الموت ليس نهاية الطريق، هو الوجه الآخر للحياة، بل هو صفحةٌ من صفحات التكوين في كتابٍ سرمديّ، خطَّه الله منذ الأزل، يحمل أسرار الأبد وخفاياه. هو الوعي الذي يتحرَّر من قيود المادَّة ليستكشف أبعاد الكينونة التي لا تُقاس بالزمان ولا المكان. يبحثُ عن الحقيقة في هذا الوجود المُتغيِّر، في عالمٍ لا تُدركه الحواس التي تحجبُ الجسد عن رؤية حقائق هذا الكون، يتنتقَّل بين حالات الوهم والإدراك ليُلامس جوانبٍ من الحقيقة في مسارِ المُطلق، حيثُ الوعي الأرقى والأوسع والأسمى.
الموت ليس ذاك الجدار الصَّامت التي تصطدمُ به الحياة لتنتهي، يُباغت الوعي في لحظات السكون أو في خضم صخب الحياة، به يُفنى الفرد في حين يواصل الجوهر وجوده رغم تغيُّرِ أشكاله. هو الحقيقة الروحيَّة التي تُبنى عليها الحقائق الأخرى، تستيقظ بها النَّفس بموجب التعاليم الإلهيَّة لفهم قوانين الحياة والوجود. يقول الدكتور داهش:" الموت يقظةٌ جميلة ينشدها كلّ مَنْ صَفت نفسه وطهرت روحه , ويخافها كلّ مَنْ ثَقُلت أفكاره وزادت أوزاره."
وانطوى الزمان في صِراع الذات مع أفعالها ونتائجها في هذه المتاهة المُظلمة، حتى أسفرت عن نَدَمٍ أعقبته يقظةً روحيَّة، تحوَّلت الى مرآةٍ لا ترحم، تعكس حقيقتها ونواقصها، تسترشدُ الخلاص بمواجهة الحقائق بالوعي والفهم، لا بالإنكار أو النسيان. تستغفر الله حسرةً عمَّا اقترفت يداها الشرِّيرة في لحظتها، مُتحمِّلةً المسؤوليَّة الكاملة عن أفعالها. تُعيدُ تشكيل وعيها الإنسانيّ من جذوره. وكانت نقطة الإنطلاق نحو التغيير وتصحيح المسار، مُتَّخذةً من الطريق القويم نهجاً. وهو ما يتطلب شجاعةً غير عادية لمواجهة الذات الحقيقية بكل عيوبها.
انتقال الأخ الحبيب شكري شكُّور يقظةٌ جميلة، توقٌ أزليٌّ للعودة الى الأصل المُطلق، نداءٌ ينبعُ من أعماقِ روحه، حنين الى الله عزَّ وجَلّ. حيثُ الشوق الأبديّ الكامن في قلب كل كائنٍ حيٍّ مُدرك. كان ينشدُ الحُبَّ الإلهيّ في رحلته الى عوالم الرُّوح، يفتقدُ ما لا يُمكن للمادَّة أن تملآه، ينهلُ من تعاليم النبيّ الحبيب قوَّةً لا تضعُف، وفهماً عميقاً لطبيعة الضُّعف البشريّ وآليات السببيَّة الروحيَّة والجزاء العادل، يُحلِّلُ التَّبِعات المُباشرة وغير المُباشرة للخطأ، يُراقب أفكاره، دوافعه، وأفعاله، مُدركًا أنه تحت عين العناية الساهرة، يُعلِّمُ نفسه ويؤدِّبُها ما جعله يُعيد الثِّقة بالذات لتُصبِحَ أكثر نُضجاً على مواجهة التحدِّيات، والتَّخلي عن مُتاع الدُّنيا بما فيها، كي لا يستقرّ في نفسٍ ملوثةٍ بالشهوات.
شكري الحبيب كان صوت الضَّمير الخفيّ، يتردَّدُ صداه في نفوس الداهشيين المؤمنين ليُعيدوا تشكيل إحتمالات المُستقبل، فيه مُعايشةٌ مؤلمة حيثً تتبدَّى الحقائق وتُدْرَك النتائج للحظةٍ زمنيَّة مضتْ. إنتقل الى ميلادٍ جديد حيثُ العدلُ والجمال، وذاتٍ أكثر إنسانيَّةً وحكمةً ووعياً وانسجاماً مع مبادىء الوجود المُطلقة. حيثُ الغاية الأسمى، وكوكبٌ نورانيٍّ لا تُشبِعه ملذَّات الدُّنيا الفانية.
أن أذكرك في ذكرى رحيلك، أذكر الصدق في كلماتك، أذكرُ القِيَمَ التي لا تموت. فإلى اللقاء يا أخي الحبيب.
حسين يونس.
حزيران 15.2025