لا داهشَ بعدي
شِعر على جُمعة
أيها الآتي إليّ،
صوتك الصوتُ لديَّ،
وعلى أشرعة الوجد يهزُّ الوترَ الحاني عليَّ.
أنا لا داهش بعدي.
إنَّ حبِّي مثل نهرٍ فائضٍ،
لا نهرَ في الحبِّ سواه،
أسكُنُ الآن ضياهُ،
أفرحُ الآن كثيراً في سماهُ،
فارتقبني، أيها العام، على مفرقِ آذار،
أرشُّ الضوء في كمِّ التلالْ،
أزرع الأرض ظلال.
ها هنا لهفةُ حقلي، تلثمُ الطيفَ، تلمُّ الجلنار،
تنثرُ العطر يمينًا وشمالْ،
مقلتاها الدفءُ في نهر النهارْ.
إرتقبني، أيها النوارُ في آذار، ما أعظمَ شمسي!
تُرسِلُ الفجرَ خيوطًا في الصباحْ
إنها فُلْكُ الرَواحْ
فانشقِّي، أيتها الدربُ، نُسَيمات الجمالْ
واطمئنِّي بين أفياء الكمالْ
سبِّحي الربَّ كثيرًا،
سبِّحي الآتي على خيلِ النبواتِ،
فما أعظمَ شمس المُعجزات!
إرتقبني، أيُّها النوّارُ، في آذارَ،
لا داهشَ مثلي، يرتقي نورَ السماواتِ
يضمُّ البحرَ في فُلكِ النجاةْ
فتعالّوا، ها هُنا النهرُ يُضيءُ الكلماتْ
***
مُرَّ قُربي،
أنا لا داهشَ بَعدي.
هل رأيتَ البحرَ يرتاحُ على كَفِّ الرمالْ؟
أمْ شهِدتَ الموجَ قد ألقى الرحالْ؟
فابحثوا عنِّي،
ألستُم أضلُعَ الظلِّ على شطِّ الظِّلال؟
هل جلستُم خلفَ أسوارِ الرياحينْ؟
أمْ ملائتم أنهُرَ البالِ بواحًا في ضفافِ الياسمين؟
فابحثوا عني مليَّاً تجدوني واقفًا في بابكم،
أشبهُ نفسي، قامتي الأخرى
تُؤاخي الريحَ لا تُشبِهُ شيئًا،
وأخيرًا لستُ أدري،
أوَجدتُم داهشًا يُشبِهُني؟
أم إن لا داهش مثلي؟
فابحثوا عنِّي مليًا تجدوني.
***
هل تُرانا تَعِبت منَّا أزاهيرُ الرؤى؟
أم تَعِبَت منَّا اللغات؟
طاويًا سرَّ الزمان،
انتظرتُ الوقت،
فلتسمحْ ظلالُ الأرض أن نكتبَ أم الكلماتْ
أترانا تَعِبَت منَّا الحياة؟
لستُ أدري أين أمضي
ها أنا ظلُّ الأنا، (يا كل عمري أين كان؟)
هكذا أنتم،
فلا داهش بعدي بينكم ترمي يداه الضوءَ،
لا داهش في الأرض لكم إلا أنا...
ليسَت ظلالي ترتمي في ظلّكم، (لا ظلَّ بعدي)،
لن تكونوا في المدى حولي،
لماذا تَعِبت أحلامُكم منّي؟
وقلتُم: إنما الداهش آت،
(فليقاتل وحده... ها نحن ماضون)
قلتُ: لا وقتَ لكُم، لا شيء يبقى غير وجهي.
كم رأيتُم وجهكم في آسِرِ المرآة بيني؟
فابحثوا في الليلِ عنّي، ليس ظلِّي بينكم...
أو صورتي في ظلّكم، لن تجدوني
فليكن في الغيم وجهي
غيروا أسماءكم في الأرض،
كونوا دائمًا كالريح لا وجه لديكم،
فابحثوا عنّي، فلا داهش مثلي
فلتعدْ حُزمةُ أضوائي إليكم.
***
هكذا أنتم ظلال رحلت تبحث عمَّا يستريحُ الطيرُ في الليل إليه.
فلتعد أشرعةُ الضوء إلى مينائكم
أو فلتكُنْ أجنحةُ الموت كأوراق الخريفْ
غيَّرت وجه الرصيفْ
كيف أعطت وجهها للماء؟
لا شيء يُسمى الوقت. هل تُجدي خطاه؟
لا تقيمُ الريحُ في ظلك بيتًا،
هكذا أنتم لبستُم أضلع الوقت، وما زلتم صداه.
***
إرحلي، أيتها الريح على أجنحة الماء
وشقي أنهر الوقت على فلك الضياء،
هكذا تجري الفراديسُ، تضمُّ النور وجهاً،
وتمدُّ الوحي شالاً آسر الطلع على شالِ المساء،
هكذا كان على الفلك، وكان الأنبياء.
آتيًا في الضوء أنهارًا على أشرعة البرق يلمُّ الماء غيمًا.
هكذا كان على الريح بروقًا...
أيها الوحيُ الذي صعَّد أسماء البقاء،
أنتَ ما أنتَ! حواليك فراديسُ السماءْ.
***
أيها العام سلامًا! لم نعد نذكر طعم الوقت، أوَنذكرُ ما جدوى الحياة،
لم نعد نذكر إلا الظلَّ،
أو نذكر ما جدوى الشتاتْ
مثلما تلهو الفراشاتْ
لم نعد نعرفُ إلا الذكرياتْ
مثلما يمضي بنا نهرُ الحياةْ.
***
جاءَنا، يا أطيبَ العطر، كما شِئنا
فقلنا: زادنا، يا أبدع الورد، كما شِئنا،
فما أحلى الصفات!
أيها الحقل سلامًا،
زاركَ النورُ سلامًا،
***
هكذا أبحرتُ في الوقت
أشدُ الخطو في الريح إليكم،
ساعيًا في الأنجمِ الأخرى
على أجنحة الفلك أردُّ الباب،
ما زلتُ أجاري أنهرَ الموت،
أنا الأول، لا داهش قبلي،
وأنا الأخرُ، لا داهش بعدي،
كنتُ للوحي كتابًا مُلهمًا،
أو صرتُ للضوء فمًا،
ما زلتُ في أنهر موتي طاويًا وجهَ السماء.
ها أنا أسعى نقيًا،
آسِرَ اللمحِ، مَلِّي الصبحِ، لا داهشَ مثلي
يعرفُ الآن أغاريدَ اللقاء.
قارئًا صمتَ الحياةْ
رحلتْ عنِّي اللغاتْ
هكذا قلتم يفيءُ الطيرُ في الليل إلى غصنٍ ظليلْ
يسألُ الأوراقَ عن شيءٍ قليل
قلتُ: هيهات، أتدري أنَّ أغصانَ الرُّبى
تسعى إلى ذاك الرحيل؟
قلتُ: إنَّ الفلكَ ماء،
هل رأيتَ الماء يرتاحُ
كان الشط قد ألقى الرحال؟
لُغتي تمشي على الماء كان الماء فُلكٌ.
لُغتي ترتاحُ في البحر كأني أسكنُ البحر،
وأبقى ماشيًا في الموج، لا داهش مثلي.
قارئًا سرُّ المكان
لغتي قد هاجرت منها اللغاتْ
هكذا قلتُم.
حبيبًا كان يطوي أنهرُ الوقت ويطويه الزمانْ
قلتُ مهلاً: لم تحِنْ أصواتكم بعد،
فلا آخرَ بعدي.
***
إرتشفني، أيها الموتُ، ضبابًا،
شاردًا في الريح ضوئي الأثير،
نحنُ ظلاَّن تلاقينا معًا
في أنهرِ الكون على مجرى الدهورْ.
إرتقبني، أيها الموتُ،
كتابًا داهشيَّ اللمحِ في طلع السطورْ
إنتظرني، أيها الموتُ، أما أنتَ حبيبي؟
نحن طيفان نزلنا الأرضَ يومًا،
ورحلنا في رخيَّات البُكورْ
قلتُ، فُلكُ، رويدَ الريح،
لا داهش مثلي يعشقُ الموتَ،
أنا نهرُ الدهورْ
إرتقبني، أيها الموتُ على ساريَة الموت
فلا داهش حولي يعرفُ الماضي،
ولا داهش قبلي يعرفُ الآتي، أنا نهر الحنينْ
إمتشقني، أيها الموتُ، حُسامًا داهشيَّ الرعد
لا داهش مثلي يعرفُ الوعدَ،
أنا الجبَّارُ، لا داهش بعدي.
إنتظرني، أيها الموتُ، نسيمًا هاديًا يَفري السُكونْ،
حاديًا للبحر في موجِ السنينْ.
مُرَّ قُربي ينتشي بين يديَّ الزهرُ،
واملئي، يا ريحُ، أكوابَ العبير،
وانشقي غبَّ البساتين أزاهير السرورْ.
ها أنا بين الفراديس على شط الغدير،
صاعدًا خلفَ كتاب مُلهمٍ
كم فاتن هذا العبورْ!
أفتري الغيم سريرًا،
أرتقي في سُلَّمِ الوجد على سُلَّم نورْ.
أيها الواقفُ خلفَ السدرة الأخرى،
فلا مثلكَ يأتي بارقًا خفَّ على حبِّ النثير.
طالعًا كالفجر في وجه الرُّبى
يرمي حبيبات النَّدى،
كنت شراعًا ينتقي
خُصلة ضوء من سنيات الطلوع،
فلتكُن في لفتة الوجد بهيًا، دافئًا بين الضلوعْ
إنتظرني، أيها الوجهُ البديعْ،
لم يحِنْ وقتي، ولم أسمعْ أهازيج الربيعْ.
أيها الخافقُ في أروقِةِ الشمسِ، تمهل،
إرتقبني كل عام
نلتقي خلفَ الغَمامْ،
هل أنا أرحلُ في كل مكانْ،
ارتدِ الريحَ قميصًا سائقًا خيلَ الزمانْ،
ساعيًا في البحر، هاجرتُ على أرصفَة الوقت
أهُزُّ الموجَ في الشطِّ حوالي، وما زلتُ وحيدًا،
أيها الواقفُ في باب الأصيل
آسِرًا كان الرحيلْ
هكذا كنتُ على أضلعِ آذارَ،
وكنتُ الموجَ في عُمق البحارْ
قلتُ: لا شيء لكم إلا أنا، كنا معًا.
ها صورتي كانت على جدرانكم
لا شيء يبقى في شميم المرتقى إلاَّ أنا.
قلتُ: أُخيَّاهُ حنانَيك تمهَّلْ،
هكذا آذارُ يبقى جالسًا في رِحلةِ الضوء
على فُلكِ الضياءْ،
وأنا الآتي على جِسرِ السناءْ.*