهذا كان منطقَ الأنبياء والمفكرين والمُصلحين الإجتماعيين منذ انبثقت البشرية إلى اليوم.
لقد رحل الرجلُ إلى مثواه الأخير، لكنَّ مبادئه وقيمه ومُثُلَه العُليا ما زالتْ تشقُّ طريقها إلى النور، وتجمعُ حولَها العديد الذي يتكاثرُ بإيمانه بهذه المثل والقِيَم طالما أن فيها خيرَ الإنسان وتقدمه وتطوره نحو الأفضل.
في السبعينيات من القرن المنصرم تكاثر الحديثُ في الأوساط الاجتماعية عن الدكتور داهش وأعماله وانجازاته بنا كانت هذه الأوساط تسميه معجزاتٍ في شفاء المريض، وإخراج السجين من سجنه، وحمْلِ المرأة العاقر بلمسةٍ من يده، وفي معرفة المجهول واكتشاف الأسرار والنبوءات التي تحققت مثل اغتيال الرئيس كندي وموت بشاره الخوري بمرضٍ عُضال ونشوبِ حروبٍ في هذا المكان أو ذاك. تقوُّلاتٌ كُثرتْ إلى أن أُتيحَ لي، عل يد الدكتور غازي براكس، الذهابُ إلى الدكتور داهش والتعرف عليه عن قُرب؛ وكان سببُ ذهابي التثبت من حقيقة هذه الأشياء، وبالتالي السؤال عن زوجِ أُختي الدكتور علوان الدليمي الذي اختفى في دمشق في منتصف السبعينيات من القرن العشرين في ظروفٍ غامضة، وهل يستطيعُ شفاءً زوجتي الشاعرة الراحلة أمَل جراح. ذهبتُ إليه يَحدوني الأملُ في أن أسمع منه الأخبارَ الطيبة.
ذهبتُ برفقة الدكتور براكس وزوجتي أمل إلى منْزل الدكتور داهش القريبِ من منطقة البطريركية أو القصر الجمهوري القديم في بيروت، وصعدنا درجاتٍ عدةً إلى الغرفة الواسعة التي كان يجلس فيها الدكتور داهش. كان بملابس البيت فاستقبلنا بابتسامةٍ رقيقةٍ فيها من التواضُع والاهتمام بالضيف الكثيرُ الكثير. وكان عنده عدَّة أشخاصٍ، أساتذة ودكاترة، لا تحضرُني أسماؤهم الآن، وكان انطباعي الأوَّل أن الرجل يُحاط باحترام كبير من الحضور، وما إن يتكلم حتى يصمتَ الجميعُ في تهيُّب مَن يجدُ نفسَه ضيفًا على رجلس خارقٍ ليس من طبيعة الناس العاديين. كان يتحدث في كل شيء: في السياسة، في الأخلاق، في فساد البشرية الذي يستشري في العالم كله.
لم يسألني الرجلُ عن اسمي، كما إنَّ الدكتور براكس لم يعرف ما جئت للسؤال عنه؛ فقد كتمتُ رغبتي هذه لأتحقق من صِدق الرجل فيما يدَّعي عنه الآخرون. وبعد جلسةٍ طويلة وشُرْبِ الشاي، قال: "هل تريدُ أن تعرف عني؟" قلتُ: "نعم." قال: "خذْ ورقةً بيضاء واكتبْ فيها ما تشاء". سحبتُ ورقةً بيضاء من على الطاولة، وكتبت فيها عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" من غير أَن يرى أحدٌ من الحضور ما كتبتُ. فقال: "أطْوِها وضَعْها في جيبك." ثمَّ إنه سحب ورقةً بيضاء، ورفعها عاليًا، وخطَّ بسبابته شيئًا عليها كما لو أنه يكتبُ بها، ثم طواها عدةَ طياتٍ، وأعطاني إياها قائلاً: "ضعها في جيبك". ثم طلب إليَّ بعد قليل إخراج الورقتين من جيبي، وطلب فتحهما، ففتحتُهما، ويا لشدة دهشتي، إذْ قرأتُ في الورقتين ما كتبتُه أنا بخط يدي كما لو أنهما ورقتان لنسخةٍ واحدة، وبدقةٍ تامة!
كانت تلك الحركةُ المفتاح لشخصية داهش، فراح الحضورُ يتسابقون في الحديث عن معجزاته، ومنها شفاءُ طفلٍ من الشلل، أو إبلالُ إنسانٍ من مرضٍ خطير، أو الكشف عن مالٍ ضائع، وما أشبه.
وبعد قليل طلبَ إليَّ الدكتور داهش الذهاب إلى صدر الغرفة حيث تقومُ خزانةٌ بعدةِ جوارير وقال: "افتح أي جارور". ففتحتُ واحدًا، فوجدتُ أوراقاً مطويةً بلا انتظام، يمكنُ أن يكون عددُها مئتين أو أكثر. فطلب إليَّ اختيارَ واحدة، فأخذتُ واحدة لا على التعيين. قال: "افتحها واقرأها". ففتحتُها، وما كان أعظمَ دهشتي عندما قرأتُ ما يلي: "يحضر السيد ياسين عبدو رفاعية في يوم كذا (أي اليوم الذي جئتُ فيه) ليسأل عن صهره، زوج أخته الذي اختفى في سوريا في ظروف غامضة". وبعد أن فرغتُ من القراءة. وأنا مدهوشٌ جدًّا، قال لي: "هذا الشخص الذي تسألُ عنه موجودٌ في سجن المزة في دمشق، ويتعرضُ للضرب والإهانات والتهديد. ومع ذلك، يواجهُ سجانيه ببطولةٍ نادرة تُثيرُ الإعجاب. وهذا الرجل الذي خُطِف من منزله في منتصف الليل قبل سنتين سيظلُّ مسجونًا سبعَ سنوات، وسيُعاد بعد ذلك إلى المنزل الذي خُطِف منه".
في الواقع هزني الموقفُ، وشعرتُ بأن هذا الرجل من نِعَم الله، وأَنَّه موهوبٌ، وفيه سرٌّ من أسرارا لله بتواضعه الجمِّ، وحكمته، وإدراكه ما لا يُدرَك كما هو الحالُ عند المتصوفة بأنواعها. ولكنه لم ينعزل، إنما استخدام موهبته في نفع البشرية كلها.
وما حصلَ فيما بعد أن زوجَ أختي الدكتور علوان الدليمي خرجَ من سجنه كما تنبأ له الدكتور داهش تمامًا وفي التوقيت الذي حدده بالضبط.
في تلك الجلسة نظرَ الدكتور داهش إلى زوجتي أمَل جراح، وقال لها "أَنتِ مريضةٌ بالقلب. "قالت له: "نعم". قال: "لو لم تُجري عملية في قلبك لكنتُ قادرًا، بإذن الله، على شفائك". ولم يكن الدكتور داهش ولا الحاضرون على عِلم أن أمل أجرتْ عمليةً في القلب. ثم تابع الدكتور داهش يقول: "هذه العملية التي أُجريت لقلبك لم تكن ضرورية. كنتِ ستُشفين من تلقاء نفسك." وهذا ما قاله، في ما بعد، الأطباء، إذ أجرت أمل جراحتها الأولى في لا يبزغ على يد جراحٍ ألماني كان عليه أن يوسع الصمام المتضيق قليلاً، ولكنه وسعه أكثر من المطلوب، فخربه؛ وهذا ما اضطُرَّ أمل لإجراء عملية ثانية على يد الطبيب اللبناني الأصل الدكتور مايكل دبغي الذي زرع لها صمامًا اصطناعيًا. ومما قاله دبغي: "إن عمليتها الأولى لم تكن بحاجة لها، إذ كان يكفيها 25 حقنة بنسلين تُشفى بعدها تمامًا من غير حاجة". ذلك أن الصمام المذكور كان متكلسًا، و25 إبرة بنسلين كانت كافيةً لشفائها، تمامًا كما قال لها الدكتور داهش.
هذه الوقائع التي رويتها رويتها وأنا شاهدٌ شخصيٌّ عليها؛ الأمر الذي أكد لي أن ما قيل في الدكتور داهش كان حقيقةً واقعة. وما أتمناه الآن أن يُثابر مريدوه بإنجاحِ دعوته في توحيد البشرية تحت ظلِّ إلهٍ واحد لا نختلفُ فيه.