المشعل الفريد
(مهداة إلى روح "الإنسان الفريد" الدكتور فريد أبو سليمان الذي تحرر من قيود التراب في 20/4/2003)
شعر نجوى سلام براكْس
بعضٌ من نفسي كنتُ أسكبُه في شجيرةِ الوزَّال
وأنا أزرعها في حديقة منزلنا...
وإذا نبأ انتقالك من دنيا الشقاء يبلغنا؛
فترقرقت دموعي لانطفائك المُفاجئ،
ولكن سرعان ما زغردت فرحتي
ليقيني بأنَّ جهادك الجبَّار
سيقودك إلى عالم النَّعيم حيث تستقبلكَ
عرائسُ الفراديس وربَّات الأنوار.
وعلى الفور تركنا الطبيعة لنُناجي خالقها،
فكتبنا أنا وغازي لك "الرموز" الداهشية
مُبتهلين إلى العزَّة الإلهيَّة.
كي ترقي درجتك الروحيَّة.
***
وما لبثتُ أن عدتُ إلى أمي الطبيعة
لأسمع الطيور الروحية اللامرئية
تصدحُ لانتصارك "الفريد" على المُغريات الدنيويَّة.
ورحتُ أتأمَّلُ في الأوراق الكثيرة الصفراء
التي تحملها شجيرةُ الوزَّال كألسنةٍ من اللهيبِ المُقدَّس،
فتثبُ إلى خيالي "رموزُك" الروحيَّة الصفراء،
فأرها كأنَّما احتلَّت أماكن أوراق الشجيرة.
وتتعالى النبتةُ الوهَّاجةُ في خيالي حتى تلامسَ السماء،
وأوراقُها "الرموز" الصفراءُ تتحوَّل إلى أجراسٍ
تصدحُ بصوتكَ الروحيّ البعيد:
"خلعتُ رداءَ التراب وقيد الدنى
فنلتُ نعيمًا مُقيمًا وأشهى المُنى".
***
ما إن مسَّت الداهشيَّة أوتارَ قلبكَ الطيِّب
حتى رحت تعزفُ ألحان الفراديس،
تسكبُها في آذان مرضاك وزائريك،
فجعلت من عيادتك الطبيَّة عيادةً
لمعالجة الأجساد والنفوس
والتبشير بالخلود بعد ضجعة الرموس،
وأفعمتَ نفوسَ الجميع بشذا المحبَّة.
لكنك أيضًا دافعتَ عن الهادي الحبيب
دفاعَ الرآبلة الراعد زئيرها في غابة الحياة،
وانتضيتَ السيفَ الداهشيّ
تطردُ به غربانَ الإساءة وبُومَ الإيذاء،
فمخرتَ عُبابَ المخاطر مُستهزئًا بمهازلِ الحياة
من أجل مجدِ الروح الخالد.
***
عرفتُكَ كالبنفسج متواضعًا،
وكالنسر المحلِّق صارخًا بالحقيقة الصادعة،
لا تهابُ حاكمًا ولا تحني رأسك إلاَّ للحقِّ وربِّ الحقّ،
عرفتكَ فتنسمتُ عطر سيَّالك الداهشيّ،
وطارت بي ذاكرتي إلى جلساتنا مع الهادي الحبيب،
يوم كنتَ تتشوق إلى معاينة معجزاته القدسية،
وتظمأ إلى إكسير إرشاداته الروحيَّة.
عرفتكُ أخًا مجاهدًا، جبَّارًا في إيمانه وعقيدته،
في أضلعكَ يخفقُ قلبُ طفل،
وبين مقلتيك مسرحُ النجم؛
تنهضُ مع أشعة الفجر الأ,لى
لتنسجَ الصلاة بقلبٍ ملؤه الإيمان،
وعندما تسحب ذكاء ذلاذلها
تعودُ إلى نبع الصلاة تستلهم القدرة الإلهيَّة،
فيبارك ليلك ونهارك،
وتتوسد طمأنينة البال وراحة الضمير.
إجتذبتك القيم الروحيَّة،
فنبذت كل غالٍ في سبيل الهادي الحبيب،
وطَّلقت كل شهوةٍ دنيوية،
بعدما نهلتَ من معين الروحانيَّة،
فكنت "فريدًا" بأخلاقك وإيمانك وجهادك،
"فريدًا" كاللآلئ الغوالي.
لا، لن تغادر بالي،
بل سيزدادُ ألقُ الحنين،
وتزهرُ أبدًا في ضمير التاريخ، في ذاكرة السنين.
***
من أجل الداهشيَّة حملت الصليب
ولازمت هاديك الحبيب
ملازمةً خطَّتْ اسمك الروحيّ
بحروفٍ عملاقة على لوحِ الخلود.
أسرِّحُ اليوم طَرفي فأراك في أعالي السماء
تسبِّحُ بين نجوم – الرموز
التي ناجيت بها بارئك مُجنّحًا بالسعادة الروحيَّة،
وحولك جوقات الملائك
تستقبلك بأناشيدٍ إلهيَّة
تسمو بسيَّالك الأعلى إلى ذكرى الكواكب العلوية.
كم من الجلساتِ الروحيَّة سُمِحَ لك حضُورها،
فسجلَّت وقائعها بقلمك الصادق،
بعدما انتشت روحك بخمرة الخوارق!
هجرت أقرباءك وأنسباءك، ونبذت ملاهي الحياة،
وفضحت مهازل السحرة والمُشعوذين.
عشقت الروحانيَّة حتى الصميم
لتحيا حياة الفضائل والمُثل العليا، حياة التقشُّف والزهد،
تعشقُ البساطة والوحدة الخصيبة،
وتستعذبُ آلام الاضطهاد في سبيلِ الهادي الحبيب،
وتستطيبُ جروح أجنحتك المنكأة،
الدائمة التحقيق في سماء الحياة.
***
اليوم غاب ليلُ جسدك ليبزغ فجر روحك
بزوغًا لا يعرفُ الأفول؛
انطفأ سراجُك لتتوهَّج أنوارُك،
فهنيئًا لك مجدك الروحيّ، وهنيئًا نعيمكَ الأبديّ.
لقد عاد النسرُ إلى ذُراه،
وما أعذب رُؤاه!
عادَ "فريدًا" بين النسور.
***
تبديت لنا جنةً وارفةً مزهرة،
وبعجائب ابن السماء منوّرة،
جنّةً سترودُ مفاتنها الأجيالُ الداهشيّة
جيلاً بعد جيلٍ بعد جيل،
جنَّةً يستلهمها المؤمنون ليتعرَّفوا الطريق إلى الفراديس.
***
لقد كنتَ واحدًا من مؤرخي مُعجزات الرسالة،
وفي خريف حياتك امتشقت الريشة
ورحتَ ترسُم، وما أروع ثمار يديك!
لن أنسى يومَ ألححْتَ عليَّ،
في إحدى زياراتي الأخيرة إلى لبنان،
بإعطائكَ صورةً لي لترسمَها،
فقلت لي: "مكانتُكِ في قلبي فريدة".
وكنتَ، يومذاكَ، محدودب الظهر،
شحيحَ النظر والصحة، فرسمتني بريشتك لوحةً
بثثتَ فيها نتفًا من سيَّالك الراقي
بعد أن سالت فيها ألوانٌ فاتنةٌ
تُرجِّعُ أصداء الإخاء والوفاء.
غرفتُكَ كانت معبدك ومكتبك ومكتبتكَ ومُحترفك،
سكنتها حوالى أربعينَ عامًا فجعلتها أوسعَ من العالم.
حقًا! عزلتُكَ كانت مُثمرةً بالخيال والصورة،
بصادق الكلمة وكنوزِ الروح.
***
على أجنحة زفيروس طرت إلى ذُرى جبالِ الجمال
حيثُ حليم وخبصا وماري وماجدا وأنطوانِت
مُشتاقون إلى لقياك،
وتاؤقون إلى متابعة مسيرة الجهاد معًا،
لنشرِ المحبَّة في كل كوكبٍ من رحاب الكون.
إلى بحيرة الداهشيَّة المقدَّسة عُدْتَ تتهادى
زهرةَ لينوفار تُسبحُ خالقها عبر تموّجات الأسرار،
فتفتحتْ أزاهيرُ أحلامك على تحقيق أمانيك.
ولا عجَب، فكم من الايام الأرضية أمضيتها صائمًا،
لتفطرَ على ولائم الفراديس المتألِّقة
بكل خارقٍ وعجيب!...
***
آهِ! ما أقصر الحياة البشرية
بالنسبة للخلود في الكواكب العلوية.
تجاوزت الخامسة والتسعين من عمرك الأرضي،
بعد أن اجتزت تجارب الحياة بنجاحٍ ما بعده نجاح!
دُستَ أباطيل التراب، ونفضت عنك غبار الأمجاد التافهة.
رحلتَ عنها، أرضِ العذاب،
وسرَّحتَ بصيرتك في آفاقِ النور.
فلم تترك قبرًا يُزار
ليكون عليه باقاتٌ من الأزهار،
ولم تخلف أي مزار،
تُبلله الدموعُ وتحرقُ فيه الشموع،
بل جعلت محرقة غاندي وماري قُدوتكَ،
فانطلقت جميعُ سيالاتك من كوكب الأدران،
من أرضِ الضلالِ والظلام،
وصُهِرَت ذرَّاتُ جسدك وهي تنطلقُ
كالنيازك في قُزحيِّ الأحلام.
لقد استحلت إلى شُعلةٍ روحيَّةٍ خالدة،
بل إلى فكرةٍ أولمبية تُلهم الفنانين والشعراء.
أصبحت منارةً للداهشيين، وقُدوةً للتائقين إلى الخلاص.
فتغلغل في حياتنا، وعلمنا الاقتداء بجهادك،
يا أوفى الأوفياء، ويا ابن الوداعةِ والنقاء.
بمركبة النور مضيت مُخلفًا اسمك كالبرق الومَّاض
في خضَّمِ أمواج الظلام المُتلاطمة؛
بسكونٍ كأسرابٍ من الفراشات الفردوسية
المُنتشية برحيقِ النور والزهور مضيت؛
توَّاقا لمعانقة رسولك الهادي
تواكبك جوقاتُ الملائكة الأبرار الأطهار مضيت؛
نسيمًا ربيعيًا مُشبعًا بالعطور
تألقًا للاندماج في سيّالات النقاء مضيت؛
سيالاتٍ نوارنية نسجتها بالصدقِ والإخلاص والصبر،
في أمسية صيامٍ هانئة ساحرة، مضيت...
مضيت بعد أن قمت بواجباتك الروحيَّة اليوميَّة
على أتمِّ وجهٍ وفي أعزِّ إنجاز،
بعدما طاردت مع إخواتك الداهشيين الأوائل
فلولَ الباطل وأعداء الحقيقة الداهشيّة،
ولاحقتهم مصوبًا إليهم وابلاً من سهامِ الحقّ.
***
سأذكرك كلما توقَّد قمر في دجنات الليالي،
وغاب نجمٌ في الأصابيح؛
سأذكرك كلما تنفَّس برعم،
وصمت بلبلٌ على غصنٍ مزهر؛
سأذكُرك كلما تهادى زورقُ المحبَّة على مويجات الخيال،
وانتصبت أشرعةُ النقاء فوق مراكب الجمال؛
سأذكرُك كلما هبَّت نسائم نيسان
وعلت وجنات الطبيعة ورودُ الجنان
سكرانةً بالعطور والأغاريد؛
سأذكرك كلما اشتعلت في الوزَّال أزهارهُ الصفراء،
ثم توهَّجت أوراقُه الخضراء،
وابتسمت فوقي السماء.
****
كما الرؤى القُزحية في الأحلام
ستطلُ علينا في ليالينا،
كما الصحو بعد عواصف الصقيع،
واخضرار الحقول بعد زمهرير الشتاء
سيبقى اسمك في ذاكرتنا مُشتعلاً كرؤيا فريدة؛
وكلما ابتسم الزنبق،
سأراك فيه تتألق،
وكلما انساب جدول، سأخالُك فيه تترقرق،
وكلما ابتسم فجر، سأرى فيه وجهك يُشرق،
فهل من عليائك علينا تُشفق
علَّنا نقتدي بخطاك،
وبأنفاس هُداك،
وبالروح مجدَّدًا نُخلَق!
ستبقى في قلبي، يا "فريد" الخصال،
ذكرى حلوة فريدة،
وردةً مخملية جوريَّةً مُشتعلةً بالا انطفاء... بلا زوال...
لا، لن أرثيكَ، أيها الطفل الكبير،
بل سأغنِّيكَ يا حبيبَ الحبيب،
وأُنشدُ أناشيد الفرح لما أحرَزتَ
من نصرٍ روحيّ مُبين
وللمآثر الروحيَّة التي أنجزتَ
خلال أعوامِكَ الداهشيَّة الستِّين.*