غازلُ النَّار
ياسر بدر الدين
يا غازلَ النارِ خلِّ الحبَّ ملتهبا وخذ، إذا شئت، من روحي له حطبا
يا حارق القلب لا ترحمَ به عصبا لا خير في الحبِّ إن لم يُلهبَ العَصَبا
أنا كدالية الأشواق أوردتي إن مسَها منك طيفٌ عنقدت شُهُبا
تذوب أحشاؤها خمرًا مُعتقةً والغُصنُ طفلٌ غريرُ ما رأى العِنَبا
هلَّ اللقاءُ؛ شموعُ العيد راقصةٌ حُبًّا تُضيءُ وإن لم تَمْسَسِ اللهَبَا
وروَّعَ القُدْسَ صوتٌ هاتفٌ سحرًا: "أم النبيِّنَ قد عادَ الذي صُلبا"
هذا حزيرانُ خمرُ الروح في يده يقولُ: "هذا دَّمي طوبى لمن شَرِبا"
وفي حزيران أوحى الله آيتهُ فرنَّمَ الوحيُ حُبًّا وانتشَى طَرَبا
صلَّى الجمالُ صلاةَ الفجرِ وانتشرتْ أطيافُهُ في سَمانا تَصنعُ العَجَبا
وفي سَماهُ ملاكٌ طارَ من فرحٍ وراحَ يَهدي صغَارَ الأنجُمِ اللعبا
وشمسنا استيقظت في غير موعدها تذوب من حبِّها فوق الرُّبى ذَهَبَا
هديةُ الله للدنيا هدايته بداهشٍ عزَّ من أهدى ومن وهَبَا
ربُّ السماوات لطفًا منه أنزلهُ حتى يكون لمن يسمو له سَبَبا
يا نازلاً وشغافُ القلب منوله خفوقُ قلبك بالتوحيد ما تَعِبَا
تعانقت مُذ وطئتَ الأرضَ أربعها وفي هواكَ جمعتَ العُجمَ والعرَبَا
أنَّى اتَّجهنا جهاتُ الأرضِ واحدةٌ أو ارتحلنا فريحُ المشرقين صَبَا
هل تعلمُ الأرضُ أن الله أكرمها من فضله وحَبَاها كل ما خَلبا؟
ماذا أقولُ لنُعماكَ التي دفقت كأضلُعِ البحر إمَّا هَاجَ واصطَخَبا
كلُّ التشابيه في عينيَّ تافهةٌ ماذا أقولُ، كريمٌ يُشبهُ السُّحبا؟
وأيُّ مكرُمةٍ ما أنتَ صانُعها أو خلةٍ لم تكن أمَّا لها وأبا؟
ماذا سأكتب، شمسٌ أنتَ أم قمرٌ أم منهلٌ من عطاء الروح ما نصَبا؟
ماذا سأكتبُ والأوراقُ ذاهلةٌ والحبرُ مما رآه أبيض واضطربا
أذهلتهُ ببيانٍ شفَّ من أدبٍ فكيف حين جمعت الوحي والأدَبا؟
يا لهفَ قلبي بما في العين أبصره وعفوك الله فيما شقَ أو حُجبا
قالوا: ويُشبهُ مَن؟ صِفهُ، فقلتُ لهم مَنْ يُشبهُ الشمس غير الشمس؟ واعجَبَا!
لداهشِ الروحِ لا صنو ولا شبه فالشعر لغوٌ وكل المفردات هبا!
لم يفهموك، وهل تهفوُ جوارِحُهم إلاَّ لما ينجلي في وجههم ذَهَبا؟
وكيف يُبصرُ من ماتت بصيرته وكثَّفَ الحقد في أجفانه الحُجبا؟
لم يفهموكَ وهُم في الجهل قد عُذروا لا يفهم الجرذُ إلا النَّتْنَ والخَربا
فناصبوك عداءً قضَّ مضجعهم خلَّى الليالي على أجفانهم نَصَبَا
عيونهم لم تذق نومًا كان بها جفَّ النعاسُ وجافى هدُبُها الهُدُبَا
جرّوا لأنفسهم من نتن أنفسهم نهر العذاب غضوبًا يزفرُ الكربا
مُذ عذَّبوك وحُكمُ الله آيته على شياطينهم تستمطر الغضَبَا
مُذ حاربوك وحربُ الله لاهبةٌ في كل صوبٍ تصبُّ الويل والحَرَبا
هُم أنكروك! ومَنْ هم؟ يا لشرذمة كل النقائص منهم نالت الأربا
الخُبثُ من أصلهم يرقى له نسبٌ والغدرُ في دمهم يلقى له نَسَبا
ساقوا الرعيَّة كالأنعام واستَلَبوا ما كان في الجيب أو في الغيب مرتقبا
داسوا الشرائع، ساموا الذُّل من كتبوا وأحرقوا الحبر والأفلام والكتُبا
حاكوا لكَ المُكرَ ما كلُّوا وما وَهَنوا وجرَّدوا الكيدَ جيشًا غادرًا لَجبَا
وقفتَ ليثًا تهابُ الأرضُ وطأتهُ إذا تهادى فكيف القولُ إن وثَبَا؟
وما رهبتَ وقد أخزيت دولتهم وما صُلبتَ، ولكن عرشهم صلبًا
خابتْ مكائدهُم، وارتدَّ كيدُهُم نحو النحور وطاش العقل أو ذهبا
وحقِّ عينكَ عينُ الله ساهرةٌ وزارعُ السُّم يجني السُّم والعَطَبا
تمرَّغت بوحول الذُّل سطوتهم وكلّ ما شيَّدوا في لمحةٍ خربا
فأكملوا العيش في الدنيا على لهبٍ وفي جهنم زادوا نارها لهَبَا
وقفتَ وحدكَ طودًا بين من رقدوا فلا لسانٌ شكا أو كاتبٌ كتبا
إذا لهولٍ كهذا الهولِ ما نهضوا وا لهفَ قلبي متى يستيقظ الأدَبَا!
يا مُطلقَ الثورة البيضاء السنُها ستشعل الأرض والأفلاك والشُّهبا
لحن التغيُّر من إلاَّكَ عازفهُ وقد قلبت نظامَ الكون فانقلبا
كما ترابُ الثرى حوَّلته ذهبًا تُرابُ أهوائنا حوّلتَهُ ذَهَبَا
حتى زهَتْ كزهور الفجرِ أنفسُنا إن شفَّها النَّورُ أو إن رُصِّعت حَبَبَا
رفقًا حزيرانُ، هذا العامُ مرَّ على قلبي عميدًا كثيرَ الشوقِ مُلتهبا
فرحتُ أحيا بذكراكَ التي سلفتْ وتحلُمُ الروحُ بالعيد الذي اقترَبَا
وأرقبُ النارَ في قلبي إذا تعبتْ ألقيتُ في قلبها من مهجتي حَطَبا
أطوفُ بالفكر حرفٌ منكَ يكتُبني وأسألُ الشعرَ حرفًا بعدُ ما كُتبا
وأسألُ الطير لحنًا شاردًا غزلاً وأسألُ الريح والغُدران والقصَبَا
حتى إذا اختلجتْ بالروح أغنيتي ألبستها من دمي أثوابها القُشبا
صرفًا لعينيكَ خمرُ القلب أسكبُهُ إلا لعينيكَ خمرُ القلبِ ما سُكِبا
يا منقذي ونيوبُ الغيِّ في كبدي ومُلهمي عزةَ الإيمان والأدَبا
إذا المحبَّة في قلبي هَمَتْ مطرًا فأنت ألقيت فيه الرَّعد والسُّحبا
صدقًا لعينيكَ من صلَّى الهوى لهما شعري بغير هواكَ العذب ما عذُبا
تنسَّكتْ في ذُراك الشُّمِّ قافيتي والشعرُ مَذْهبَ إفكٍ كلُّهُ ذَهَبا
ترفَّعتْ عن مديحٍ حشوُهُ كذبٌ وكلّهم بلسانِ الشِّعر قد كَذَبا
لها تضوع زهر الروح ما كسبت وطالما سخرت من كسبِ من كَسَبا
وروعتها قيانُ الفكر سافحةً بين السلاطين ماء الوجه والأدَبا
ووقفةُ الشعر خلف الباب مُرتقبًا ليلثمَ النَّعل والأقدام والرُكبا
قد غاصَ بالتُربِ حتى الرأسُ عفَّرهُ وغوصَ الرأسَ حتى عفَّرَ التُربا
يا داهشَ العمر عمري كرمةٌ يبستْ لمستَ أغصانها فاخضوضرت عنَبَا
قصيدةُ العيد وحيٌ منكَ أحرُفُها فما كُتبتُ، ولكنْ أنتَ مَن كَتَبَا*
1 حزيران 1998