الدكتور فريد أبو سليمان
"رجل ابتاعَ نفسَه فأعتقها"
بقلم نقولا ضاهر
من تاقتْ نفسه إلى السماء مدَّه الله بزاد المعرفة، وأكسبه نعمة الإيمان، وألبسه لباس التقوى ودرعه الحصينة. هذا شأن المؤمنين، بل هذه غاية القانتين الصابرين، في كل زمانٍ ومكانٍ وفي كل رسالةٍ ودين.وما كان الدكتور فريد أبو سليمان إلا واحدًا منهم.
إنسانٌ طيِّب القلب، ورع، نقيّ السيرة والسريرة. عرفته عن كثب، سحابه أربعين عامًا، أخًا داهشيًا مُخلصًا وفيًا لرسالته الروحية وفاء السموأل. رافقته مراراً في زياراته وفي اجتماعاته وفي ندواته ومحاضراته، فوجدتُه إنسانًا مؤمنًا بالله العظيم إيمانًا مطلقًا، إنسانًا محبًا يريد لسواه ما يريده لنفسه؛ إنسانًا خلوقًا، حليم الطبع، لا ينطوي قلبه على ذرةٍ من حقد.
الدكتور فريد أبو سليمان فصلٌ بهيٌّ من فصول التاريخ الداهشيّ. تعرَّف بالدكتور داهش أواخر عام 1942، وعاين ظاهراته الخارقة، ولمسها لمس اليد، فآمن بعقيدته الروحيَّة ومبادئها الإنسانية الخيِّرة، وكان المؤمن السادس في عداد لفيف من المؤمنين منهم الطبيب والمحامي والأديب والشاعر ورجل الفكر...
لكنَّ اضطهادًا غاشمًا أنزله بشاره الخوري، أول رؤساء لبنان المستقلّ (1943 – 1952)، بالدكتور داهش ومن تبنَّى آراءه، فاعتقل الدكتور أبو سليمان في جملة من اعتقل، لا لشيء إلا لأنه داهشيّ! هذا ما جرى في بلد يتغنَّى بحرية المُعتقد، والحرية فيه مؤودة! ويتباهى بدستوره، ودستوره حبر على ورق!
ومما أُثِر عن الدكتور فريد أبو سليمان، في أثناء الاضطهاد، أنه كان رجل مبدأ وعقيدة، له مواقف في تاريخ العقيدة الداهشية تنمُّ عن صلابته وثباته فيها. فلما طلب إليه الاختيار بين وظيفته الرسمية – وكان آنذاك طبيبًا شرعيًا في محافظة مدينة بيروت – وإيمانه بالداهشية، لم يتردَّد في الاستعفاء من وظيفته لئلا يحيد قيد أنملة عن معتقده.
ولم يقتصر اضطهاده على هذا التخيير، بل تعرّض للخطر أكثر من مرّة. فقد تعرَّض للاعتداء على يد نفرٍ من المأجورين؛ كما أطلق عليه النار بينما كان يقود سيارته، على طريق الجبل، عائدًا إلى منزله، فخرق الرصاصً السيارة، ولم ينله أي مكروه؛ فقد حرسته عين السماء التي لا تغفل ولا تنام، فنجا بأعجوبة، وصدق فيه قولُ القائل: وإذا العناية راقبتك بعينها، نمْ، فالمخاوف كلهن أمان ولا أحسبني مغاليًا إذا قلتُ إن الدكتور فريد أبو سليمان قد نذر نفسه للرسالة الداهشية، يجاهر بها حيثما وجد. كما إنه لازم الدكتور داهش ورافقه في كثير من زياراته لأصدقائه ومعارفه. ولم تكن عيادته في بناية سينما روكسي ببيروت مقصدًا للمرضى فحسب، بل كانت، أيضًا، مقصدًا لناشدي الحقيقة الروحيَّة أو للراغبين في مقابلة الدكتور داهش.
ولقد رافقته، أنا بدوري، في عدة زياراتٍ وإلى محاضرات، منها محاضرةٌ ألقاها في "مركز الشابات المسيحيات" القائم في شارع الحمراء ببيروت، فتحدَّث عن كيفية تعرفه بالدكتور داهش وما شاهده من ظاهراته الروحيَّة. كان الدكتور فريد يُلقي محاضرته، وكان الجو يسودُه الهدوءُ والاحترام. ولما فرغ منها، انهالتْ عليه أسئلةُ الحضور، مُستفسرةً مُستوضحةً، فكان يجيبُ عنها بلطفه وصراحته المعهودين.
وأذكرُ أنني رافقته عام 1986 إلى بروكسل لحضور محاضرة في موضوع الداهشية (ألقاها الدكتور غازي براكس)، ثم المشاركة في معرض الكتاب حيث أفرد لمؤلفات الدكتور داهش جناحٌ خاص. وإن أنسَ لا أنسَ كيف لازم الدكتور فريد الجناح الداهشيّ طول مدة العرض، وكيف كان يتحدَّث بلغته الفرنسية الجميلة إلى زائريه من غير أن يعتوره كلالٌ أو ملال، فيحدّثهم عن الدكتور داهش وأعماله وآرائه ومؤلفاته... كل ذلك بوضوحٍ ورحابة صدر.
ولقد تميَّز نشاطُ الدكتور فريد أبو سليمان، في حياته الداهشيَّة، بفضحه للشعوذة والمشعوذين حتى لقبته بعضُ الصحف اللبنانية باسم "فاضح المُشعوذين". وقد دفعه إلى ذلك ما أكدته له الداهشية من أن الخوارق أو المعجزات إنما هي وقفٌ على رسل الله أو هُداته، يصنعونها بهبةٍ وإذن منه تعالى. أما ما يزعمهُ المشعوذون من قدرات خارقة، سواء أكان "تنويمًا مغناطيسيًا" أم قراءة أفكار أم معرفة غيب أم غير ذلك، فليس، في حقيقته، إلا دجلاً قوامه الخفَّة أو المهارة أو التمويه أو الاتفاق المُسبق أو ما شاكل...
كان الدكتور فريد أبو سليمان يتتبَّع أخبار المشعوذين في لبنان، فيقصدهم حيث يعرضون "ألاعبيهم"، فيكشفها أمام الجمهور. وقد كنتُ في عداد مرافقيه إلى Alumni Club (نادي متخرجي الجامعة الأميركية ببيروت) حيث فضح أحد أخطر المشعوذين العالميين ، المعروف باسم "طهرا بك". كما رافقته، في بيروت أيضًا، إلى نادي Faubourg St. Honoré (وكان ملتقي النخبة المثقَّفة في المجتمع اللبناني) حيث شرح للحضور، بطريقة علمية عملية، بعض الاعيب المشعوذين كتنويم الدجاج والأرانب أو إيقاف النبض أو الاضطجاع على فراش من المسامير أو ما شاكل... ومما شدَّد عليه، يومذاك، أن جهل المشاهدين بقواعد "اللعبة" أو تقنيتها هو ما يُوهمهم بأن في الأمر إعجازًا، حيث لا إعجاز ولا من يحزنون! الدكتور فريد أبو سليمان قطب من أقطاب الداهشية، ارتبط بها اسمه، فإذا ذكر ذكرت، وإذا عُرض تاريخها لاح فيه وجهه بهيًا مُضيئًا. ما إن اعتنقها حتى اندفع يدعو إليها واضعًا يده على المحراث، لا يلتفتُ إلى الوراء، ولا يتورَّعُ من أن يتبرأ من جميع مناوئيه، وإن كانوا من أنسبائه الأقربين!
ولو شئتُ أن أختصر الدكتور فريد أبو سليمان لقلتُ إنه عين عرفت، فذرفت. عرفت الحقيقة، فذرفت دمعتين: دمعة الفرح لاهتدائه إليها، ودمعة الأسى على عالم البؤس والشقاء وعلى الهائمين فيه بلا نور.
ولئن قال الإمام عليّ بن أبي طالب: "الدنيا دارُ ممر لا دارُ مقر، والناسُ فيها رجلان: رجلٌ باع فيها نفسه فأوبقها، ورجلٌ ابتاع نفسه فأعتقها،" فلا يخالجني أدنى شكّ في أن الدكتور فريد كان الرجل الثاني؛ فقد عمل جاهدًا ليتخفّف من دنياه ويشتري بها أُخراه. ولم يفارقه الإيمانُ، يومًا، بأنَّ كل شيءٍ في الأرض زائل، وأن الإنسان فيها عابرُ سبيل، لا بدَّ له من أن يواجه الحقّ، عاجلاً أم آجلاً، ليحاسب على ما أتاه من أعمال. ولقد استغرقه هذا الإيمان حتى لم يعد يؤرقه أي سؤال. ولطالما تحدَّث عن العالم الآخر وكأنه يتحدَّث عن جارٍ له أو عن حديقة غنَّاء أُوتي له أن يشاهدها، مرارًا كثيرة، من خلال بعض الكُوى!
فهنيئًا لك، يا أخي الدكتور فريد، عالمك الذي استحققته بعد وعثاء الطريق! وهنيئًا لك ما قدمته لرسالتك وللمجتمع من خدماتٍ جليلة ستظلّ ذكرى طيبة للأـجيال المُقبلة، وعبرةً لا تُنسى لمن شاء أن يعتبر*. نيويرك، 6 أيار 2003.