قصص غريبة
وأساطير عجيبة
الجزء الثاني
الدكتور داهش
دعد أجمل فتيات الصّحراء
دعد ! ربيبة الصّحراء وسمراؤها الدعجاء !
قوامها أهيف ، وردفها ثقيل ،
ووجهها وضّاح ، وعنقها يسبي العقول !
وفمها كالخاتم ، وشفتاها معسولتان ، وصباها يذهل !
وفتنتها تحيي وتميت !
انها أبهى فتيات قبيلة عنز وأروعهنّ !
وألطف ربيباتها وأرقّهنّ !
فدعد ذات الربيع الثامن عشر ، هذه الغادة الخفرة استحوذت على عقول شبّان القبيلة فباتت شغلهم الشاغل ، وحلمهم الدائم .
وتغنّى بمفاتنها شاعر القبيلة مهنّد اليستقي فحلّق وأبدع . وكان الشبّان الهائمون بحبّها العارم يردّدون قصيدته الغنائيّة التي تشيد بجمالها العجيب ولطفها الذي لا يبارى .
نشيد مهنّد اليستقي
دعد ! أيّتها الكاعب اللعوب ،
لقد ذهلت الصّحراء بمفاتنك ،
وتعشّقتك رمالها الذهبيّة .
انّ جمالك العجيب
أشرق على ربوع هذه الصحراء الممتدّة فبهرها .
واذا بأنباء حسنك الفردوسيّ النادر
بلغت الشمس في فلكها – فذعرت !
ذعرت من قصيدة الشاعر الذي يقول :
انّ جمالك يا دعد يتفوّق على جمال أشعّة الشمس النورانيّة .
فاستاءت ذكاء ، ثم هبطت من عليائها ،
وألقت بأشعّتها على مضارب خيام قبيلتك .
واذا هي تذهل من روعة قوامك العجيب
وبهاء وجهك الفردوسيّ المهيب ،
فضلا عن مفاتنك المذهلة بروائها !
فعشقتك وأحاطتك بأشعّتها السحريّة .
فازداد جمالك جمالا وبهاؤك بهاء .
انّ القوافل التي تغذّ السّير ،
تقطع القفار ، وتجتاز الفيافي ،
وتعبر المفاوز المترامية الأبعاد ،
وهي تحدو ، على ظهور نوقها وابلها ،
مردّدة اسمك ، متغنيّة بجمالك ،
متشوّقة لمشاهدة وجهك الفردوسيّ!
فقبيلة عنز دونك ما هي الاّ رماد خاب .
فأنت التي تحدّث الركبان عن صباك الريّان .
ولولاك لكانت قبيلتك نسيا منسيّا .
سيدور الزمان دورته الأبديّة ،
وستتلاشى الأعوام
وتفنى القرون
ولن يجود الزمان بدعد أخرى
تجاريك بمفاتنها ،
يا أروع حوريّة ،
هبطت الى عالمنا من فردوس النعيم المقيم !
فتنتها خلبت الألباب
واقتتل شبّان القبيلة لأجلها اقتتالا ضاريا ، كلّ منهم يريدها لنفسه . ودعد غير آبهة بأيّ منهم . فقلبها الفتيّ لم يخلبه خالب . انّ قلبها خليّ من الحبّ وحبيبها المجهول ما يزال في ضمير الغيب .
وطارت أنباء فتنة دعد الخلاّبة بين كلّ قبائل العرب ، فتحدّثوا عنها في مضاربهم . فهم فخورون بأن يكون هذا الجمال وهذه الفتنة قد حطّا رحالهما ، مستضيفين احدى فتيات العرب الصيد . فهم يمتّون اليها باللغة والعادات وسكنى الصحراء .
أمير قبيلة عميرات
وبلغ أمير قبيلة عميرات أنباء جمال دعد واسمه سيف القضاء وكان شابّا بمقتبل العمر . فتعشّقتها أذنه قبل أن تتدلّه بها عينه النقّادة .
وكان هذا الأمير الفتيّ متضلّعا من العلوم الخفيّة ، فاضّا لأسرارها ، فاتحا لمغاليقها ، دارسا خفاياها ، ملمّا بكلّ صغيرة وكبيرة منها .
واختلى باحدى الليالي ، في مضربه ، وأحيا الليل منقّبا في كتاب قديم مخطوط ، راغبا معرفة حظّه مع هذه الحوريّة اللعوب .
وشدّ رحاله حيث الحبيبة
وبعد أسبوع شدّ رحاله الى حيث تعيش دعد بكنف والدها في مضارب قبيلة عنز . وأخيرا ، وصل سيف القضاء برفقة حاشيته ، وحطّوا رحالهم بضيافة والد دعد واسمه مونّق اليخزمي . ورحّب المضيف بضيفه الكبير ، وأكرمه اكراما بالغا . فالأمير سيف القضاء شهرته بين قبائل العرب مستطيرة ، والمامه بعلم الغيب بلغت أنباؤه كلّ كبير وصغير من العرب .
فهم يحترمونه ويجلّونه ، ويهرعون اليه في ملمّاتهم مستنجدين بعلمه الغيبيّ ، وخبرته الروحيّة التي ضرب فيها بالسهم المعلّى ، وتمكّن منها تمكّنا تامّا فأصبحت له أطوع من العجين !
وذبحت الخرفان ، ونحرت العجول ، وتحلّق شبّان القبيلة وفتياتها حول هذا الأمير الخطير . وأقيمت له حفلة طرب وغناء تخلّلها رقص تبارى فيه الشبّان بخيولهم وأسلحتهم وهم على صهوات جيادهم العربيّة المطهّمة .
حب فغرام فعشق فهيام
وكانت دعد كالشمس المشرقة ، وفتيات القبيلة كالأقمار الدائرة بفلكها . فهي درّة يتيمة لا يجود الزمان بمن تضاهيها حسنا ورقّة وقتنة يجلّ الوصف عنها فيقصّر . وما التقت نظرات الأمير الشابّ بدعد حتى ذهل عن نفسه ، وتاه عن حسه ، وابتدأ يهبط ويعلو نفسه !
انه في حلم رائع ! وليس ما يراه حقيقة راهنة .
انّ هذه الفتاة الخلاّبة وهذا الجمال الفردوسيّ لا يمكن أن يوجدا في عالمنا الدنيوي . وما هي الاّ ملاك سماويّ هبط الأرض ليزرع فيها الفتنة التي لا تبقي ولا تذر .
وعشقته مثلما عشقها
وأصيبت دعد بما أصيب به سيف القضاء . ففور مشاهدتها ايّاه خفق قلبها به حبّا واشتعل غراما والتهب ضراما .
انه حبيبها الذي انتظرته طويلا . وها قد ألقت به الأقدار بين يديها . فيا لسعادتها العارمة !
وردّدت بقلبها دون شفتيها : أيها الأمير الحبيب انّ شبابك الغضّ قد فتنني ، ورجولتك أسرتني ، فأنا لك بقلبي ولبّي ، وأنت من سأهبك حبّي ، يا من لا أستطيع الحياة دونك أيّها الحبيب الحبيب .
كان بجسمه معهم وبروحه معها
كان الأمير يشاهد الرقص والاحتفاء به ، وهو موجود بالجسم مع مكرّميه ، أمّا روحه فكانت تحوّم حول حبيبته المفدّاة دعد فاتنة النجوم وساحرة الشموس .
ولم يستطع النوم اطلاقا ، وكذلك دعد . لقد ظلاّ مستيقظين ، والنوم أعجز من أن يستطيع السيطرة عليهما . فقلبه يقرع قرعات الحبّ العارم . وكل منهما يودّ لو يكون البادىء بالمجيء الى حبيبه . ولكن أنّى لهما ذلك , وأمامهما صعاب لا يستطاع خرقها . فعادات العرب مقدّسة ، وشهامتهم يضرب بها المثل . والويل لمن يجتاز عقباتها الكأداء .
وتمّ زواج الحبّ
ومكث الأمير أسبوعا كاملا حافلا بالتكريم لدى مونّق اليخزمي ، والد فاتنته دعد . وبنهايته باح لوالدها أنّه يبغيها لتكون زوجة له . فسرّ والدها لمكانة الأمير المرموقة , وعقد قرانه عليها ، وأقيمت الأفراح سبعة أيّام بلياليها .
وكم من شبّان القبيلة تحسّروا عليها ، واكتأبت أفئدتهم حزنا وأسى ، لأنّهم باؤوا بالخسران ، بعد أحلامهم الذهبيّة التي توارت حتى يوم يبعثون .
وعاد الأمير الى عشيرته برفقة معبودته
وودّع سيف القضاء والد دعد والقبيلة المضيافة ، وعاد بحاشيته وزوجته دعد الى مضاربه بصحراء سوريّة ، وابتنى لحبيبته ومعبودته قصرا منيفا لم ير الزمان أبرع أو أروع من هندسته المبدعة . وكانت مقابض الأبواب من الذهب النقيّ توشّيها الحجارة الكريمة . وطلب من أشهر مثّال أن يصوغ لمعبودته تمثالا ذهبيّا ترصّعه اليواقيت والماس والزمرّد ، فاذا هو فتنة للناظرين اليه .
وكان القصر الأعجوبة تحيطه غابة جميلة أشجارها ، رائعة أزهارها ، مذهلة بتغريد أطيارها الصادحة .
ومضى عام كالحلم ، والأمير يحظى بحبّ معبودته دعد المغناج ، هذه السمراء المبدعة المفاتن .
وحمّ القضاء الذي لا يرحم
وفي فجر اليوم الأوّل للعام الثاني دخلت دعد ، وقدّمت القهوة الى حبيبها المفدّى ، كعادتها اليوميّة . واذا بها تجده جثّة هامدة . فقد اختطفه ملاك الموت منها !
لم تعول ولم تنتحب لهول الصدمة المدمّرة .
وعندما تأكّد لها موته وعدم استطاعته العودة اليها شهقت شهقة الموت ، فاذا هي بجانبه جثّة هامدة !
كتبتها بالسيارة المنطلقة بي من نيويورك الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر تاريخ 16/5/1978
هوفاميا
الفصل الأوّل
مولد هوفاميا
أي الهات الشعر والفنّ والجمال ،
ويا ربّات البرناس المقدّس ،
ويا أيها الآلهة العظام في عليائكم ،
تغنّوا بفتنة هوفاميا الحوريّة الحوراء ،
وأذيعوا أنباء محاسنها .
واشدي يا ايونيه بمفاتنها المضعضعة للعقول ،
وردّدي يا دوريس المبدعة أخبار صرعى هواها ،
وقتلى حبّها وأموات صدّها وجفاها .
وغرّدي أيتها الطيور الجميلة بفرح وسرور ،
واصدحي يا بلابل الرياض ببهجة وحبور .
وترنّح أيها الورد الجوري ، واملأ الفضاء بعبقك المحيي .
وترنّمي أيتها الأزهار البرّية ,
فقد ولدت أفتن كاعب في البريّة ،
هوفاميا هوفاميا ،
منافسة أفروديت ربّة الفتنة والجمال ،
وذات الرّقة الفائقة والدلال !
ولتسعد أرضنا الشقيّة
بولادة هذه الغادة الالهيّة .
معجزة خارقة
ورفع ملك الهند جوشام صلاته الحارّة الى الخالق شيفا ليهبه ذرّية . فزوجته الملكة بليوتي التي يفنى بحبّها عاقر .
وأقيمت الصلوات في المعابد ، ورفعت التضرّعات بتبتّل لعلّ الاله شيفا يرزق الملك العظيم مولودا سواء أكان ذكرا أم أنثى .
وفي الهزيع الاخير من الليل اصطكّت أركان القصر الملكيّ ، وومضت بروق رائعة بدّدت الظلمات المدلهمّة .
وظهر في الفضاء فتاة يزري جمالها بالبدور الساطعة ، وهي جالسة على غيمة ناصعة البياض ، وبيدها زهرة لوتس صفراء اللون . كما وضع حول رأسها اكليل من هذه الزهرة الفاتنة بألوانها العديدة .
ودهشت الجماهير من هذه المعجزة التي أيقظتهم وجعلتهم يغادرون أسرّتهم ، ويحدّقون الى الفضاء . فاذا كلّ منهم مبهور لمشاهدته هذه الغادة السماويّ’ وهي تحيّيهم وتبتسم لهم ، قائلة :
- قريبا ، وترونني بينكم يا أحبّائي .
ثمّ اختفى هذا المشهد المعجز ، وسادت الظلمة الأرجاء ، فسجد الجمهور ورفع صلواته لشيفا خالق الخلائق ومبدع الكائنات .
وولدت العاقر
وأقيمت صلوات الشكر لشيفا في معابد الهند قاطبة ، طولا وعرضا . وقد ولدت الملكة طفلة رائعة الفتنة ، واستجيبت صلوات الملك وشعبه .
فأقيمت الأفراح التي استمرّت 40 يوما ، ووزّعت الصدقات ، ونحرت الذبائح ، وأتخم الفقراء ، وضحكت وجوههم بعد تجهّمها الطويل ، ووهب الملك الأراضي للفقراء والمعوزين منهم ، استبشارا بطفلته البكر .
وكان الوالدان يحيطان طفلتهما بأكبر عناية وأعظم اهتمام ، فهي ريحانتهم التي أضفت عليهما سعادة كبرى ، وأغدقت في جنبات القصر فرحا متواصلا .
وما شبّت عن الطوق حتى أحضر لها أساتذة وأستاذات يلقّنونها العلم والحكمة ، ويرضعونها لبان المعرفة . وكان جمالها الخارق حديث الهند من أقصاها لأدناها .
وأطلق والداها عليها اسم هوفاميا – أي زهرة الربيع الفاتنة .
وبلغت هوفاميا سنّ الثامنة وهي محفوفة بالخدم والحشم ، لا تردّ لها رغبة ، فكلمتها قانون مطاع .
والدهر قلّب
وزحفت جيوش زوزاسترا ملك الفرس ، واجتاحت جحافله مدن الهند الحصينة . وكانت فيالق فرسانه منتشرة كالجراد . فزوزاسترا طامع بكنوز الهند وخيراتها العميمة .
وأبيدت جيوش الملك جوشام ثمّ أصيب بسهم أرداه قتيلا ، مبكيّا عليه . فنكّست الأعلام ، وانتحبت الهند بقضّها وقضيضها عليه ، اذ كان أبا رحيما وبارا بشعبه . ولكن هكذا قضت ارادة الله ، ولا مردّ لقضائه الالهيّ .
وممّا زاد المأساة هولا وفاة الملكة بليوتي التي صعقت عندما بلغها نبأ مقتل مليكها وسيّدها .
منزل أمنع من عقاب الجوّ
وقبل أن يحتلّ الغزاة القصر الملكيّ ، غادر القصر كاتم أسرار الملك وخادمه الوفيّ جوبال المتهالك والمتفاني بحبّ الملك .
فقد رأى الخطر محدّقا بهوفاميا ، ففرّ بها في حلكة الليلة المشؤومة التي قتل فيها والدها الملك العظيم ، وواصل سيره على حصان أصيل ، وهو يحتضن هوفاميا ذات الأعوام الثمانية بين ذراعيه . ودامت سفرته عشرة أيّام ذاق خلالها الأمرّين ممّا لاقاه من عقبات منهكة بسفره الطويل .
أخيرا ، وصل الى حملايا . فهناك سبق للملك الراحل أن ابتنى بين شعاب هذا الجبل الشامخ منزلا متواضعا تحيطه حديقة صغيرة رائعة . وهذا المنزل تحجبه غابات كثيفة من الأشجار المتشابكة . وعبّدت طريق ضيقة يصل المرء اليها راجلا ، وعليه أن يسير بحذر كلّي خوفا من سقوطه الى الوادي السحيق الأغوار .
والطريق ملتوية متشابكة . فحينا يسير المرء بخطّ مستقيم ثم يتعرّج ، وحينا يهبط الدرب ليعود فيصبح طريقا متصاعدة ثم مستقيمة .
وحينما يبلغ المرء المنزل يجده أمنع من نسور الفضاء ، فهو في مأمن تامّ لا تراه العيون ، اذ انّ الصخور الضخمة العاتية تحجبه تماما عن الأنظار الفضوليّة ، وفيه كلّ ما يحتاج اليه المرء . وقد أمر الملك ببنائه تحسّبا للطوارىء . ولو لم يذهب ضحيّة السهم السامّ لحطّ رحاله فيه ، بعد اجتياح بلاده ، ولكن سبق السيف العذل .
هنا ترعرعت هوفاميا
في هذا المنزل عاشت هوفاميا اليتيمة ، وكان جوبال يلقّنها العلوم فهو حجّة فيها . واكتملت أنوثتها ، وضجّ جمالها ، وتفتّحت مفاتنها ، وازداد حسنها . وكان جوبال أتبع لها من ظلّها ، فهو يرافقها الى أيّ مكان تقصده في هذا الجبل الشامخ الذرى . فالحملايا يعتبر أعلى جبال الدنيا ، فعلوّه 29 ألف قدم . وفي الشتاء رياحه عنيفة مخيفة ، وأمطاره بالغة الغزارة ، وبروقه تومض فتضيء جنبات هذا الجبل الأشمّ ، مظهرة خفاياه ، مبدية زواياه . وحيواناته ضارية تجوب شعابه ، وترود أوديته السحيقة ، باحثة عن فريسة تفتك بها ، موردة ايّاها موارد التهلكة . ولكنّ المنزل المنيع من الصعب أن يصل اليه أيّ حيوان ضارّ ، فهندسته رائعة للغاية . فقد احتاط مهندسه لكلّ كبيرة وصغيرة فيه ، وخصوصا أنه بني في جوف الجبل الشديد الخطورة في فصل الصيف ، فكيف به في فصل الشتاء !
فعندما يغلق الباب الحديديّ المتين ينفصل عن العالم تماما ، ولا يستطيع الوصول اليه سوى نسور الفضاء وعقبان السماء . وكان الصخور الجبّارة تمنع الرياح الهوجاء بفصل الشتاء أن تصل الى المنزل ، فهو آمن تماما .
كما في هذا المنزل المتقن الهندسة حديقة داخليّة صغيرة ، ولكنّها فاتنة للغاية . وقد أبدع مهندسها بتخطيطها العجيب .
وكانت هوفاميا قد وضعت بقفصها الكبير مجموعة من طيور جبل حملايا ، ألوانها عجيبة وتغريدها يأخذ بمجامع القلوب . وكانت تقضي وقتها بالاصغاء لصدحها العجيب المتواصل .
وزحفت الأعوام زحفا عجيبا
ستّ سنوات توارت منذ قدمت هوفاميا الى هذا المنزل المعجزة . وقد شبّت الآن عن الطوق ، وأصبحت في عامها الرابع عشر .
بينما جوبال أصبح عمره 75 عاما ، وقد أمسى مسنّا أثقلت كاهله الأيّام .
وأخوف ما يخافه جوبال أن يدهمه الموت فتمكث هوفاميا وحيدة فريدة في هذا الجبل الرهيب . انه لا يستطيع أن يفكّر بهذا الأمر المرعب الذي كان يقضّ عليه مضجعه ويؤرقه دوما .
أما هوفاميا فقد أصبحت فتنة تبهر الناظر اليها ، وتذهل مشاهدها ، فيسبّح الله لهذا الجمال السماوي العجيب . لقد استدار نهداها ، وامتلأ فخذاها ، وكان أنفها الدقيق ، ووجهها الصبوح الرقيق ، وفمها الأحوى ، وشفتاها المعسولتان ، وقوامها الأملود ، وخصرها النحيل ، وعنقها المستطيل ، وردفها الثقيل ، ودلالها المحبّب ، تستهوي النفوس ، وترنّح العقول .
انّها وحيدة بجمالها ، فريدة بمفاتنها ، عجيبة برقّتها ! فيا لها من غزالة نافرة اتّخذت لها هذا الجبل الأشمّ لتحيا في ربوعه ، بعيدة عن مساوىء الناس وأطماعهم وغشّهم وتدليسهم . فما هي الاّ ملاك سماويّ طاهر ونقيّ !
واخترم الموت جوبال
في اليوم السادس والشهر الخامس من العام السابع لوجودهما بهذا المنفى ، اخترم الموت جوبال ، فحزنت هوفاميا حزنا هائلا ، وسفحت الدموع الغزيرة على مربّيها ووالدها بالتبنّي .
لقد أصبحت وحيدة فريدة في أرض الشقاء ووادي الدموع .
ووضعته في حفرة سبق لمهندس المنزل أن جهّزها مع حفرتين أخريين . وبضغطها على زرّ في الحائط أغلقت الحفرة اذ سقطت فوقها صخرة ، وذلك بطريقة ميكانيكيّة . ودوّنت هوفاميا يوم وفاته ، وهي باكية ملتاعة فقالت :
أي جوبال العزيز ،
أيّها الوالد الراحل ،
انني أرثيك بدموع عينيّ ،
وبدماء قلبي الحزين .
لقد رحلت أيّها الوفيّ ،
وتركتني وحيدة فريدة ،
في مكان ناء
لا أرى فيه مخلوقا بشريّا .
انّ حكمة الخالق قد أمرت فولدت ،
وليتني لم أولد في عالم الأرض ،
عالم الشقاء والبؤس والعناء .
وكم أتمنّى أن تقف ضربات قلبي
لأعود فأجتمع بك ،
يا أوفى الأوفياء .
فوداعا يا جوبال العزيز ،
وداعا والى اللقاء .
كتب الهند المقدّسة
كانت هوفاميا تطالع الأوبانيشاد والرامايانا والمهابراتا ، كما كان المنزل يحوي كتبا عديدة تبحث في العلم والأدب والشعر والتاريخ والرحلات وغيرها . فكانت تمضي الوقت بقراءة الكتب حتى حفظتها عن ظهر قلب وأصبحت حجّة فيها .
كذلك كانت تقضي شطرا من يومها بالاصغاء لصداح الطيور والاعتناء بها ، ثم بالعمل في الحديقة الصغيرة والاعتناء بالورود والرياحين التي كانت تضفي جمالا أخّاذا يبهج هوفاميا الفاتنة .
الفصل الثاني
ثورة كاسحة ضدّ الفاتح الفارسيّ
وتحكّم ملك الفرس برقاب الهنود واستعبدهم ، واختلس خيراتهم ، واستحوذ على كنوزهم في المعابد الهنديّة المقدّسة .
فضاق الشعب ذرعا من هذا الفاتح الظالم الذي لا يرعى عهدا . ففي العام التاسع لاجتياحه الهند أعلن الأمير الهنديّ بوتام الثورة على الغاصب ، فاشتعلت الهند بأكملها ، وابتدأت حرب العصابات تدوّخ الفاتح . فذعر ملك الفرس ، وطاشت أحلامه ، وخصوصا أتته أخبار اجتياح الاسكندر لبلاده فارس ، فعاد مسرعا اليها ، وهو مهيض الجناح ، والخوف يقطن في كبده ويقضّ عليه مضجعه .
وهكذا رفع النير الاستبداديّ عن الهند ، بعد استعمار تسعة أعوام لاقى فيها الشعب من الأهوال ما لاقى ، ولكنه فاز بالنهاية وظفر .
رحلة صيد بالحملايا
وجلس بوتام الشابّ على العرش ، وهادنه الدهر ، فازدهرت الهند بأيّامه . اذ أمر أن تشقّ الشوارع ، وتبنى القصور والمتاجر ، وترمّم الأبنية الني هدمتها جيوش ملك فارس . ونعم الشعب ببحبوحة كان يفتقر اليها .
وبعد مضيّ عام كامل على استرجاع استقلال الهند ، نظم الملك رحلة صيد ، ودعا اليها النبلاء والكبراء والوزراء ورجال الحاشية ، واستصحب ، بقافلته عشرة فيلة ، ومئة كلب صيد ، وعشرات من الصقور المدرّبة ، وخيولا عديدة .
وسار هذا الحشد ، ووجهته حملايا هذا الجبل الأشمّ ، وقضوا أيّاما حتى بلغوه وتسلّقوه .
وابتدأ الصّيد في شعابه ، وتفرّق الحشد في أرجائه همّهم الصيد الوافر ، والتمتع بمشاهد يشرف عليها هذا الجبل من قننه ، وتفرّقوا جماعات جماعات ، وكلّ منهم طامع في أن يصيب من الصيد أكثر من رفيقه .
والتقى بوتام بهوفاميا
وانفرد بوتام بسيره اذ استرعت نظره طريق ضيّقة عرف بنظره النقّاد أنّ يدا بشريّة قد مهّدتها وليست من فعل الطبيعة ، فسار عليها ، وكانت هي الطريق التي تقود الى منزل هوفاميا .
ورافقه كلبه المفضّل المدلّل شوباق المعتاد على الصيد في شعاب الجبال ومسارب الأودية الصعبة المسالك .
وظلّ سائرا على الطريق الضيقة ، وكاد يتعذّر عليه سلوكها لضيقها ، فتارة كانت مستقيمة وطورا متعرّجة ، حينا تهبط وحينا تعلو . أخيرا ، وبعد معاناته المشاقّ ، وصل الى فسحة من الأرض تقوم فيها صخور جبّارة ، فبلغها ، وما عتّم أن فغر فاه عجبا ممّا رآه .
لقد شاهد وراءها منزلا متواضعا تحفّ به حديقة صغيرة جميلة ، وسمع غناء شجيّا تردّده حنجرة فتاة رخيمة الأنغام . فأشار لكلبه شوباق أن لا يأتي بحركة ، وفهم الكلب ما يريده سيّده ، فحرّك ذنبه وصمت . واقترب الأمير لناحية الغناء ...وكم كانت دهشته كبرى وذهوله عظيما !
لقد شاهد قتاة بمقتبل العمر ، جمالها لم تر مثله العيون ، وفتنتها لا تقاوم ، واغراؤها يكبّل الأنبياء بكبوله ، ويسقطهم بشراكه المعسولة . فتسمّر ...ولكن صعدت منه آهة قسريّة سمعتها هوفاميا ، فنهضت مبغوتة مذعورة ، ومأخوذة مشدوهة .
وتمتم الأمير بغمغمة خافتة وبنبرات متلعثمة :
- من تكون أيّها الملاك السماويّ .
وتضرّج وجه هوفاميا حياء ، وأجابت :
- انني فتاة بشريّة يا سيدي ، ولست بملاك .
وكان صدر الأمير يهبط ويعلو لدهشته من هذه المفاجأة العجيبة البالغة الاستغراب ، وكذلك هوفاميا .
وتمالك الأمير نفسه ، وقال لها :
- هل تسمحين لي بالجلوس على هذه الصخرة .
- لا مانع لديّ . وهل لي أن أعرف من أنت ؟ وكيف وصلت الى منزلي الخفيّ ؟
- أنا رائد جبال ، ومن متسلّقيها . وقد قادني القدر لكي ألقاك . فما أنت الاّ غزالة شاردة اتّخذت الجبل لها مقاما .
وازداد احمرار وجهها ، فاذا هي كوردة جوريّة مخضلّة .
لقد شعر الأمير بحبّ جارف يجتاح كيانه ، ويتملّك روحه ، لهذا الرشأ المذهل المفاتن . وتمنّى لو يستطيع الجثوّ أمامها والتوسّل اليها أن تهبه حبّها العظيم ، وأن تمنحه قربها الدائم .
ولكنّه تردّد لكي لا تذعر منه فتفرّ .
ولو عرف بأنّ حبّه قد تمكّن من فؤادها لأقدم على فكرته ولنفّذها .
دهشة بوتام العظمى
- لماذا تقطنين هذا الجبل الشامخ المنفرد ، أيتها الحوريّة الهابطة من فردوس النعيم ؟ وهل أنت بمفردك أم يشاركك المكان آخر ؟
- اني بمفردي بعد موت جوبال . ومنذ أربعة أعوام أعاشر الطير ، وأجاور الأزهار في الليل والنهار .
- ألا ترغبين بمغادرة هذا المكان المنفرد ، وتعيشين في لاهور أو بومباي أو في أية مدينة أخرى ترغبينها ؟ ومن أنت ؟ ومن هما والداك ؟
- أمّا والدي فهو الملك جوشام الذي قتله سهم مجرم عندما احتلّ ملك الفرس بلادي الهند المقدّسة ، وكنت ، يومذاك ، في عامي الثامن .
وقفز الملك بوتام ، والدهشة العظمى مرسومة على وجهه ، والذهول مرسوم على ملامحه ، وهو يردّد :
- يا لله ! لقد وجدتها ! لقد وجدتها ! فالشكر لك أيّها الاله شيفا مالك العوالم ومكوّن الكواكب .
وعرفت هوفاميا أنّه الملك
وقصّت هوفاميا على بوتام كيفيّة مجيئها مع والدها بالتبني جوبال حتى وصول الملك بوتام اليها . وحمرة الخجل تصبغ وجنتيها :
- هل لي أن أعرف من هو محدّثي ؟
ما كادت تنهي عبارتها حتى علت ضجّة كبرى ، اذ وصلت الحاشية وكانت تبحث في كلّ مكان عن مليكها حتى وجدته .
وأحنى الجميع رؤوسهم ، وحيّوا مليكهم ، فعرفت هوفاميا أنه مليك البلاد بعد والدها . وكان سرورها كبيرا . فمن أحبّته هو أعظم رجال الهند قاطبة .
وبوتام كان قد أخبرها عن هزيمة ملك الفرس وفراره عائدا لبلاده ، بعدما بلغته أنباء وصول الاسكندر لفارس . فحمدت الله وتنفّست الصعداء .
وتزوّج الحبيب حبيبته
وقبلت هوفاميا أن تغادر منزلها الجبليّ المنيع ، فالحبّ دفعها لهذا الاختيار المحبّب . ووصل الرّكب الى العاصمة ، وعرف الجميع أنّ ابنة مليكهم الراحل قد وجدت حيّة بعدما ظنّ الجميع أنها لاقت حتفها . كما عرف الشعب بحبّ مليكهم الجديد لابنة مليكهم السابق ، فكان ابتهاجهم كبيرا .
وأضيئت الفصور ، وعمّت البهجة والأفراح البلاد بأسرها ، فزواج مليكهم سيتمّ اليوم .
وأنيرت المعابد ، ورفعت صلوات الشكر ، ونحرت الخراف ، ووزّعت اللحوم على الفقراء ، وألقيت الدنانير الذهبيّة بكثرة في الطرقات ، فتهافت عليها الجميع أغنياء وفقراء . وزيّنت المتاجر ، وارتدى الجميع أبهى حللهم ، فاليوم عيد الهند الأكبر ، عيد زواج مليكهم بأروع فتاة هبطت الأرض منذ آدم وحوّاء .
وماتت هوفاميا
مضى عشرة أشهر على هذا الزواج الفخم الضخم ، وحبّهما يزداد اشتعالا وناره تذكى ضراما ، فهما جسدان تحتلّهما روح واحدة .
ووضعت هوفاميا مولودا ذكرا تهلّل له بوتام ، وطربت له البلاد ، وأقيمت أفراح ليس لها مثيل . ولبست العاصمة ثوبها البهيّ ، فالجميع أسكرهم الخبر وأطربهم الطفل . ولكنّ الناعي نعى لهم الهة الفتنة هوفاميا !
فيا للمصيبة المروّعة ! ويا للهول الصاعق !
فقد قضت وهي تضع مولودها !
فماتت البسمات على الشفاه ،
وصعق بوتام من هول الخبر المفزع ، وفقد عقله .
لقد أصبح مليك البلاد مجنونا خطرا !
الفصل الثالث
بوتام فقد عقله
كان جنون الملك بوتام خطرا للغاية . فهو يمزّق كلّ ما تقع عليه يداه ، ويحطّم أيّ اناء يكون بمتناول يده ، ويعتدي على كلّ من يراه أمامه . فاضطرّوا لأن يقيّدوه ليدرأوا عن أنفسهم شرّ جنونه ، وليمنعوه من الانتحار .
ومضى ستّة أشهر وهو بهذه الحالة المؤسفة المؤسية ، فشعر ذقنه طال للغاية ، وتهدّل شعر رأسه ، ورقّ عوده ، وشفّ جسمه ، وأصبح خيالا ، فهو جلد على عظم .
وكان تائه النظرات ، شارد الأفكار ، مضطربا في سيره ، حزينا بمنظره ، دامع العين ، ملجلج الصوت ، فحالته تعيسة كل التعاسة .
وتشاور الوزراء والكبراء ماذا يمكنهم فعله ، والملك قد أصبح لا عقل يهديه ، ويجب أن يكون للمملكة ملك آخر .
رجل الأسرار الخفيّ
واستأذن الحارس كبير الوزراء ، وأعلمه بوجود رجل يطلب بالحاح مقابلة رئيس الوزراء لأمر هامّ للغاية . فأدخلوه اليه ، وسأله الوزير :
- من أنت ؟ وماذا تريد ؟
- أنا يا سيّدي بامكاني شفاء المليك واعادة عقله اليه .
- هل تهزأ بي ؟
- معاذ الله ! وان لم أستطع شفاءه فما عليك الاّ أن تأمر باعدامي . فحياتي رهينة لديك .
فدهش رئيس الوزراء للغاية ، وقال له :
- وبأيّة قوّة ستشفيه ؟
فأجابه :
- منذ نعومة أظفاري وأنا مكبّ على دراسة العلوم الخفيّة ، فأصبحت لا تخفاني منها خافية . وقد برعت بعلم التنويم المغنطيسيّ ، فاتقنته اتقانا تامّا . فأنا أوحي للملك أو لسواه أن يأتمر بأمري حينما أسلّط عليه قوّتي المغنطيسيّة ، فأبرئه . وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان .
- لا بأس من اجرائك التجربة على الملك وشفائه بواسطة علمك ، ولكن حذار ، فالسيف سيقطع عنقك اذا لم تنجح .
- اتّفقنا .
قالها الرجل الخفيّ بنبرة قويّة تؤكّد صدق كلامه .
وانطلقت روح بوتام تجوب الكواكب
وأدخل على المليك المقيّد بسلاسل حديديّة ، فحدجه رجل الأسرار بنظرة نافذة ، وأمره أن ينام نوما مغنطيسيّا عميقا .
واختلجت عينا الملك ، ثم هيمنت عليه القوّة المغنطيسيّة فاستغرق بنوم عميق .
وسأله رجل الأسرار :
- هل أنت نائم أيها الملك العظيم ؟
أجابه :
- نوما عميقا وهنيئا .
- وماذا تطلبه منّي أيها الملك الجليل ؟ سلني ولك ما تريد .
- أريد أن تريني هوفاميا ، فحياتي بدونها يفضّل عليها ظلام القبور
- لك ما تريد . واني آمرك أن تحلّق بروحك الى كوكب المتاهة الكبرى ، ففيه أرواح من لم يمض على موتهم أكثر من عام .
وتقلّص وجه الملك بوتام ، وتوتّرت أعصابه ، وانتفخت أوداجه . ثم قال :
ها انّ روحي تخترق أجواز الفضاء بسرعة تفوق سرعة النور أضعافا مضاعفة . وها انّي أمرّ بكواكب وسدم ومجرّات يعجز لساني عن وصفها . وها هي المذنّبات تشقّ فضاء السموات ، ودويّها المردّم للكائنات يمزّق أذنيّ تمزيقا مروّعا .
فقال له رجل الأسرار :
- أكمل طريقك ، ولا تأبه لما تراه ، ولتكن غايتك بلوغ المتاهة الكبرى . فهناك محطّ رحالك اذ تتحقّق أحلامك .
واستمرّ بوتام يصف البروق ووميضها الخاطف ، والرعد القاصف ، ومسالك النجوم في مساربها ، والرجوع في دروبها ، والشموس النيّرة ، والأقمار المشعّة ، والعواصف الكونيّة ، وعويل رياحها القاصف ، ودمدمة الذرّات الكونيّة وهي تدوّي في أرجاء اللانهايات الأزليّة .
وكان الوزراء والعظماء صامتين ، وكأنّ على رؤوسهم الطير جاثم ، مشدوهين ، مذهولين ، وعيونهم جاحظة ، محدّقة الى مليكهم في رحلته الكونيّة الروحيّة .
في المتاهة الكبرى
وقال الملك بوتام :
- ها قد ولجت كوكب المتاهة الكبرى ! فيا للمشهد العجيب ما أروعه ! وما أشدّ بهاءه ! وما أغرب أشجاره ، وأفتن أطياره ! فكلّ ريشة من أيّ طائر لونها يختلف عن الريشة الأخرى ، فهو مجموعة من ألوان سحريّة تأسر الألباب . أمّا تغريدها فيا له من تغريد سماويّ تسكر النفس من سماعه ، وتحلّق في الملكوت الأعلى ، مسبّحة خالق هذا الكوكب المدهش .
واقترب من بوتام هوتار حارس الكوكب القصيّ ، ومنعه من السير في شوارع مدينة الموتى . وأمره بالعودة ثانية الى الأرض ، قائلا له :
- لم تأت ساعتك بعد ، فعد الى أبناء قومك .
بكى بوتام فاخضلّت لحيته لعظيم نواحه ، وقال لحارس الكوكب :
- رحماك أيّها الملاك الكريم ، فحياتي دون معبودتي هوفاميا لا معنى لها ، فارحمني واجمعني بها ، جمعك الله بأحبّ من اختارته روحك النبيلة .
- هذا ليس باستطاعتي ، يا بوتام ، فمن المستحيل تجوالك في عالم الموتى ، عالم المتاهة الكبرى .
ومرّت الالهة بنديا الهة الموتى بقرب الحارس وبوتام ، وبرفقتها حبيبها الاله ماساثي ، وهو الذي يحاكم أرواح الذين بلغوا هذا الكوكب ، وسمعت استرحام بوتام للحارس هوتار ورفض هوتار توسّلاته ، فرجت حبيبها أن يسمح لبوتام أن يجتمع بمالكة قلبه وسالبة لبّه هوفاميا ، مدّة أقصاها عشر دقائق . فنزل عند رغبتها ، اذ كانت لديه أثيرة ، ولا يرفض لها طلبا مهما عظم .
والتقى بوتام بهوفاميا
وسار بوتام مع الحارس ، فقاده الى حديقة رائعة الفتنة انما هي جنّة الفراديس الخالبة للألباب .
وكانت هوفاميا جالسة تحت شجرة فردوسيّة بجانب غدير يترقرق ماؤه . وكانت الطيور ذات الألوان المتعدّدة تحوم على كتفيها وتسمعها أغاريدها الفردوسيّة المبدعة !
وما كادت هوفاميا تراه حتى صرخت صرخة الفرح الكبرى . وبتام ندّ صيحة أعظم من صيحتها ، وضمّ أحدهما الآخر بشوق هائل لا يعلو عليه شوق مهما عظم .
- هوفاميا ! لقد أصبحت حياتي ظلاما بعد رحيلك عنيّ . ففقدت عقلي ، وأصبحت تائها غريبا عن حياة الدنيا . تتراءين لي ليلا ونهارا فأردّد اسمك العذب ، وأنت لا تجيبينني . والآن قد اجتمعنا ، ولن أنفصل عنك أبد الدهر .
- بوتام ! أيّها الحبيب المفدّى ، انّ هذه الجنّة الغنّاء لم تبدّد أحزاني ، ولا أزالت أشجاني ، لأنّك لم تكن معي . وهذا الفردوس الغارق في النعيم المقيم كنت أراه جحيما تحيط بي نيرانه المتأجّجة لفراقي عنك .
والآن ، قد اكتنفتني السعادة الخالدة ، فدعني أدفن رأسي بصدرك ، أيّها الحبيب ، ولننعم في هذا الفردوس ، معا ، حتى أبد الآبدين .
ووضع شفتيه على شفتيها ، وضاعا في عالم الحبّ الحافل بالبهجات السماويّة واللذاذات السرمديّة .
وعادت روح بوتام الى الأرض مكرهة
كان الوزراء والعظماء يشاهدون مليكهم بوتام يضمّ بين ذراعيه الهواء . ويقبّل الفضاء ، وهو يتحدّث مع هوفاميا التي لا تراها عيونهم . فيزداد عجبهم ، ويستبدّ بهم الاستغراب الشديد .
فيسأل رئيس الوزراء رجل الأسرار :
- ومتى ستوقظ المليك ؟
فيجيبه :
- لقد انتهت الدقائق العشر التي منحها مليككم من حاكم كوكب المتاهة الكبرى وسأعيده ، الآن ، الى الأرض .
وأمر رجل الأسرار الملك بوتام أن يعود الى الأرض ، فندّ صيحة عظمى ، رافضا العودة اطلاقا .
لكنّ ارادته كانت مقيّدة بارادة رجل الأسرار ، فأمره أن يعود . فعادت روحه مرغمة على أمرها ، مكرهة ، وأمره أن يستيقظ . ففتح عينيه ، والتفت يمنة ويسرة ، ثمّ صرخ بصوت عظيم :
- هوفميا ، لقد فصلوني عنك أيتها المعبودة .
وحدّق بعينين جاحظتين الى رجل الأسرار ، قائلا له :
خذ مملكتي ، وأعدني الى حبيبتي ومعبودتي هوفاميا . رحماك أعدني اليها ، وكفاني آلاما جسيمة لا تطاق . ارحمني وأعدني اليها ، وخذ كلّ ما أملكه من حجارة كريمة وقصور أنيقة ، وضياع أثيرة . رحماك ، ألا تسمع ؟
ثم جعل ينتف شعر لحيته ، ويقطع شعر رأسه ثم يرطمه بالحائط ، والوزراء والحاشية لا ينبسون ببنت شفة لهول المشهد المفاجىء . وأخيرا ، رطم رأسه بقوّة عظمى على الحائط فتهشّم ، وفاضت روحه الى بارئها .
وحدث هرج ومرج عظيمان اغتنم فيهما رجل الأسرار الفرصة ، فانسلّ هاربا من القصر .
وعندما ثاب للقوم رشدهم ، بحثوا عنه فلم يجدوه .
وهكذا كانت نهاية ملك الهند بوتام . فلعلّ روحه اجتمعت ، بعد انطلاقها ، بروح معبودته
هوفاميا
بدأت كتابتها في الساعة العاشرة صباحا , وأنا في السيارة الذاهبة بي إلى مطار كندي , ثم في أثناء عودتي إلى نيويورك . وقد أنهيتها في الساعة الواحدة بعد ظهر 17\5 \1978 , وأنا بالسيارة .