الدكتور فريد أبو سليمان
شجرة مباركةٌ أثمرت ثمرًا مباركًا
بقلم أسعد سليلاتي
هو أرزة صامدة طالت فروعها بفضل ينابيع العطاء السماوي الفتان.
وفاح عبيرها المُنعش في أرجاء المعمورة كلّها، يتنسمُهُ المشتاق الولهان
وأورفت ظلالها على كل ملهوف، فغمرتهُ بالدفء والحنان؛
دفءُ الحب والعطف والنقاء، دفءُ الإيمان.
تعرَّفت إلى الدكتور فريد أبو سليمان في ربيع ام 1964 كي استقي من مناهل الداهشية، بعدما عرفتُ أنه أحد المؤمنين بها، تلك العقيدة الروحانيَّة التي أتى بها الدكتور داهش لإثبات وجود الروح، في هذا العصر الذي بات يشهدُ انحطاطًا ماديًا زريًا، برغم التقدُّم العلميّ والتقنيّ.
أجل... قمتُ بزيارة الدكتور فريد في عيادته في بيروت، تدفعني لهفةٌ هاجعةٌ مُذ كنتُ في العاشرة من عمري، حين سمعتُ بعضَ الناس يتحدَّثون عن الدكتور داهش ومعجزاته الخارقة، وتمنيتُ يومها لو يتاحُ لي أن أتعرف إليه، وكنتُ ما أزالُ يافعًا. وها إن ذلك الحلم بدا حقيقة في تلك الآونة، وأتيح لي أن أصلَ إلى مُبتغاي.
فقصدت الدكتور فريد كي أستطلع حقائق هذا الأمر.
والآن، بعد السنين المنصرمة، ما زلتُ أتذكر أول لقاء مع الدكتور فريد، وهو فريد بتواضعه النادر المثال، وإطلاعه على الحقائق الروحية والحياتية، وجرأته في قول الحقيقة، وصدقه الصارم في أحاديثه؛ فيشعرُ المرء بطعم المحبَّة الذي تطلبه النفس من أعزِّ الناس وأقربهم ولا تجده. ويمتد الوقت والكلام المستساغ ليس منه شبعٌ أو ارتواء. فكان الدكتور فريد، بالنسبة لي، الأب والأم والأخَ والأخت في آنٍ معًا.
"أهلاً... أهلاً... يا أخي". هكذا يستقبلُ الدكتور فريد زائريه. فللحال يشعرُ الزائرُ بأنه في بيته وبين أحبابه. بهذه العاطفة النبيلة يعطي درسًا بليغًا في المحبَّة؛ لأن محبَّة حقيقية واقعية نبتت في ضميره ووجدانه تجاه الآخرين، أيًا من كان هؤلاء الآخرون. وهو لا يجاملُ، بل يقولُ الحقيقة التي تفيضُ من نفسه التي أدركت معنى الحياة والموت، معنى الصحة والمرض، معنى الفقر والغني، معنى النبالة والتفاهة، معنى الكبرياء والتواضع، معنى العفَّة والرذيلة... ففاضت نفسه الأبية بالمعاني الراقية المنزَّهة عن سخافات الرغائب الدنيوية البائسة، وتمسك بإيمانه القويم بفضل ملازمته لرجل الروح، الدكتور داهش، صاحب المعجزات الروحية الباهرة التي عاينها ألوفٌ وألوفٌ من الناس، بينهم الوزير والنائب والمحامي والطبيب ورجلُ الدين والأديب والصحافي والفيلسوف، عربًا وأجانب؛ وكلٌّ شهِدَ بما عاينه ورواه.
الدكتور فريد لا يحتاج إلى مديح. فكل المعاني تتراجع أمام صفاته الحميدة. ولا يستطيع قلم أن يفيه حقّ قدره. إنه مثل أعلى لكلّ من اتَّخذ درب النور والحقيقة، ونبراسٌ يستضيءُ بنوره المؤمنون، فينهجون على منواله كي تسمو أرواحهم ويدركوا أن لا خلاص للبشرية إلا بالعودة إلى جوهر الدين، حيث تقطُنُ المحبَّة الخالصة المنزهة عن الشرور. فالإنسان أخو الإنسان شاء أم أبى. لذلك قال السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم".
الدكتور فريد لازم الدكتور داهش منذ كان شابًا يمارس مهنة الطب. وأكبَّ على نهل التعاليم الروحية، وأيقن أن الرسالة الداهشية هي المنقذ الأوحد لأمراض هذا العصر، كالحروب والتعصب الديني والطبقي، فيتوجب على المؤمنين من أي طائفة كانوا، أن يتواصلوا ويتحاوروا ويتحابوا ويتقبَّلوا التعاليم السماوية، لأنها في حقيقتها واحدة، أساسها الوصايا العشر التي تبدو أنوارها ساطعةً في كل رسالة سماوية؛ والروح الإلهيّ يُعلِّم التقوى والصلاح، ويرشدُ الناس إلى الوحدة لا الانقسام: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لستَ منهم في شيء...) (الأنعام: 159).
لقد رحل الدكتور فريد عن عالم الأرض إلى عالم الخلود. فهو حيٌّ في عالمه الثاني، كما هو حيٌّ في نفوسنا. رحل في العشرين من نيسان عام 2003، عن عمر مديد ساعد فيه المحتاجين وهدى الضَّالين سواء السبيل. لم يغرّه جاهٌ أو ترف، مالٌ أو بنون، لأنه نبذ الدنيا وتمسَّك بالآخرة. عاش حياةً راضيةً مرضية، وتخلَّى عن وظيفته حين خيَّروه بين الرسالة السماوية أو الوظيفة مصوبًا وجهه المضيء، كشمس نوار، نحو درب الحقيقة.
أجل... لم يخشى السجون والحراب، وتحمَّل من الاضطهاد التعسُّفي في عهد بشاره الخوري (رئيس الجمهورية اللبنانية سابقًا)، دون أن تلين له عزيمة حتى انتصر الحقّ وأُسقط الرئيس عن حكمه قبل انتهاء ولايته. وقد عاينتُ، مرةً، الدكتور فريد يشرحُ لرجال الصحافة ولكثير من الحاضرين حقائق المُعجزات الروحيَّة واسباب حصولها، والتمييز بين ما هو حقٌّ وصوابٌ في التعاليم الداهشية، وما هو خطأ وضلالٌ في تقاليد موروثةٍ ليست لها قيمة تجدي نفعًا.
فإن غاب عنَّا الدكتور فريد، فهو ما يزال نبراسًا للجميع في هذه الغبراء الكئيبة. ومسكنهُ الأبدي الخالدُ في عالمٍ وضاء. وقد صبر وظفر... فهنيئًا له سعادتُه في تلك الربوع المقدَّسة أبد الدهر بين أحبابه القديسين الأطهار، والملائكة الأبرار.
فإلى روحك الطاهرة التي غادرت دنيا التراب هذه، وحلقت نحو الأخدار السماوية، أرفعُ سلامي وشوقي. ولعلَّك، ومن عالمك الوضاء – الذي أوصلت نفسك إليه بالتقوى والإيمان – تخاطب أرواحنا التي تحنُّ دومًا إليك وإلى سماع نصائحك فتستضيء بها إلى دربِ السماء، دربِ الخلود السرمديّ!*