رحيل آخر العمالقة
بقلم ماجد مهدي
الدكتور فريد أبو سليمان وجهٌ محبَّب غيَّبه الموت. وبغيابه رحلَ آخر عملاق من عمالقة الرعيل الداهشيّ الأول ليلتحقَ بقافلة الرفاق الذين سبقوه إلى دار الخلود بعد أن ثبتوا على المبادئ الداهشية، وأوفوا لها ولمؤسسها العهد والميثاق، باذلين من أجلهما عظيم التضحيات.
عرفته في منتصف الستينات من القرن المنصرم؛ وكنتُ قد خطوتُ خطواتي الأولى في ظلال العقيدة الداهشية بعد أن عاينتُ معجزات الدكتور داهش، وتيقنتُ من مصدرها العلوي، وأدركتُ مغزاها الروحيّ البعيد، وبعد أن حزمتُ أمري على انتهاج سبيلٍ جديد في الحياة في نور هداها. يومذاك كان قد مر على إعلان تلك العقيدة السامية قرابة ربع قرن، وكان الدكتور فريد أبو سليمان وهو المؤمن السادس بها – من أكثر الداهشيين تواصلاً بالدكتور داهش، تواصلاً يكادُ يكون يوميًا.
كنتُ يومها طالبًا في الصفوف الثانوية، وكان الدكتور فريد طبيبًا معروفًا في معظم الأوساط اللبنانية، نظرًا لحضوره المتميِّز على صفحات الجرائد والمجلات اللبنانية والعربية، إلى جانب الدكتور داهش تارةً وبمفرده طورًا، للتعريف بالظاهرات الروحيّة الداهشيَّة والمبادئ السامية الكامنة وراءها، ولسرد وقائع الاضطهاد الظالم الذي تعرضت له العقيدة ومؤسسها ومعتنقوها في عهد بشاره الخوري، رئيس الجمهورية اللبنانية (1943 – 1952). وبرغم فوارق السنّ والمكانة الاجتماعية والمعرفة الروحيَّة، فقد جمعت بيننا روابط أخوَّة صادقة، عابقة بعطرِ الإيمان، فزالت في ضوئها جميعُ الفوارق. كنتُ ألتقيه في منزل الرسالة ببيروت، أو في مقر عيادته الطبية القائمة في "ساحة الشهداء". وكان معظم الداهشيين يزورونه فيها، فضلاً عن مرضاه أو من شاقَهم التعرف، من خلاله، إلى الدكتور داهش وحقيقة أهدافه.
وما أكثر ما دار في تلك العيادة من نقاشاتٍ هادئة في موضوع الداهشية ومؤسسها وظاهراته الروحية والظلم الذي تعرض له، وحو حقيقة الأديان في جوهرها، وأسباب نهضة الشعوب والحضارات أو تقهقرها واندثارها، وأهمية السلوك البشري، الفردي والجماعي، وتأثيره في حاضر الأفراد والجماعات ومستقبلهم. وإنني أجيز لنفسي القول إن تلك العيادة المتواضعة كانت، في واقع الحال، عيادتين: واحدةً لأمراض الجسد، وأخرى لأمراض الروح! وعندي أنه لو خيِّر الدكتور فريد بينهما، لآثر الثانية على الأولى، وذلك من منطلق إيمانه الداهشيّ بأنَّ ما يصيب الإنسان من أمراضٍ جسدية له أسبابه الروحيَّة العميقة البعيدة، وأنه رهنٌ بارتقائه الروحي أو سقوطه في حياته الحاضرة وتقمُّصاته السابقة. وكانت التعاليم الداهشية المدعومة بالمعجزات الإلهيَّة، في منظوره، الدواء الشافي الوحيد للعلل المستشرية في الكيان الإنساني. لذلك رأيناه يؤثر التضحية بوظيفته الطبية الرسمية حين خيّرته السلطة اللبنانية، في عهد الرئيس الخوري، بين بقائه في الوظيفة أو بقائه على إيمانه بالداهشية. ولم يتردَّد لحظةً واحدةً في اتخاذ موقفه، إذ شتَّان ما بين الخيارين!
وإنني لأستذكر بإعجاب تلك العيادة وما كان يدور فيها كَّلما أطلت عليَّ، اليوم، أحداثُ العالم المفجعة، وقامت الدعوات الملحاح إلى الإنطلاق بحوار الحضارات وحوار الأديان لتجنب الأرض والإنسان، أي إنسان، كوارث لا تحمد عواقبها. ففي تلك العيادة، وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عامًا، تلاقت الحضارات وتعانقت الأديان في ظلِّ المبادئ الداهشيَّة العظيمة. وفيها كان الدواء للداء الإنساني الأخر؛ دواء لم تكن فيه لبشر يد. ذلك أن اليد التي جاءت به يد انطبقت راحتها على أسرار الأبد والمجهول؛ يد امتدت من دوائر النور العليا بغية إنارتنا وهدايتنا وإنقاذنا قبل السقوط الشامل المروّع. وما كان يتردَّد في تلك العيادة لم يكن غير أصداء لكلام الرجل الكبير، الدكتور داهش. وكم كان أجدى للإنسانية – إذا صحَّ أنها صادفةٌ في ما تدعو إليه اليوم من حوار – لو أنها أصغت، بالأمس، إلى ذلك الكلام المنزَّه عن كل غايةٍ، وفتحت مغاليق قلبها للشمس الآتية من البعيد البعيد!
لقد وجدتُ في الدكتور فريد أبو سليمان، منذ عرفته، أخًا مُحبًا، مثالاً في إيمانه، وفي حماسته المتوقِّدة لنشر المبادئ السامية التي كان يستقيها، مباشرةً، من مصادرها. وكان، في كل ما يقوم به من أعمالٍ ونشاطاتٍ، طيِّبًا الطيبة كلّها، صادقًا الصدق كلّه، متواضعًا إلى حدٍّ لا تواضعَ بعده! وكان يواجه الإساءة بمحبَّته المعهودة وطيبته الفريدة، لكنه كان يتحوَّل إلى نمرٍ شرسٍ متحفزٍ للانقضاض إذا ما أُسيء إلى عقيدته ومؤسسها، فلا يحسبُ عندئذٍ أي حساب لمن أساءَ أو اعتدى، مهما عظم شأنه. وقد تعرَّض، في خلال الاضطهاد، إلى اعتداءات متكرِّرة من قبل رجال السلطة وشراذم إحدى العصابات المنضوية تحت لوائها، لم يكنْ أقلّها السجن والاستهداف بمحاولة اغتيال فاشلة على يدِ واحد من أشهر قناصي رجال الأمن العامّ اللبناني. لكنها جميعًا لم تلوِ من عزيمته، بل شحذتها وزادتها مضاء، ودفعته إلى مقارعة الطغيان والانتصار للحقّ والعدالة حتى أذن الله بسقوط الباغية وانذثار عهده.
إن بعضًا من عظمة هذا الطيِّب الراحل أنه كان واحدًا من قلَّةٍ قليلة اختارت لنفسها أن تتعمَّد بأنوار تلك الشمس، وأن تتعلَّم في ظلِّها حروفَ الهجاء المضيئة. وقد وقع عليه الاختيار ليدوّن وقائع الجلسات الروحيّة، مواصلاً ما كلِّف به روحيًا عملاقُ الشعر والروح، الشاعر حليم دموس (1888 – 1957). وقد أخرج إلى النور، نتيجة مواظبته على التدوين، كتابين ضخمين فيهما من أسرار الحياة والموت والتقمُّص والعوالم الأخرى... ما لا تحلمُ الإنسانية بأن تقرأ مثيلاً له. وقد صدر له منهما كتابٌ أطلق عليه اسم: "في رفقة الهادي الحبيب" (نشرته الدار الداهشية في نيويورك عام 1997).
لقد تعلمتُ كثيرًا من هذا الأخ المُحبّ، الوفي كل الوفاء في إيمانه، والمُضحِّي حقًا في سبيل الحقيقة الروحية الخالصة. لكن أعظم ما تعلمته منه إفناؤه ذاته أمام تلك الحقيقة التي وعى، كل الوعي، أبعادَ عظمتها وقدسيتها، وسعيه الدائم لأن يكون ظلاً لها ولحاملها عن استحقاق وجدارة. ولقد قدَّم ذاته كلّها، لا بعضها، على مذبحهما. ومن قدَّم ذاته في أمرٍ جلل، هانت في عينيه كل التضحيات الأخَر.
قبل أسبوعٍ من غيابه، زرتُه في بيروت للاطئمنان على صحَّته. كان وجهه مشعًا بالنور، كما عهدناه، والبسمةُ تعلو ثغره. فخاطبني بكلماتٍ ودية مُسجَّعة، كما كان يحلو له أحيانًا أن يخاطب إخوانه. ثم قبَّلته مُودعًا، من غير أن أعلمَ بأن لقاءنا سيكون الأخير في هذا العالم بعد مضي تسعةٍ وثلاثين عامًا على تعارفنا.
وقبيل انتقاله في العشرين من نيسان 2003، هاتفت الأخت زينا حداد أطمئنُ عليه، فأبلغتني أن صحته مُستقرة. ولكن ما إن انقضت نصفُ ساعة حتى اتصلت بي هاتفيًا تُعلمني بخبر انتقاله المُفاجئ! فشخصتُ، من فوري، إلى مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث وضع جثمانه لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه. فقبَّلته، وشكرتُ له مثاليته وتضحيته ومحبَّته، وهنَّأته بعالمه الجديد البعيد السعيد، "مدينة الأحلام الفتانة"، حيث أوصل نفسه، ولا شكّ.
لقد غاب الدكتور فريد أبو سليمان، لكنَّ عطر محبَّته باقٍ، والمصباح الذي حملته يمنيه لن يغيب نوره إلى الأبد!*