لن تعود
مجلّة ألف ليلة وليلة
بتاريخ 23 نيسان 1945 نشرت مجلّة ألف ليلة وليلة , لصاحبها كرم ملحم كرم عدداً كاملاً عن مأساة إنتحار ماجـدا, نقلاً عن مذكّراتها . وها نحن نعيد نشر الصفحة 25 منه .
" وبات شغلي الشاغل بعد إعتقال النبيّ الحبيب أن أثأر له ممن أنزلوا به الضنى . وصمّمت على القتل, على الجريمة. روح بروح . وأوشكت أن أدرك الوطر في 11 تشرين الثاني 1944 في المعرض البلجيكي في بيروت . غير أنّ الزمن كان معاندي . فانطلقت إلى عاليه لتحقيق مأربي فما أسعفني القدر . وإذا رسالة تَردْ من داهش تصدّني عن المبتغى . قلت : بل سأنتقم, سأنتقم من المُضطهدين, ممن كتبوا علينا الشقاء !
بيد أنّ الرسالة هنا, أمامي, فكيف أنقض أمراً يفرضه النبيّ الحبيب ؟ .. وأدركني الوهن . وشعرت بأنّي أذوب؛ بأنّي أفنى ساعة فساعة . وبدوت شرسةً, كارهةً للحياة . فدعاني الأهل الى براح لبنان الى مصر, فرضيت بعد مكابرة . ولكنّ العصبة الحاقدة علينا لم تشأ أن أنطلق الى مصر, فهي تصرّ على بقائي في لبنان أشقى وأتعذّب . أيّها النبيّ, أيّها النبيّ , أين أنت كي تنقذني من علّتي, كي تخفّف عنّي وقع المُصاب؟ .. ليست حياتي, وقد حجبوك عنّي , غير نار تحرق ولا تبيد. هي نار دائمة الإضطرام . إلاّ أنّي سأنجو من أعبائي, سأنتقم من أعدائك بنفسي . فإذا منعت عنّي قتلهم فلم تمنع عنّي أن أطفىء حياتي بيدي, أن أسدّد الى رأسي رصاصاً نويت أن أسدّده الى صدورهم !
أيّها النبيّ, لقد أبقيت في أضلعي لهيباً لا يخمد . كلّي إليك حنين وهيام. على أن دهري كافر لا يشوقه أن أنعم بالهناء . فقد اختارني منذ نشأتي للموت, ولست أخاف الموت. أين أنت أيّها المسدّس المنقذ كي أضمّك الى صدري, كي أقبّلك وكأنّي أقبّل ذاك؟ .. لست أخشى برودتك وأنت مستودع الشرر . تعال؛ عانقني, انفذ إلى مكمن العذاب وحلّ قيودي, وضمّد جراحي . هي جراح لا أقوى على إحتمال مضضها !
إليك عنّي أيتها الحياة , فأنت بؤرة ديدان , ملعب ثعابين وتماسيح. شبعت منك على شحّك وحقارتك أيّتها الدنيا. يا نبيّ السماء أغفر لي , أنا علّة شقائك . دقت ساعة الخلاص ! ... "
وقفت يد ماجدة عن الكتابة . فجفاها القلم وقد أتعبته يمناها , بل هي جفته وتعبت به . فاستلقت في سريرها, لا لتقرأ كعادتها , بل لتدفىء المسدّس البارد باللظى المتفاقم فيها . بركان على بركان . وإذا البركان الجامد, الأخرس, العابث به الجليد, يتكلّم . لفظ كلمته , هذا الساكت دهراً والناطق كفراً , لفظ كلمةً , حرفاً . وبكلمة, بحرف, أطفأ حياة!
ماجدا في ذمّة القدر . وتجاذبت الأيدي في مدينة بيروت الرعوبة ورقة تنعي ماجدا حدّاد . ماجدا عنوان التضحية المثلى , والحبّ المفجوع : " بحق الله والنبيّ الهادي , جورج إبراهيم حدّاد وزوجته ماري شيحا والإخوة والأخوات الداهشيّون ينبئون بأنّ روح عزيزتهم إبنتهما ماجد حدّاد قد إنتقلت إلى جوار ربّها يوم السبت في 27 كانون الثاني 1945 عن ثمانية وعشرين ربيعاً . وهي تدين بالمذهب الداهشيّ . وجرى الإحتفال بدفنها يوم الأحد في جونية على الطريقة الداهشيّة . بحق اللّه والنبيّ الحبيب الهادي أن يمتّعها اللّه بجنّات النعيم ! " .
هذا نصيب ماجدا من دنياها , رصاصة وورقة بيضاء طبعت عليها ظلال من سطور ترفّ عليها النجمة الخماسيّة . نجمة تشعّ في نجمة تنطفىء . فاكمدّت الوجوه . هذه ضحيّة رخيصة . وطربت نفوس . فالجهاد أحياه الإستشهاد . وهناك, في المنفى القاتم, إنتفض قلب , وومض رجاء على أطلال رجاء, واختلجت شفتان بفيض الأسى: لن تعود !
داهش الجازع يتلهّف على ماجدا المغالية في الوفــاء !