مَرثاة
(مُهداة إلى روحِ الأخ المُجاهد الدكتور فريد أبو سليمان)
شعر على جمعة
ساعيًا في الأنجم الزهر،
إلاهيَّ السَّنا،
يختالُ زهوًا في معاريجٍ السماء.
دفتر الماء، أُتمحى النسمة السَّكرى؟
أتحني الريحُ شلاَّلَ الضياء؟
ها أنا الدَّمع!
أيبكي المُبصرُ المفتونُ، ما جدوى البكاء!
آتيًا في موته المرئيِّ،
يجري مُطمئنًا، داهشيَّ المعجزات.
ها أنا ألمسُ سيلَ الكلمات.
لفتة الموت تواخي حزمة الضوء،
تلاقيها أكفُّ الشمس،
سافر في الرؤى، إن شئتَ،
أو في الغيم أحيانًا،
أضيء، تَفرشْ سرير البحر،
سافر في حنايا الفلك، إن شئت،
ألم تُرخِ بساط الأنجم الأخرى على خيط الحياة؟
كان حزنًا، فهو منّي،
أتركوا قلبي يغنّي،
هكذا أسميتُ وجدي أدمُعًا، حبرَ رمادْ.
فاتركوني لمُنىً خبأتها في أضلُعي،
أسكنتُها طي الفؤادْ.
حاملاً أشياءَ دهري،
ويمرُّ الوجعُ الآتي ببالي،
قلتُ: مِن أين نَفرنا؟ أو مشَينا،
لم يُعدْ للحبِّ معنًى أو صدًى،
ها نحن أمسَينا حُفاةْ.
دمعتي حرى، وقلبي أصبحَ الآن ضلوعَ الأمنياتْ.
كيف نحيا!
كيف تسمو النفس، تمتصُّ عويلَ الوقتِ،
ليت الليل يجري في أخاديد الحكاياتْ.
***
تائهًا يبحثُ عن وجد، مليء اللون، آنيَّ الحنان.
لم يعدْ في البال إلا همسةُ الراحلِ في أنسامِ نيسانْ.
حالمًا أبصرتُ أن الطيرَ تسعى في الرُّبى خلفَ جناحيه،
ويرقى الشجرُ الحاني إلى نظرة حُبّ تثني من مُقلتَيه،
أيحنُّ الكونُ ولهانَ إلى أرجوحة الضوءِ لديه؟
شاعرًا ناجيتُه، كان تقيًا، نبوي البوح، روحي البيانْ.
عاشقًا ناديتُه، كان مُحبًا،
صَيَّر القلب شموعًا،
ظلّه الظلُّ، ضفافٌ تشتهى في كل آنْ.
ليتني أُدركُ أن الوقتَ حزنٌ
والكرى الوسنانَ برهانْ.
ليتكم كنتم تفيئون إلى ظلِّ يديه،
أنفيءُ الآن ساعين إليه؟
قلتُ: غفرانًا، أُخيَّاهُ، وغفرانْ.
***
(آتيًا من كوخه الغربي)
يمشي، داهشيُّ الوجه، شفاف السِّماتْ.
قمر الموت، حنانيك!
فما أعجب أن تأتي فتيًا في رفيفِ الفجر،
أو في لمحة العين، أيمحى العمر في رفَّة أجفان؟
قلتُ: يا بحر وداعًا، كان طيفًا ومضى،
ما أعجب الطيف يؤاخيه الندى!
يلثمُ مجراه، ويغفو ساكنًا دمعة تحنانْ.
أيها النهر وداعًا،
ما أحَيلى السفر الميمون! ما جدوى البقاء؟
قلت: ما أعظم أن ترحل في موكبِ أضواءْ.
أيُّها الراحل، كم عزَّ اللقاء!
رحمة الربِّ وغفران!
***
كان وحيًا، واثق القلب، سنيَّ الدرب، يمشي صامتًا،
في وجنتيه راحةُ البال، وفي كفية آياتُ المساء.
داهشيًا كان
يطوي أضلع الوقت، جريء العدل، سيفًا يقطع الظلم،
ويبني معبد الربّ، وأفياء البهاء.
قلت: يا أنبل مخلوق!
أيُمحى ورقُ الأسماء أم يبقى ضبابُ الأمسيات!
داهشيًا كان،
في خارطة الوجد أحاكيه أخًا،
ألمحُ في المرآة أسماء الصفاتْ،
يا أعزَّ الناس! سافر، إن تشأ، في الفرح الآتي،
وسافر في فراديس المسافاتْ.
داهشيًا كان، ما أبدع أن يكسرُ نهرٌ ضفَّتيه!
تاركًا مجراه ينداحُ على أكتاف إنسان.
داهشيًا كان،
ينأى باسم اللمحِ، عَصيَّ البوح، ضوئي المكان.
نَمْ هنيئًا، أيها الناسكُ،
نَمْ في خمرة الوديان، أو في هدأة الشطآن،
لم ندرِ، كأن الساعة الأخرى تؤاتي رحلة الدرب.
ألم ندرك، كأن الموج حزنٌ
يبحثُ الساعة عن جدول وجدانْ.
قلتُ: بتنا الآن في مركب أحزان!
أيها الآثر، غفرانًا وغفرانْ.
قد طوانا الوقتُ، صرنا نُشبه اللون بلا طعمٍ، نسينا،
شغَلَتنا في الرُّبى عنا عباءاتُ الزمان.
***
(آتيًا من كوخه الغربي)
يمشي مشية الظلِّ الهويني،
وارفَ الطلع، خفيف اللمساتْ.
ألمحُ الصوت نقيًا:
جاهدوا أنفسكم، صلُّوا... تفوزوا، تفرحوا.
(هل تحرقون الرمزَ دومًا؟)
(أرضنا دارُ ممر، إفتح الباب تفزْ، تفرحْ كثيرًا،
نَفسُكَ المرآةُ، إن تمسحْ غبار الوقت عنها
تستطعْ أن تكشفَ الأضواءَ منها).
أيها الراحلُ، غفرانًا رحيمًا، ليتنا حقًا عرفناك كثيراً
ليتنا حقًا عرفناك أخيرًا. * 30/4/2003