فردوس الجمال
"أحلُمٌ أم يقظة؟"
نجوى سلام براكس
بتاريخ 12حزيران (يونيو) 1972، كان مؤسس الداهشيَّة مُسافرًا بالقطار من ستوكهولم إلى أوسلو بالنروج، وكانت عيناه تسافران في حقول الورود الفيحاء والغابات الغنَّاء، وتسبحان مع ذوات الأجنحة الناصعة في البحيرات اللازوردية، وترعيان المروج الخضراء المُنبسطة مع قطعان الأغنام والأبقار الراعية للأعشاب السندسية... وإذا الواقع تنداحُ دوائره حتى تداخل عالم الخيال، فتشتعل شاعرية المؤلِّف، فيرى نفسه كأنه في فردوس الجمال يُصغي إلى أغاريد الطيور وهي ترفع شكرانها إلى خالقها، ويحسّ بمداعبة النسيم العليل وهو يُغازلُ الدوَّح والرياحين، ويشعرُ بدفء الأشعة الذهبية وهي تغمرُ الجميع، وتتراءَى له الأسماكُ السابحة باطمئنان في البحيرة الساحرة التي ترودها الزوارق، الشراعيَّة، بينما تغدق زرقةُ السماء على تموجات الماء سحرًا على سحر، فيُكسِّرُ الجمال على الجمال.
في مملكة الخيال والجمال تلك، يدَعُكَ داهش الحكيم تشعر كأنك في حضرة سليمان الحكيم وهو يخاطب سميرَته، وكأن روح "نشيد الأنشاد" قد بُعِثَ بين يديك! الرؤى الحلوة تتسامى مُعانقةً جمال الطبيعة الخلاب الذي سيتملاَّه مع نجيَّة روحه التي يبثها عبيرًا من وردةِ حُبه، وينفحها أغرودةً من كناريِّ فؤاده، مهيبًا بها أن تتبعه وتصغي معه إلى أناشيد السحر وتتمتَّع بآيات الفنّ الحيَّة... وكأنه يطلب إليها أن تُشاركه في تملِّي لحظاتِ الجمال بجميع حواسها، فلا تفوتها شاردةً أو واردة. وإذا به يصعد نغماتٍ رومنسية تُهدهد أوتار القلب وتُلهب نار الحب، مُتخيلاً نهاية نزهته في ضجعةٍ أبدية يتوسّد فيها صدر الحبيبة الروحية تحت شجرة الكرز الفردوسية. وإذا بمولودٍ فذٍّ جديد هو "أحلم أم يقظة؟".
عرفتُ الدكتور داهش عن كثب، فعرفتُ كيف تنصاعُ قوانين الطبيعة له طيعةً، إذ ينفذ بسياله الروحيّ الخارق إلى أعماقِ الكائنات، ويدري ماذا يدورُ في خلدِ النبات والحيوان بل حتى الذرَّات. وقد علَّمني أن أستمتع بالازهار، جمالاً ولونًا وعبيرًا من غير أن أقطفها، لأن فيها الإدراك والشعور ورعشات الحياة. فالطبيعة في مفهومه، قوَّة حيَّة تتمتَّع، كما الإنسان، بحياةٍ نفسيةٍ عاقلة ولغةٍ ومنطق خاصّين بكلِّ عالمٍ من عوالمها. فالطبيعة يتَّصل جوهرها الحيّ بالكائنات الأخرى، عبر شبكة من السيَّالات الروحية مُتشابكة بعضها ببعض. فما يدريك أنك عندما تعتني بزهرةٍ ما، وتعطفُ عليها فتسقيها وتشذِّبها وتغمرها بالحب والحنان، لا تقيمُ علاقةً روحيةً بينك وبينها؟
ولذا فالدكتور داهش، كالشعراء والفنانين المُبدعين، شغوفٌ بالطبيعة وولوع بكنوزها الحيَّة، لا يرى مظاهرها أشكالاً جامدة، لكن كائناتٍ يخضعُ كلّ منها لقوانين روحيّة خاصّة بالعالم الذي تنتمي إليه وفقًا لنظامِ العدالة الإلهيَّة؛ وهو إذ يتحسَّس جمالها ويتعاطف مع عناصرها يستشفُّ في بدائعها ظلاً لفراديس النعيم؛ فليس غريبًا، إذًا، أن يتَّخذها ملاذًا يبعثُ في نفسه العزاء والسلوى، بعدما خبر كُنه البشر، وسبر أعماقَ نفوسهم، وعلمَ ما يدور في تلافيفِ أدمغتهم، وعرفَ أخلاقهم وعاداتهم، فإذا هم على نقيضٍ من الطبيعة، عالم الصدق والجمال والعطاء، عالم البساطة والعفوية والسخاء... حيث العناصر تتآلف وتتَّحد وتتحابّ.
عشق الدكتور داهش الجمال حيثما حلّ، في المتاحف والمعارض والمعابد والقصور كما في هياكل الطبيعة. وكان يعتبر أن الفنَّ العظيم، في بعض إبداعاته، إنما خلدَ لمحاكاته الأمينة المُدهشة للطبيعة، صنعة المُبدع الأزليّ.
كلمات الدكتور داهش تشفُ عن نفس راقية، مُرهفة المشاعر، تسكب الصور الشعرية لوحاتٍ بهيجة افتلذها من رؤى الفراديس فليس غريبًا أن تشيلَ بالقارئ من واقعه الأليم أو الذميم أو الرتيب، لتحطّ به في عوالم مُضيئة مُخصبة بالمفاتن، فيرودها مع المؤلف الخارق جانيًا ثمارَ الطمأنينة والسلام الداخلي؛ كلماتُ الدكتور داهش تؤثر في نفس القارئ تأثير الندى في الزهرة العطشى، والشعاع الدافئ في الأغصان الباردة المُرتعشة، وتلتصق الصور الفردوسية بذهنه، فتحتلّه نشوةٌ تلازمه حتى بعد فراغه من القراءة.
لكم شهدته يكتب القطع الوجدانية المُلهمة ببراعةٍ تسبحُ على القراطيس كالسمكة الحثيثة في ماء الإبداع. فما إن أقرأها حتى أجدني أتارجح "كالثمل الذي أسكرته خمرةُ الآلهة".