فريد أبو سليمان
أشعل المحبة في ترابها ورحل
بقلم ياسر بدر الدين
تتذكَّره فتحسُّ كأنك مسافر في الطيبِ على أجنحة الفراش. اسم عطري كأن حروفه أغصان ندٍّ ومُرٍّ وبان، تنضفرُ وتنثر حبًا وزهرَ أمان.
توقَّف قلبه عن الخفقان لكنه ما يزال يخفق في القلوب. فريد أبو سليمان، بوجهه المورِّد ككومة من أزاهر الأصيل، وقوامه الذي لا يمشي في الأرض مرحًا، لم يمت، وإنما غاب كما يغيب نجم أو قمر، ليعود فيبزغ في سماء ليلٍ جميل.
فريد أبو سليمان لم يمت، فقط نزع عنه قميص التراب، وها هم الملائكة يخيطون له قميص النور. الذي مات هو الجسد، أما فريد الروح والأصالة والقيم فهيهات أن ينال منه الفناء.
فريد أبو سليمان وجهٌ ضوئي كأنه انبلاج فجر، وعائق لم ينؤ بثقل الأمانة، وهامةٌ انحنت تواضعًا أمام الناس وخشية وخشوعًا أمام العلّي العظيم.
وأنت تنظر إليه تكادُ لا ترى بشرًا، فقد أخذت ملامح وجهه شكل الطيبة والنقاء والنبل والمروءة، فكأنه امتدادٌ للطهر والصدق في عالم الرجس والأضاليل.
تتحدّث إليه كأنك تسامر الحلم وتخاصر النَّسَم. تصافحه كأنك تصافح الإيمان وتعانق المحبَّة.
فريد أبو سليمان، والاسم والصفةُ حفر وتنزيل؛ فريدٌ في طيبته ومحبته، فريدٌ في نظرته إلى نفسه وإلى الحياة. محب لغيره بقدر ما هو كارِهٌ لهواه. متشددٌ مع نفسه بقدرِ ما هو متسامح مع الآخرين؛ فالعثور على ذرةِ حقدٍ واحدةٍ في دمه ضربٌ من ضروبِ المُحال.
لو سألتم كواكب البهاء والسناء عن شكلِ سُكانها لأشارت إليه.
راضٍ مَرضيٌّ برزَتْ له الحياةُ بأحلى مفاتنها، فأشاحَ بوجهه عنها قائلاً لها: "غري سواي".
لو سألتم كواكب البهاء والسناء عن شكل سكانها لأشارت إليه.
راضٍ مرضيٌّ برزتْ له الحياةُ بأحلى مفاتنها، فأشاح بوجهه عنها قائلاً لها: "غري سواي".
رفيقٌ رقيقٌ ليِّن، قلّما عرفت النفسُ البشرية رجلاً أقسى منه عليها؛ جاهدها جهاد الجبابرة، وانتصر في الحربين: حربه على الذات، وحربه على الطُّغاة، فاحتفلت به الفضائل، وخلعت عليه طباعه الزهور، فكان عزيزًا كالورد، متضعًا كالبنفسج، طاهرًا كالياسمين. حتى إذا سار في الشمس خلُته واحدًا من أسرة الطبيعة: طيرًا أو زهرةً أو نغمًا.
عاشقٌ للحقيقة مُتعبد. خفيفًا أتى إلى الحياة وخفيفًا مضى. لكنه لقَّنها دروسًا، وترك فيها آثارًا لا تندرس.
فريد أبو سليمان ما مال إلى جاه أو رفاه. ما غره زخرفٌ ولا انغمس في ترف. تخلَّى عن منصبه حين نُصبَ له شركًا للإيقاع بينه وبين رسالته. ولطالما ردَّد على مسامعنا: "الرسالة، الرسالة هي كل شيءٍ، ولولاها لكانت الحياة أتفه من التفاهة".
اعتنق الرسالة الدهشية ورافق مؤسسها الدكتور داهش زهاء أربعين عامًا ملأها جهادًا وتضحية وفداء. اضطُهد وعُذِّب ودخل السجون ونجا من رصاص؛ فما جّبَنَ أو هان، ولا تخاذل أو استكان.
أحبُّ الرسالة الداهشية حتى العبادة فملأت عليه كيانه. أحبَّها وذاب فيها كما تذوب غيمةٌ بغيمة، أو كما تذوبُ في زُرقة الفجر عتمةُ السحر. أعطاها كله مجاهدًا بماله ونفسه, مؤمنًا بأن الرساليّ الحقّ يُضحِّي بنفسه من أجل رسالته، ولا يُضحِّي برسالته من أجل نفسه. لم يفكر لحظةً في كسب، فما وزنت موازينهُ ربحًا أو خسارة؛ كانت تزنُ الحقّ فتحقّه والباطل فتزهقه.
فتشتُ عن ملامح لحياته الخاصة فما وجدتُ. كل ما فيه كان عامًا حتى المشاع، كالأوقاف، كجمعيات البرّ، كغاب من الزهر والشجر يوزّع العطر والخضرة على الجميع. وجدتُ حياته جدولاً يصبُّ كل مائه في بحر الحياة، ولا ينقصُ منه إلا ما تشربه السابلة وعطاشُ الطريق.
كانت حياته العطاء، وكان لا يأخذ من دُنياه إلا كما تأخذ قوتها زهورُ الحقول وطيور الفضاء. وجدتُ شخصيةً فذَّة بين هوامٌ، وسوسنةً رائعةً بين عليق.
شخصيةٌ نيِّرة صاغ هالتها الصدقُ، ورسم شموخها التواضع، وكثفَ أضواءها البعدُ عن الأضواء، وأعلى مكانتها الغوصُ إلى عُمق الحقيقة والتعلّق بأهدابها، وتحمَّل تبعاتها الجسام.
وجدتُ هالةً احتاطته وما طلبها، ومكانةً احتضنتهُ ورفعتهُ وما سعى إليها، كما يسعى كياذبةُ هذا الزمان.
فللَّه، أيها الغائبُ، كم أنت قويٌّ الحضور!...
كم نتذكرُ رفعتكَ وسموك في سقوط هذا العصر! كلما اشتدَّ لهيبُ حرب نتذكرُ وداعتك وتسامحك، وكلما غلى حقدٌ في مرجل شهوة نتذكرُ محبَّتك وسماحتك، وكلَّما فحَّ غدر نتذكر وفاءك، وكلَّما فاحت رائحةُ سياسة نتذكر نظافة قلبك وكفك.
لله... لله كم عاكستَ خصال أهل هذا الزمان!...
ستٌّ وتسعون فلةً عشتها على هذا التراب، ما زال عطرها يملأُ صدرَ الفضاء، رغم ذبولها وأفولك. لقد تحوَّلت مواقف وبطولات وكلماتٍ مضيئة "في رفقة الهادي الحبيب" كتابك الخالد، الذي لا يُضاهيه بروعته إلا كتابُ حياتك وسيرتك، كتابُ الياسمين.
فريد أبو سليمان ذهب إلى حيث ينتظرهُ رفاقُ طريق الحبيب: حليم دموس وجورج خبصا وجورج وماري حداد...
ولسوف تذكرُ الأرضُ يومًا – ويا للمرارة – كيف نُصِبتْ على سطحها أعمدةُ النور، وكيف تأخذُ النبالةُ شكل البشر. سوف تذكرُ ونذكرُ ماردًا من طهرٍ مشى عليها بأقدامٍ من نار، وأشعلَ المحبَّة في تُرابها ورحل*.