أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

 

رسالة الدكتور داهش الأولى
للدكتور حسين هيكل باشا

 

أرسلت مع الشاعر حليم دمّوس
فسلّمها للدكتور حسين هيكل يدا بيد

حلب في 30 تمّوز 1951

حضرة الأديب الكبير الدكتور محمّد حسين هيكل باشا
حرسته عين العناية الساهرة

 

أخي الحبيب ،

واسمح لي بأن أدعوك بهذا الاسم الحبيب على فؤادي ؛

لأنني – والله شهيد على ما أقول – قد عرفتك منذ أعوام موغلة في القدم ، اذ طالعت ما خطّه يراعك الساحر منذ كنت يافعا .

نعم ، لقد قرأت كتبك منذ نعومة أظافري ، ولم يكن في مقدوري يومذاك أن أبتاعها لفقري المدقع ، فكنت أستأجرها وأرتشف محتوياتها بشغف عجيب . وكذلك نهلت من بيانك العذب المورد شابّا ، وانكببت على التهام مؤلّفاتك القيّمة كهلا .

وأيم الحق , كانت لي غذاء سماوّيا , وزادا روحيا , بل كانت لي الروح والراح .

وكلّما كنت أزداد من هذا الراح شربا أراني قد ازددت معرفة وحكمة وصحوا .

نعم , يا أخي الحبيب , لقد رافقتك في مراحل مؤلفاتك التي هي مفخرة للمكتبة العربية , وتاج ثمين يزين هامتها ما خلدت دنيا الأرض وخلدت أمّ الضاد .

وهكذا يكون الدكتور هيكل باشا قد أسدى للأدب الرفيع يدا بيضاء لا ولن تنسى على مر الدهور وكرّ العصور .

كما أنني كنت أطالع مجلّتك الراقية " السياسة الأسبوعية " من الدفّة الى الدفّة , وما زلت أحتفظ بهذه المجلّة القيّمة مجلّدة . كما اني احتفظ بمجموعة كتبك التي أعدّها ثروة أدبيّة ثمينة قيمة بالفخر والاعتزاز التاميّن .

إذن , ألا يحق لي أن أدعوك بأخي الحبيب , وأنا من كنت وما زلت أتغنى بأسلوبك الرائع وبيانك المشرق ووصفك الأخاذ الذي يهيمن على المشاعر الحسّاسة بعدما شبعت دنيا العروبة من الأسلوب الكتابيّ المائع الذي لا روح تسري فيه فتحييه .

لهذا آمل من أخي الأديب العروبة أن لا يستهجن مناداتي إيّاه بأخي بالنسبة لعدم مساعدة الظروف بالاجتماع به لتمكين أواصر الصداقة الأخويّة المتينة العرى فيما بيننا .

ومن هو الشخص – وهبه متحجّر العاطفة ، صخريّ القلب ، فولاذيّ الأعصاب – الذي لا يترب ويحلّق في الملإ العلويّ بعد قراءته لوصفك السحريّ العجيب ، لمغرب الشمس بين بودابست وفيينا ، وذلك في كتابك القيّم " ولدي " في الصفحة 278 :

" ظلّت المعركة السماويّة حامية الوطيس زمنا لم نر فيه المتحاربين ولم نر غير أثارها الدائمة التغير يتغالب فيها الدم واللهب والفضة والذهب . وكأنما كان هؤلاء الملائكة والجنّ فنّانين في قتالهم فلا يرضون أن يتناثر من دمهم ولهبهم ومن فضّتهم وذهبهم الاّ المقادير التي تبدع في السماء أبهى الصور وأكثرها أخذا باللبّ ولعبا بالفؤاد . فهذا الشفق الملتهب بالحمرة القانية شقّ طريقه من خلاله شعاع متورّد كأنّما الشمس تعود أدراجها كي تعيد الى النهار المحتضر حياة ونشاطا ، ثم لا يلبث الشعاع أن يخبوا لتندلع في نواحي السماء الداكنة الزرقة ألسنة كأنّها في حمرتها ألسن الثعابين الضّخمة المخفوفة ، ويبدو في الجانب الآخر قوس قزح بألوانه السبعة ، ثم يختفي ثم يبدو من جديد ، ثم اذا اللهب القاني قد غمر ألسنة الثعابين ، وامتدّ حتّى أحاط سحبا مجاورة بأطواق من نار . ثم اذا هدنة في المعركة السماويّة يشعرك بها بدء انحلال الدماء ، واستحالة لون السماء الى شيء من الزرقة ، ثم ما نلبث أن نرى صورة أخرى للمعركة بدت في الجانب الشرقي من السماء حتى لكأنّما لهذه الحرب ميادين مختلفة مثلما كان للحرب العظمى . ولقد كان هذا المغيب حقّا مغيبا أعظم ، وكان هذا الشفق ممّا يتضاءل أمام جلاله كلّ شفق .

وشدّت أنظارنا الى السماء أثناء هذه الحالات جميعا ونحن ذهول ، شرد لبّنا في عبادة هذا الابداع ، مفتونون به عن كلّ ما يتخطّاه القطار من سهل أو جبل ، ناسون أنّ ثمّ أرضا ، وأنّ نقطع أبعاد هذه الأرض الى غاية نقصدها .

ولم نتبادل أثناء ذلك الاّ عبارات الاعجاب بما جدّ في السماء ، جديد يهتزّ الفؤاد لروعة جماله . ولم يوقظنا من ذهولنا الاّ أن تبدّت عمائر فيينا يحجب بعضها بعض السماء . هنالك أدركنا أن في الحياة شيئا غير ما كنّا نشهد . وأسفنا لهذا الذي أفسد علينا بهرنا وذهولنا ، والذي نبّهنا الى الزمن وفراره ، وان كانت الطبيعة قد عنيت بأن تهوّن علينا من أسفنا ، فلم تقم عمائر فيينا الاّ ساعة آذن المغيب بالانحدار في غيابات الليل وظلماته " .

هذا بعض ما وصفته بقلمك الجبّار الذي تنثال منه سلافة الرقّة البالغة منتهاها ، فحيّاك الله وبيّاك .

وهل بأمكاني أن لا أنتشي برحيق الغبطة والسرور وأندمج في لجج الانشراح والحبور بعد هذا الوصف العجيب الذي تعجز عنه الاقلام اللّهمّ ما خلا قلمك الذي برهن ويبرهن وسيبرهن أن من البيان لسحرا ؟

وان أنس فلن أنسى ، يا أخي ، قطعتك الوصفيّة التالية أيضا ص 337 من كتاب "ولدي" :

" وقد رنّت الشمس نحو الغرب واحمرّ نورها . انظر الآن الى قمم الثلج . يا لبهاء الجمال الباهر ! ... ما أشدّ هذا العيد سحرا ! استحال الثلج وردا ، فالورد عسجدا ، فالعسجد دما ، فدكّن الدم حتى أظلم . ويستحيل الثلج في هذه الألوان مبطئا متمهّلا ، والأنظار اليه مشدودة حتى لا يفوتها منه منظر . والقمر يحبو من وراء الثلوج متورّدا ليستحيل هو الأخر ورويدا رويدا الى لون الذهب . والسماء من وراء ذلك تضرب فيها أشعّة الشمس وتطوّق ما بها من سحب بمثل ما تصبغ به الثلج من ألوان .

بين هذه المناظر كلّها تائه اللبّ ، مشرّد النفس ، مسحور ، تتردّد بين الخوف أن ينتهي العيد ، وبين الرجاء أن ترى استحالات أخرى في لون الثلج وفي ضياء القمر " .

بل ماذا يمكنني أن أقوله عن هذه القطعة الوصفيّة أيضا وأيضا ( صفحة 347) من كتاب " ولدي " :

" استدرت مع الصخرة فاذا بالمنظرين السابقين من مناظر المساقط دون هذا المنظر الثالث روعة بمراحل . واذا بي أعود أدراجي صائحا بزوجي أن تنزل لترى . ويضيع صوتي في خوار الهدير فلا تسمعه . وأصعد ما صعد حتى غدوت الى جانبها وأنا أكرّر الصياح : تعالي تعالي ، انّ ما ترينه هنا ليس شيئا . انّ الجمال كلّ الجمال في المنظر الثالث ! وهبطنا معا ، واجتزنا الصخر ، ووقفنا تتحرّك في صدورنا آهات الاعجاب والتقديس . لم يبق جسر ، ولم تبق صخرة ، ولم يبق ماء ، وانّما هو زبد ورغاء يندفعان بقوّة أشدّ قوّة في هذا الالتواء ، فيخال للانسان أنّ الصخر سيميد ، وأنّ الأرض ستنشقّ ، وستسقط السماء ، وتنهد الجبال هدّا . وهذا الزبد والرغاء ينبعث من قوّة انحدارهما رشّاش كأنّه البخار امتلأ به الجوّ كلّه أمام النظر . فكأنّما النهر كلّه بخار لا ماء فيه . والدويّ الهائل يزلزل السمع ويزلزل النفس ، ويزلزل الوجود كلّه زلزالا عظيما .

والشمس في السماء تحاول أن تخرق السحب لبعث بشعاع الى هذا المنظر فيستحيل الشعاع رشاشا وبخارا كأنه بعض هذا الماء الهائج في أنحداره , وكأنّ له ما للماء من دويّ وزئير . ونحن والذين يجيئون يشهدون هذا المنظر وقوف نقدّس القوة الهائلة تقديس إعجاب بل عبادة . وكيف لا نقدّسها ولم يبق لنا عاصم منها غير هذه الصخرة قد تتحطّم تحت سلطانها فاذا نحن هباء . ويصيبنا , الوقت بعد الوقت منها , رشاش فنستريح له كأنّه ماء زمزم او ماء بعض البقع المباركة , أليس هو أثر هذه القوة الطبيعية الكبرى ؟ أليس مظهر عظمة الوجود في بعض أركانه ؟ أوليس كلّها مظهرا للعظمة مقدّسا , ورشاش العظمة مقدس كالعظمة ذاتها . وله على الأقل قداستها .

وأطلنا الانتظار أمام هذه الصورة البديعة من الصور المساقط حتى كادت موليات النهار تنذرنا بضرورة الإسراع بالأوبة . لكنّ منظرا رابعا ما يزال .

ويجب أن نهبط اليه . فهبطنا . أتراني مستطيعا وصف كل شيء من هذا الذي نرى ؟ لقد أصبحنا لا نرى من المساقط إلاّ رشاشا يندفع اندفاع القذيفة يكاد يحطّم ما أمامه تحطيما . على أنّ هذا الرشاش انتشر أمامنا فأصبح عالما استغرق كلّ حواسّنا وكلّ حديثنا وكلّ تفكيرنا . واستبقانا أمامه زمنا جاء خلاله جماعة تقدّموا على سلّم من الحديد الى ناحية . فاذا بهم امتدّت اليهم منه ألسنة أرجعتهم القهقرى في خيفة وإعجاب .

وفي هذه اللحظة تكشّف بعض السحب فاذا الشمس قد انحدرت وراء الجبال , وأرسلت من أشعّتها ما ألهب الأفق . لكنّ الرغاء والرشاش لم يعبأ بهذا اللهب وبقيا في ناصع بياضهما وكأنهما يقذفان الى لجة النهر ثلجا مندوفا ما يكاد يصل الى اللجّة حتى يستحيل ماء مثلها له زرقة كزرقتها . ولمّا آن للنفس أن تستجم لتبتعث هذه المناظر البديعة النادرة في أطواء نفسها عدنا أدراجنا وقد تولاّنا من البهر ما ألقى علينا من وجوم الصمت بما لا يستطاع معه لأكثر من ألفاظ الاعجاب بقدس الجمال في أحد مناظر الطبيعة البديعة .

وارتقينا طريقنا حتى كنّا عند المقاعد فاذا الناس قد بدأوا ينصرفون اذ كانت لجّة الليل قد بدأت تدعوهم الى الأنصراف واذا كان مطلع القمر متأخرا تلك الليلة . وانصرفنا نحن الآخرين نحدّث أنفسنا ويتحدّث كلّ الى صاحبه بما تكنّه نفسه وبفاحش ما يدعو اليه حكم النظرة الاولى من خطأ ".

أيّها الشاعر , أيّها الأديب , بل أي أخي الحبيب !

لقد ضربت بسهم وافر من الأدب فأصبح أطوع لك من البان .

وأصدقك القول ان ما هذا بالوصف . كلا .إنّه موسيقى الآلهة يعزفها جوبيتير ربّ الأرباب لباقة من القيان ( الأولمب ) وغيد (البارناس )وكواعب جنّة جنّات الخلد .

إنّه وصف يأخذ بمجامع القلوب ويسمو بالروح فتحلّق عاليا , هناك بعيدا وراء العوالم المجهولة حيث تحيا الطمأنينة , وتسود العدالة , وترتع السعادة في مدينة السلام المقدّسة .

آه ما أبدع وصفك ! وما أشدّ وقعه العظيم على كلّ من لهم آذان فتسمع وأعين فتنظر . وحقّا لأنت جدير بأكثر من هذه المكانة الأدبية السامية . وإني أضرع الى الباري جلّت قدرته أن يبقيك ذخرا للأدب العربيّ الرفيع الذي رفعت من شأنه وبوأته عرشه الجديد .

أي أخي الحبيب !

هل تسمع دعاء من أحبّك قبل أن يعرفك شخصيّا ، ومن يتمنّى أن يجتمع بك فتتمّ أمنيته اذا أتيح له لقاؤك .

وبعد فماذا أقول ؟

هي ساعة سعيدة في تاريخ حياتي عندما قدم الشاعر العزيز الأخ حليم دمّوس حيث أقيم وسلّمني رسالتك التي كانت مفاجأة جدّ مفرحة لي . هذه الرسالة التي ختمتها بخطّ يدك الكريمة فقلت :

" أرجوك وقد أخبرتني أنك ذاهب للقاء الدكتور داهش في حلب الشهباء أن تبلّغه خالص تحيّتي وتقديري أعماله مما ذكرته لي الخ . "

فيا أخي !

انّ لساني عاجز عن ايفائك حقّ الشكر عليّ نحوك . كما أنّ بياني أعجز من أن يتجاسر حتى من الدنوّ لنوافذ هيكل أدبك البالغ قمّته المشمخرّة أبدا نحو العلاء .

نعم . لقد كانت رسالتك الكريمة كالترياق تسكبه الآلهة على أفئدة الحزانى والموؤدين فتعيد اليهم الأمل المفقود .

وهكذا كانت رسالتك إلي في وحدتي التي أقاسي من حنظلها الشيء المرير دون أن أتذمّر بعد ذلك الظلم الرهيب الذي أقدم عليه الشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية لبنان ، اذ اعتدى على الدستور اعتداء منكراً فأقدم على تجريدي من جنسيّتي اللبنانيّة ، وذنبي الوحيد هو أنني جعلت من لهم بي صلة من اخوان وأخوات أن يؤمنوا بنبوّة محمّد وأنّ قرآنه الكريم مُنْزَلْ .

وكان بين الذين آمنوا بهذا القول الحقّ السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة وقرينها وكريماتها الثلاث ، والسيّدة ماري حدّاد هي شقيقة السيّدة ( لور ) عقيلة رئيس الجمهوريّة .

واذ ذاك قامت قيامة بشارة الخوري كما ثارت ثائرة السيّد ميشال شيحا صاحب جريدة ( له جور ) LE JOUR الافرنسيّة وهو شقيق السيّدة ماري حدّاد .

وكذلك اهتاج هنري فرعون وهو قريب السيدة ماري حدّاد . وشقيقة هنري فرعون قرينة السيّد ميشال شيحا .

نعم ، قامت قيامة هذه الأقنوم الرباعي فهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وقد قاموا بالمستحيل لكي يخرجوني من البلاد ، ولكنّهم لم ينجحوا مع بذلهم الجهود الجبّارة في هذا السبيل . فقد رفضت حكومة ( ألفرد نقّاش ) ، وكان ، يومذاك ، رئيسا للجمهوريّة – أي في أواخر عام 1942 – رفضت اخراجي من البلاد . وقد أفهم فخامة النقاش يومذاك ميشال شيحا ( وهو صديقه الحميم ) ، كما أفهم بشارة الخوري وزوجته ( لور ) وهنري فرعون أنه لا يمكن اخراج رجل بريء من البلاد بمجرّد أنّ عائلتهم اعتقدت بأنّ محمّد نبيّ مرسل وقرآنه الكريم منزل .

ودار دولاب الزمان ، واذا ببشارة الخوري يصبح رئيسا للجمهوريّة بعد بضعة أشهر من محاولاتهم الاجراميّة مع النقّاش . واذ ذاك ابتدأ الاضطهاد بصورة رهيبة . وقامت قيامة دوائر التحرّي والبوليس والعدليّة ليجدوا أيّ مأخذ قانونيّ على داهش ( أي عليّ ) ولكنّها فشلت بأكملها .

واذ ذاك ( أي بعد فشلهم من الناحية القانونيّة ) ركبوا مركبا خشنا ، اذ أرسل هنري فرعون وميشال شيحا شرذمة من الرعاع لكي يغتالوني في عقر داري ن وكان ذلك في 28 آب من عام 1944 ، ولكنهم فشلوا في الاغتيال .

وللحال حضرت شرذمة من رجال البوليس واستاقوا المعتدى عليه الى دائرة الشرطة . أمّا المعتدون فأطلقوا سراحهم .

وأدخلت الى سجن الرمل مدّة 13 يوما . وفي منتصف ليل 13أيلول من عام 1944 حضر مدير البوليس ومحمّد علي فيّاض مفوّض منطقة البرج الى السجن حيث السجين البريء ، وأركبوني في سيّارة ، وأبعدت الى حلب ، وهناك أطلعوني على تجريدي من جنسيّتي اللبنانيّة .

وهكذا تخطّى بشارة الخوري القوانين الموضوعة ، وداس على أشلاء الدستور وبعثرها !

والنوّاب ن نوّاب البلاد ! ...بل نوائب لبنان ...لم يرفع أيّ منهم صوته بالاحتجاج على هذه الجريمة الصارخة التي لم تجر على غرارها جريمة تساويها بقسوتها وبشاعتها .

وهل من المعقول أن مجلس ( 25 أيّار ) يرفع صوته بالدفاع عن الحرّيات المعتدى عليها وهو المجلس الذي ولد مزوّراً وعاش بصورة لا تشرّفه بكثير أو بقليل . وهذا يعرفه الجميع .

واليوم عندما أطلعني أخي العزيز حليم دمّوس على رسالتكم الكريمة له تمثّلت للحال كلمتكم الحكيمة ، وتمعّنت بفلسفتها البعيدة الأغوار .

أولست أنت القائل في كتابك "ولدي " ( صفحة 7 ):

" لكنّا في الحياة ألاعيب يعبث بها القدر . ولئن بلغنا على الحياة ما بلغنا من جاه ومكانة ، ولئن امتلأت نفوسنا بما امتلأت به من عاطفة وفضيلة ، فلا يفتنا أنّا من القدر هاته الألاعيب ، وأنّ عبث القدر بها بعض حقّه . وانّا اذا أردنا أن نسمو على الحياة فنحدّق بالقدر وجها لوجه فلن يكون ذلك بالسخط منه والحقد عليه ، ولكن بالاذعان له والتسليم بحقّه والرضى بكلّ ما يصيبنا من جانبه . على أنّ أفدح ما تصيبنا به الحياة غير جدير أن يترك من الأثر في نفوسنا الاّ ما يذره أعظم ما يسرّنا .

وكما أنّ السعي والعمل أكبر مسرّة في الحياة تزيدنا رضى على رضانا وغبطة على غبطتنا بكل خير نناله , فالسعي والعمل هما كذلك أكبر عزاء عن أفدح سجن وأجل كارثة .

وكذلك قلت في الصفحة (13) من كتابك القيّم ما يلي :

" وأنا من هؤلاء . فليس يسيغ عقلي أن ينهزم الإنسان أمام حادث من حوادث الحياة أيّا كان جلاله وأن يهن ويضعف . وإذا اضطرّ الإنسان للوقوف أو التراجع يوما فليس وقوفه ولا تراجعه هزيمة تدكّ ركن عزمه " .

فيا أيّها المعلم الحكيم , أصدقك القول انني ما انهزمت منذ يوم الجريمة التي ارتكبت بحقي . وها قد مضى عليها اليوم سبع سنوات طويلة , ولن أنهزم بأذن الله تعالى حتى ينتصر الحقّ وينهزم الباطل , إنّ الباطل كان زهوقا .

إنّ العدالة تقضي بوجوب مجازاة الطاغية الذي طغى وبغى وتكبّر وتجبّر . وعلام كانت كبرياؤه ؟ بل علام كان طغيانه ؟

إنهما كانا على عدم الاعتراف بنبؤة محمد ! يا لهزل الزمان ويا لهوان الأيام ! وهل هذا شيء يصدّق ؟ إنّه الحقيقة التامّة . انه الواقع الذي لا مرية فيه . واأسفاه ! ولكن . هل تصدّى العالم الإسلامي لهذا الطاغية فأوقفه عند حدّه ؟

وهل قامت الصحافة بواجبها حول هذا الأمر الجلل ؟

وهل ثار الرأي العام اللبنانيّ على هذه الجريمة التي أصبحت معروفة لديه معرفة تامّة ؟

لا يا سيدي . لا يا أخي !... لم يقم أيّ منهم بواجبه .

فلا العالم الإسلامي تحرّك . ولا أهتزّ قلم واحد من صحافته .

إن لم يكن دفاعا عن بريء مظلوم فعلى الأقل لأجل نبيه الكريم الذي يدين بدينه الحنيف .

كما أنّ الرأيّ العامّ اللبنانيّ الهزيل الذي تنقصه الثقافة التحرّرية لم يأبه للأمر , مع العلم أنّه اذا أصيب أيّ مواطن لبنانيّ بظلم فادح كهذا فكأنّ الجميع أصيبوا به .

إنّ الدستور اللبناني , يا أخي , أشبه ببيت عنكبوت واهي الخيوط لا يقوى على مجابهة النسيم الخفيف خوفا من تمزيقه , بل ملاشاته ودكّ آثاره دكّا . ومن العار أن نقول إننا شعب ديمقراطيّ دستوري ما دمنا لا نطبّق القول بالفعل , وما دام في لبنان ظلم خطير هائل كهذا .

كما أنّ المؤسف والمخيف جدّا هو عدم اهتمام النوّاب برفع حيف صريح كهذا ! وا أسفاه !

وبعد كلّ ذلك يتبجّحون بالقانون , والدستور , والعدالة !..

حديث خرافة يا أم عمرو ...

إنّها كلمات جوفاء لا معنى لها , ولا رابطة تربط بعضها بالبعض .

إنها كلمات مفكّكة المعاني , ركيكة المباني ما دام القانون لا يطبّق إلاّ بطريقة كيفية تجرّ وراءها المآسي والكوارث وأخطر الحوادث .

واذا تأكد لك , يا أخي , أنّ لي شقيقة ووالدة وأنني كنت المعيل لهما , وأنّ شقيقتي أبرقت ثاني يوم أبعادي عن لبنان وتجريدي من جنسيّتي بالظلم والاعتداء الشائنين ... أبرقت الى بشارة الخوري تطلب اليه إعلامها عن مقرّ أخيها - ( لأنهم أبعدوني تحت جنح الظلام دون أن يعلموا عائلتي بمكان وجودي ) – لكي تذهب الى محل منفاي وتقاسمني مصيري , فهل تعرف , يا أخي الدكتور هيكل , ماذا كانت نتيجة برقيّة شقيقة ملتاعة على مصير شقيقها البريء ؟

كان أنّ بشارة الخوري أوعز الى العدليّة أن تلاحقها .

فألقت العدليّة ( العادلة ) القبض عليها وزجتها في سجن النساء جزاء لها على التياعها .

هذه هي الحقيقة التي يعرفها الجميع في لبنان وفي المهجر .وهكذا كان مصير شقيقتي . وا أسفاه !

أمّا المصيبة العظمى والطامة الهائلة فهي موت والدتي الحزينة لأجلي . فقد برّح بها الحزن , وثقلت عليها وطأة الأشجان , فانتقلت الى عالم آخر غير عالم الأرض الرهيب .

ماتت وهي تصعد آهات الشجن الرهيب على وحيدها البريء .

والوحش ... نعم يا سيّدي , الوحش الضاري لم يرتو بعد من دماء ضحاياه !

لقد ضحك عندما بلغه نبأ الوفاة . وكان ضحكه ضحك الفوز والانتصار على عدوه الذي علّم شقيقة زوجته أنّ محمد نبيّ كريم , وأنّ قرآنه المبين منزل حقّا .

وليت الأمر اقتصر على هاتين الضحيّتين البريئتين ( شقيقتي السجينة ووالدتي التي توفّيت ألما وحزنا ) , فقد سبق وانتحرت الشابّة (ماجدا حدّاد ) كريمة السيّدة ماري حدّاد احتجاجا على تجريدي من جنسيّتي اللبنانيّة , لأنها أمنت مع شقيقتها ووالديها بنبؤة محمد (ص) .

وبما أنّ آلها من الكاثوليك المتعصّبين المتمسّكين بتعاليم بابا روما وكنيسته , لهذا قامت قيامة ذويها عليّ فجرّدوني من الجنسيّة وشرّدوني .

وهكذا كانت ضحايا بشارة وزوجته وميشال شيحا وهنري فرعون ثلاثة .

هنا تذكّرت أيضا أنّني قرأت في كتاب " ولدي " ( صفحة 28 ) ما يأتي :

" فأمّا هذه البقاع القاحلة فأخْوَف ما تكون ساعات الظهيرة ، وحين الضوء فيها يبهر الأبصار .

اذا تولّت الشمس عنها بدأت تأنس اليها . ثم كان لك من نجمها ، وان غاب القمر ، سمير وأنيس .

سبب هذا ، فيما أخال ، أنّ الأحياء أشدّ ما يخشى الحيّ ، وأنّ الانسان أخوف ما يخاف منه الانسان .

فظلمة الأحياء الآهلة لباس لكلّ ألوان الغدر والغيلة واللؤم والجريمة .

أنت في كلّ خطوة لك فيها معرّض لغادر يسلبك مالك أو حياتك ، ولكمين تنصب حبائله لشرفك او نفسك . والنور وحده هو الكفيل بهتك الكثير ممّا تخاف من غدر الغادر ولؤم اللئيم . " .

فيا أيّها المعلّم الحكيم . أيّها الصادق الأمين الكريم ! ما أصدق وصفك وما أحكم قولك ! انه الحقيقة التي لا تشوبها شائنة . انّ خبرة الأجيال أكّدت ما ذهبت اليه وما دوّنته في كتابك الثمين . وهنا خطر لي قول الشاعر الضرير البصير القائل :

"عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى

وصــوّت انســان فكــدت أطيــر "

انّ الاضطهاد العظيم الذي أصبت به هو لأجل تعاليمي التي لا ولن أحيد عنها قيد أنملة ، حتى ولو بذلت روحي في هذا السبيل الذي أدعو اليه .

فالمال ، والعظمة الكاذبة ، والغرور ، والمجد الوهميّ ، والسيادة المسيطرة ، والجبروت والطغيان ، هي حلم الجميع ومبتغى الكلّ ، وأمنية البشريّة ، منذ فجر تاريخها المعروف حتى يومنا هذا ، وحتى فناء كوكبنا الأرضيّ .

لهذا تراني الآن مواكب الانسانيّة المندثرة وهي لا غاية لها الاّ السيطرة والاثراء والطغيان .

أمّا العدالة ، أما الرحمة ، أمّا المساواة ، أمّا التضحية والمفاداة فهي كلمات طنّانة فارغة . وليس من يهتمّ بتبنّيها بصورة صادقة . ولكنّهم يتّخذونها ستارا لغايات يريدون تنفيذها بواسطتها .

هذا ما حاولت افهام اخواني ايّاه ، وما غرسته في نفوسهم ، فكان ما كان من الظلم الرهيب الذي نالني .

وعندما طالعت الصفحة 97 من كتابك " ولدي" قرأت ما أثلج فؤادي ونزل عليه بردا وسلاما . اذ قلت لا فضّ الله لك فاها :

" كما انّ المجد والمال وكلّ ما ينظر اليه الناس على أنه غاية من الغايات التي يسعون اليها قد تجتمع كلّها للرجال ثم لا تكفي مع ذلك حتة لطمأنينته الى الحياة ، فيفرّ منها جميعا ويطلب الراحة في أحضان العدم يصل اليه من طريق الانتحار " .

ثم قلت في الصفحة 151 :

" وأين يلتمس الناس سرّ الحياة ان لم يلتمسوه في الموت وهو غاية الحياة ومدى ما يصل اليه علمهم منها . أو لم ينفق كثير من المفكّرين والفلاسفة أعمارهم في استكناه ما بعد الموت ؟ ".

فأين هي جريمتي اذا كنت أحاول بما خصّني الله به من شعور الهاميّ أن أحاول مثلما سبق الكثيرون سواي أن ألج الى ذلك السرّ المصون علّني أفتح بعض مغاليقه ؟

وهل التشجيع بتجريد الجنسيّة والتشريد ؟

هذا الأمر الذي لم يقدم عليه جنكيزخان ، وتيمورلنك وغيرهم من أباطرة الظلم والجبروت في العصور المظلمة .

انّ هذا القرن يخجل أن يطلق عليه اسم ( القرن العشرين ) بعدما ارتكبت فيه مظالم بشعة شوهاء كهذه .

اذن بات من حقّي أن أردّد ما سبق وردّدته أنت يا أخي في كتابك "ولدي"( في الصفحة 157 ) اذ قلت :

" وفزعت لهذا المنظر ، وجاهدت كي أمحوه من أمامي . فعدت الى نفسي أحتمي بها من هول ما تلقى الانسانيّة . وليس كالنفس حصن اليه يفزع العقل والخيال يدّرعان به من خطوب الوجود . وتساءلت : أليس في الحياة الى جانب هذه الصّور الرهيب منظرها صور ذات بهجة ؟ أوليس الى جانب الحزن مسرّة ، والى جانب الألم أمل ؟ انّ الذين تدهمهم الهموم يجدون عنها في حكمة الحياة وفي لهوها عزاء ".

ثم ما كان أروعك وأحكمك عندما قلت في الصفحة 158 :

" ما لنا اذن نجزع من الموت ونهابه ؟ أم أنّا في الحقّ لا نجزع منه لأنفسنا وانما نجزع لما يحول بيننا وبين ما اعتدناه وألفناه . والحياة وكلّ ما فيها عادة . ولعلّ سائر صور الوجود عادة كالحياة الانسانيّة . ولعلّ للنبات وللجماد نوعا من الحسّ بالحياة ان اختلف عن حسّنا فهو أوفر عقلا وأسمى حكمة . وهذه الحيوانات الأخرى التي تتشابه وايّانا في نوع الحسّ بالوجود لها من سليقتها ما يبعد بها عن الألم . فهي لا تشعر به الاّ اذا أصابها ما يسبّبه . فاذا انقضى عادت الى مرحها في الحياة ومتاعها بها . ولم تخلق لنفسها ما نسمّيه نحن عالم الذكرى نملأه بالصّور المثيرة للحزن والشّجن ".

فيا أخي الحبيب !

هذا ما قلته أنا بالحرف الواحد . وهذا ما أعلنته لمن تبعني من اخواني فسلهم . سلّ أيّا منهم عن رأيه في الجماد والنبات والحياة والموت يجبك بما سبق ودوّنته أنت في كتابك العظيم .

ترى هل يقدم جلالة الفاروق على اضطهاد لأنك قلت : " ولعلّ للنبات وللجماد نوعا من الحسّ بالحياة الخ ..."؟

وهل تجرّمك السلطات المصريّة على رأيك الذي دوّنته بيراعك وضمّنته كتابك ؟

أمّا هنا في لبنان فقد نكّل بي بشارة الخوري ليس لأني قلت انه ربّما كان للنبات وللجماد نوع من الحسّ ....اذ لو جرّدني من جنسيّتي لو قلت هذا القول فربّما ماشاه الرأي العام وقال : انّ بشارة محقّ بتجريده لجنسيّة داهش لأنه نطق كفرا بوضعه حياة حسيّة للنبات للجماد .

أمّا وقد تمّ تجريدي من جنسيّتي وتشريدي في أربعة أقطار المعمور لأجل افهامي من تبعني أنّ محمّدا نبيّ ، فهذا يجوز في عرف اللبنانيين ، وهو حقّ لا يأتيه الباطل من الأمام أو الوراء . ويا للهول العظيم !.

والآن ، لنذكر ما يفهمه كلّ انكليزي وافرنسي وأميركي في عهدنا الحديث من معنى ( الحريّة ) ، فنقول انهم يفهمون أنّ الحريّة هي أن لا يخضع المرء الاّ للقوانين ، فلا يتّهم ، ولا يسجن ، ولا يعدم ، ولا يهان على أية صورة كانت بارادة شخص أو عدّة أشخاص . وهي أن تكون له الحقّ بابداء رأيه ، واختيار صنعته وممارستها ، والتصرّف بثروته كيفما شاء . وهي أن يغدو ويروح دون استئذان ، وأن لا يكون عرضه للمراقبة الصارمة ، ولا يقدّم حسابا عن أسباب ذلك . هي أن يكون له الحقّ بالاجتماع مع غيره امّا للتحدّث عن أعماله ، وامّا للاشتراك في البحث عن مذهب يختاره هو رفاقه ، وبتخصيص ساعاته وأيّامه للأشغال التي يميل اليها وتلذّ له .

وأخيرا هي الحقّ في ممارسة جميع الأعمال المشروعة ومشاركة الحكّام بحفظ النظام وتقرير الأمن .

هذا ما يفهمه ويسير عليه الأجانب .

أمّا نحن الشرقيين فانني أعترف والأسى يهزّ كياني أنّنا بعيدون عن هذا الأمر بعد الثريّا عن الثرى .

وللتدليل على صحّة قولي أضع بين يديك الفصل الثاني من كتاب " الحريّة " لمؤلّفه جون ستيوارت ميل ( ترجمه طه باشا سباعي ، ص 36 ) ، وهذا الفصل تحت عنوان " في حريّة الفكر والمناقشة " .

لماذا ينبغي اطلاق حرّية الفكر والمناقشة

" قد مضى بحمد الله ، ذلك الزمان الذي كنّا بحاجة الى الدفاع عن حرّية النشر واقامة الدليل على أنها ضمان لازم لحماية الأفراد من مظالم الحكومات المستبدّة ومفاسد الحكومات المختلّة . فغنيّ عن البرهان أنه لا يسوغ لسلطة تنفيذيّة أو تشريعيّة غير متّفقة المصالح مع الأمّة أن تعرض على الناس ما تراه مناسبا ، وأن تعيّن لهم ما يجوز سماعه من المعتقدات والأقوال . وهذا مبحث قد وفّاه الكتّاب السابقون حقّه من الشرح والاستقصاء ، فلا حاجة بنا الى زيادته ايضاحا وتوكيدا . نعم ليس يخشى اليوم في بلد من البلاد الدستوريّة أن تحاول الحكومة كمّ الأفواه وغلّ الأقلام ما لم تكن مدفوعة الى هذا العمل برغبة الجمهور الذي يجعل الحكومة سلاحا لتعصّبه وآلة لتنفيذ مآربه . فلنفرض ، اذن ، أنّ الحكومة متّفقة مع الأمّة كلّ الاتّفاق ، وأنّها لا تحدّث نفسها مطلقا باستعمال وسيلة من وسائل الضغط ما لم يكن تنفيذا لمشيئة الشعب . فهل اذا شاء الشعب ذلك كان عمله جائزا مشروعا ؟ اني أنكر عليه ذلك أيما انكار، فلا أعترف له بهذا الحقّ ، ولا أراه مصيبا في استعمال هذا الضغط سواء بنفسه أو بواسطة الحكومة ، لأنّ هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها . ولا يجوز لأيّة حكومة أن تستعملها البتة ، سواء في ذلك أشرف الحكومات وأرفعها ، وأخسّها وأوضعها . وهي اذا صدرت بمشيئة الشعب وموافقته كانت أفظع وأشنع ممّا

لوصدرت برغمه ومعارضته . فلو أنّ الناس قاطبة أجمعوا على رأي واحد وخالفهم في ذلك فذّ لما كان لهم من الحقّ في اخراسه أكثر ممّا له من الحق في اخراسهم لو استطاع الى ذلك سبيلا . اذ لا يقدح في أهميّة الرأي قلّة المنتصرين له وكثرة الزارين عليه . ولو كان الرأي متاعا خاصا لا قيمة له الاّ عند صاحبه ، وكان الضرر المترتّب على الحرمان من التمتّع به لا يتناول غير مالكه لكان في المسألة مجال للتمييز ، ومتّسع للتفريق ، ولكان هناك بون شاسع بين وقوع الضرر على فئة قليلة ووقوعه على فريق عظيم . ولكنّ الأمر بخلاف ذلك . فانّ المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه ، بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيديه وقابليه . ذلك أنّ الرأي ان كان صوابا فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة . وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ والرسوخ في العلم

على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومفارقة الخطاء بالصواب .

ونحن باحثون في كلّ من هذين الفرضين على حدة ، فانّ لكلّ منهما ما يخصّه ويناسبه من الأدلّة والبراهين .

فأوّلا – نحن لا نستطيع أن نكون على يقين من فساد الرأي الذي نحاول اخماده .

وثانيا – اذا فرضنا أننا على يقين من ذلك فاخماده لا يكون حسنة يرجى خيرها بل سيّئة لا يدفع شرّها .

 

الشطر الأوّل من الحجّة :

لننظر ، اذن ، في الفرض الأول . قد يجوز أن يكون الرأي المراد الغاؤه صائبا . لا شكّ أنّ الذين يريدون اخماده ينكرون صحّته ويجزمون بخلطه . ولكنهم غير معصومين من الخطأ ، وليس لهم حقّ الفصل في الأمر بالنيابة عن سائر البشر ، ومنع كلّ امرىء خلافهم من ابداء حكمة فيه . فاذا هم رفضوا استماع رأي ، لا لعلّة سوى انهم واثقون من فساده ، فكأنّهم يدّعون أن يقينهم هو اليقين المطلق . ولا نزاع في أنّ كلّ اخراس للمناقشة معناه ادّعاء للعصمة . ولو لم يكن هناك الاّ هذه الحجّة العامّة لكفى بها دليلا قاطعا ، وبرهانا ساطعا على خطاء القائلين بتقييد حريّة الفكر والناقشة " .

ثم اليك ما ورد في الصفحة 48 تحت عنوان " ضرب الأمثلة على ما تقدّم " حيث قال :

" أقول انّ تحريم الدفاع عن رأي ما لأننا قد حكمنا عليه بالفساد أمر لا يخلو من العواقب الوخيمة . ولكي أزيد ذلك وضوحا وبيانا يجمل بي أن أحصر البحث في موضوع بعينه على سبيل التمثيل . ولكي يكون البرهان أقطع والدليل أنصع سأنتخب أقلّ الموضوعات موافقة لصالحي حيث يكون الدفاع عن حرّية المناقشة من أعسر الأمور ، لأنّ الأدلّة التي يتعيّن على طالب الحرّية تفنيدها تعتبر على أعزّ جانب من المنعة سواء من حيث الصدق ، أو من حيث المنعة .

فلنفرض ، اذن ، أنّ الرأي المطعون في صحّته هو الايمان بوجود الله والحياة الأخرى أو أي عقيدة من العقائد الأدبيّة التي أجمع الناس على صحتها .

انّ الجدال في مثل هذا الموضوع يعطي الخصم المتحامل مزيّة كبرى . فانه لا بدّ قائل لي ( وكثير ممّن لا يرغبون في أن يتّصفوا بالتحامل سيقولون ذلك في ضمائرهم ) : أهذه اذن هي العقائد التي لا تراها ثابتة ثبوتا كافيا لتسويغ حمايتها بصولة القانون ؟ أتعدّ الايمان بوجود المولى سبحانه وتعالى أحد الآراء التي يكون في الاقتناع بصحّتها ادّعاء للعصمة ؟

رويدك يا صاحبي ، أنا لا أقول ان في الاقتناع بصحّة العقيدة – مهما كانت – ادّعاء للعصمة . بل أقول انّ ادّعاء العصمة هو اجبار الغير على قبول رأينا في العقيدة دون الترخيص لهم في سماع ما قد يقوله الفريق المعارض .

فهذا الافتئات هو ما أسمّيه ( ادّعاء العصمة ) . وأنا أحتجّ أشدّ الاحتجاج ، وأعترض كلّ الأعتراض على هذا الادّعاء . وان كانت الغاية منه حماية أعزّ عقائدي وأقدس مبادئي . ولا أزال أقول وأكرّر أنّه مهما بلغ اقتناع المرء بفساد رأي من الأراء ، مهما بلغ اعتقاده بضرره وسوء مغبّته ؛ بل مهما بلغت يقته بمخالفته للدين والأدب ، فلا يجوز له – بناء على هذا الاعتقاد الفرديّ ، وان كان معزّزا بالشعور العامّ في مصره أو عصره – أن يحرّم سماع الدفاع عن هذا الرأي ؛ والاّ فقد أدّعى لنفسه العصمة .

ولا يقلّل من فساده هذا الادّعاء ، أو من خطره ، اجماع الناس على اعتبار ذلك الرأي منافيا للدين أو مناقضا للآداب . فان تلك هي الحال التي يكون فيها لآدّعاء العصمة أوخم العواقب وأوبل المضرّات ...

نعم ، في أمثال هذه الحال بعينها قد ارتكب السّلف ما ارتكب من الغلطات المشؤومة والفعلات الشنيعة التي لا تزال كلّما ذكرت تراع من فظاعتها القلوب ، وتقشعرّ من هولها الأبدان . وهذه بعينها هي الظروف التي وقعت فيها تلك الحوادث الشهيرة والخطوب الفاجعة اذ كان القوم يتّخذون القانون سلاحا لاستئصال أفضل الناس وأشرف العقائد . فنالوا مع الأسف بغيتهم من الأفراد ، ولكنهم عجزوا عن القضاء على بعض العقائد فبقيت الى اليوم وصارت بدورها سلاحا لمحاربة الخارجين عليها أو الذين يفهمون من نصوصها خلاف ما يفهم الناس منها .

 

قصّة سقراط

لا يعدّ الكاتب مسهبا مهما كرّر على مسامع البشر أنه كان في غابر الزمان رجل يسمّى ( سقراط ) قام بينه وبين أهل عصره نزاع طار ذكره في الخافقين ، وحدثت بينه وبين أولي الأمر في عهده صدمة لا يزال صداها يرنّ في مسمع الجديدين .

ولد ذلك الرجل في عصر حافل بالعظماء ، وفي بلد حاشد بالنبلاء . فلم يكن ظهوره بين تلك الأنوار الباهرة والأطواد الشامخة ليغضّ من سناه ، أو ليخفض من علاه ، بل كان بشهادة أعلم الناس به وبعصره أطهر أهل زمانه خلالا ، وأكرمهم خصالا . وليس منّا من يجهل أنّ هذا الرجل هو الرأس والقدوة لكلّ من أتى بعده من دعاة الفضيلة وأنصار الحكمة ، وأنه هو الذي ألهم ( أفلاطون ) تلك الروح الشريفة العالية ، وعلّم ( أرسطاليس ) تلك الفلسفة العادلة الصادقة . وكلّنا يعلم أنّ هذين الحكيمين هما الينبوعان الرئيسيّان ، والمصدران الأوّلان اللذان منهما تشعّبت جميع المذاهب الفلسفيّة ، وعنهما تفرّعت كلّ المبادىء النظريّة . فهذا الاستاذ الأكبر ( سقراط ) الذي يمشي على أثره كلّ من جاء بعده من كبار الفلاسفة وعظماء المفكّرين ، والذي لا يزداد ذكره على مرّ الأيّام الاّ جدّة وبهاء وانتشارا . والذي اذا جمعنا كلّ من شاع صيته وطار ذكره من حكماء اليونان ، ثم وضعنا صيتهم في كفّة ، وجعلنا صيته في كفّة ، لرجّحت كفّته على كفّتهم ، وغطّت شهرته على شهرتهم .

أقول انّ هذا الحكيم الكريم قد رماه مواطنوه بتهمة الالحاد وفساد الأخلاق ، فحاكموه بين يدي هيئة قضائيّة اقتنعت بادانته وحكمت باعدامه .

اتّهموه بالالحاد لأنّه كان ينكر الآلهة الذين تعترف الحكومة بوجودهم . بل كان لا يؤمن بآلهة على الاطلاق كما يزعمون . واتّهموه بفساد الأخلاق لأنّه كان يغوي الشبّان بتعاليمه ومبادئه . ولدينا كل ما يحملنا على الاعتقاد بأنّ المحكمة التي نظرت في قضيّته اقتنعت من صميم الفؤاد بصحّة هاتين التهمتين .

وكذلك حكمت بالاجرام والاعدام على من كان أولى الناس ، في عهده ، بالاجلال والاكرام وأخلقهم بالتبجيل والاعظام ".

من هنا تدرك مقدار الجريمة الهائلة التي ارتكبها الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة وزوجته وشقيقها ميشال شيحا وقريبهم هنري فرعون .

هذه الجريمة التي هزّت أركان العدالة هزّا عنيفا ، وقوّضت دعائم القانون في لبنان ، وهشّمت جسم الدستور اللبنانيّ تهشيما فظيعا .

ولن يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر لك أنّ السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة ( أي شقيقة عقيلة رئيس الجمهوريّة ) لم تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الجريمة النكراء الرعناء ؛ اذ سرعان ما انتضت قلمها ، وراحت تروي للرأي العام اللبناني والعالميّ مراحل هذه الجريمة الشنعاء .

وقد كتبت وطبعت ووزّعت عشرات الكتب والنشرات السوداء ضمّنتها تفاصيل الجريمة من ألفها الى يائها ، كلّ ذلك تحت امضائها الصريح .

فجنّ جنون بشارة وعائلتها فألقوا القبض عليها وزجّوها في السجن هي وقرينها وسائر الداهشيين .

وقد نال الشاعر حليم دمّوس نصيبه من الاضطهاد الرهيب اذ سجن مثلما سجن بقيّة الدهشيّين الثائرين على الظلم مدّة تسعة أشهر وراء القضبان الحديديّة التي كانت جيدرة بأن تضمّ المجرمين الحقيقيين ، لكنها عدالة الأرض التعسة !

أمّا القضاة الذين حكموا هذه الأحكام الجائرة بضغط من أسيادهم ، فيا ويلهم من يوم الحساب الرهيب !

أي أخي الحبيب ،

لقد أطلت عليك فعذرا . ولكنّه الألم الصامت ، الألم الذي يسير في عروقي ممتزجا بدمائي هو الذي دعاني لهذا التطويل بقصد افهامك حقيقة الأمر لتكون مطّلعا على تفاصيل الجريمة المرتكبة بقدر الامكان .

لهذا ، انني أستحلفك بروح الملاك ( ممدوح ) الطاهرة التي بلغت حيث الرفيق الأعلى ، هناك حيث تتمتّع بما لا يمكن لقلم أن يصف ما تحويه تلك الربوع العلويّة من مفاتن وبهجات – أن تكتب ما يوحيه اليك ضميرك الحيّ حول هذه الجريمة الرهيبة وهذا الاعتداء الوحشيّ في بلد ديمقراطيّ يدّعي أنه يحكم بواسطة الدستور وهو بريء من هذا الاتّهام براءة الذئب من دم ابن يعقوب .

ومن لي غير الدكتور هيكل يبلّغ نبأ هذه الجريمة الى آذان العالم العربيّ قاطبة ليعلموا أيّة جريمة ارتكبت بحقّ شخص قال انّ محمّدا نبيّ مرسل ، وقرآنه الكريم كتاب منزل ، فنزلت عليه صواعق الظلم المزلزلة فدكّت عائلته دكّا ، وسجنته ، وجرّدته من جنسيّته ، وشرّدته ، وسجنت شقيقته ، وأماتت قهرا والدته .

انّ طلبي اليك هو عادل وحقّ .

لهذا أملي فيك عظيم ، أمل من ينصر الحقّ على الباطل ، متمثّلا بالقول المأثور القائل :

" لا يهزّ الظالمين صوت أشدّ من صوت جماعة متّحدة " ، ومتأكّدا أنّ للكرامة والحرّية ثمنا فادحا ، كما أنّ السكوت على الذلّ هو أشدّ فداحة .

ولو لانت عزيمتي ووهنت ارادتي لخررت أمام الذي أدعوه بحقّ ( مجرما خطيرا ) . ولكن قوّة ارادتي ما كان لها أن تهن أو تلين ما دمت صاحب حقّ ، وحقّي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار .

لهذا يجب عليه هو أن يخرّ أمام الحقّ الذي يعلو ولا يعلى عليه .

أما كلمتك الأخويّة في تحريرك للأخ حليم دمّوس القائل فيها : " انك مستعدّ لأن تتحدّث مع رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري فيما أصابني ، وبوجوب ردّ الجنسيّة اللبنانيّة إلي " أشكرك من صميم الفؤاد على اهتمامك النبيل هذا ، وجوابي عليه للأخ الحبيب هيكل باشا هو :

انّ الحقّ يؤخذ ولا يستجدى

وهنا يطيب لي أن أحدّثك عن نفسيّة بشارة الخوري حول هذا الموضوع فأقول : لقد بلغني من مصدر ثقة مطّلع على الأمور ، وله صلة تامّة بالقصر الجمهوري ، قال :

" انّ بشارة الخوري أعلن لأصدقائه والموالين له : : اذا تجرّأ مجلس الوزراء وحدّثني بوجوب اعادة جنسيّة داهش فانني أقيل الوزارة حالا بما لي من حقّ دستوريّ يمكّنني من اقالتها . وكذلك اذا لمست رغبة من بعض النوّاب المعارضين لاثارة قضيّة جنسيّة داهش فانني لن أتردّد في حلّ المجلس واجراء انتخابات جديدة . ولن أمكّن داهش من استعادة جنسيّته على الاطلاق " .

ولا يخفى عليك أنّ أهل البلاد بأجمعهم يعرفون هذا الأمر ولا يسكّون فيه مطلقا ، وهو اذا اتّفق لأحدهم وتحدّث أمام ( بشارة ) باسمي ، فانه يصاب برجفة راعدة ، ويصفرّ وجهه فاذا عليه مسحة الأموات .

فمن هنا تدرك ، يا أخي ، مقدار الغيظ والحفيظة اللذين يتأكلان صدر رئيس الجمهوريّة ليل نهار ، ويفتكان به ما لا يستطيع أخطر الأعداء فعله به .

وعلى هذا ، واذا كتب لي الحظّ أن يثير الأخ الدكتور هيكل باشا قضيّتي على صفحات الصحف المصريّة الحرّة ، فانني أؤكّد أنّ الرعديد بشارة يرتعد من الخوف عندما يعلم العالم الاسلامي بقلمك البليغ أسباب تجريده ايّاي من جنسيّتي فيتراجع رأسا ، لا عملا بالقول المأثور " الرجوع الى الحقّ فضيلة " ، كلاّ وألف كلاّ ، ولكن رجوعه يكون عن خوف وهلع قتّالين من العالم الاسلامي الذي لا يرحم من يهين نبيّه العظيم .

أمّا هنا في لبنان التاعس العاثر الحظّ فانّ نوّاب الأمّة لم يتجرّأ أيّ منهم على اثارة قضيّة جنسيّتي خوفا من اغضاب صاحب السلطان ، ومن غضب صاحب الصولجان . فانّ مصالحهم المادّية ستتأثّر بسخطه ، وهذا ما لا يريدون التفكير به مطلقا .

وانني أضع كبرهان أمام ناظركم الكريم هذه الكلمة الصغيرة التي نشرتها احدى الجرائد البيروتيّة في زاوية ( نقداتها ) . ومن مطالعتها يتأكّد لكم مقدار احترام الرأي العامّ لمجلس ( 25 أيّار ) التعيس .

 

قالت الجريدة بتاريخ 6 تمّوز 1951 تحت عنوان " مثل بومة سليمان " :

" جاء في نوادر الأدباء :

لمّا جمع سليمان الحكيم الطيور وتكلّم معها عن أحوالها ،سأل البومة :

لماذا رأسك كبير ؟

قالت :

لأني شيخة .

قال :

ولماذا ذنبك صغير ؟

قالت لأني فريخة .

فاستغرب الملك سليمان جوابها ، وطردها من أمامه قائلا لها :

انك كاذبة في ما تقولين من رأسك الى ذنبك .

وهؤلاء المدافعون عن جريمة ( 25 أيّار ) وما رافقها من عار وشنار ، هنا وفي الخارج ، مثل بومة سليمان :

كاذبون في كلّ ما يقولون من رأسهم الى ذنبهم " .

- طائر-

 

والان ، ها انني أختم رسالتي اليك ، وبودّي لو أستطيع الاجتماع بك ، اذن لبلغت غاية ما أصبو اليه ، آملا أن تتيح الأيّام المقبلة هذه الفرصة السعيدة . واذ أودّعك أقول :

الحرّية الشخصيّة – بل والحريّة العامّة – ليست لعبة لتمنعها الحكومات أو الأشخاص ذوو السلطان والنفوذ بسبب ضغائن وحزازات تتأكّل صدورهم التي تعشّش فيها الأرقاط السامّة . نعم ، هي ليست ملك يمينهم لتمنعها متى شاءت ، وتمنحها متى طاب لها ذلك . بل هما ( أي الحرّية الشخصيّة والحرّية العامّة ) حقّان طبيعيّان للأفراد وللأمّة بمنزلة الحياة . وما علمنا أنّ انسانا على الأرض يدّعي لنفسه حقّ اعطاء الحياة ومنعها الاّ الله . والله جلّت قدرته خلق الناس بأجمعهم أحرارا . ألا رحم الله روح الخليفة العظيم عمر بن الخطّاب الذي خلدت حكمته اذ قال : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا " !

أي أخي الحبيب ، انّ أحبّ الجهاد الى الله كلمة حقّ تقال لحاكم ظالم دفاعا عن حقّ هضيم ، سلبه ايّاه ذلك الشيطان الرجيم .

والسلام على روحك الكبيرة وأدبك الذي لا ينضب له معين .

واذ أودّعك أقول :

مشيناهــا خطــى كتبــت علينــا ومـن كتبــت عليــه خطــى مشاهــا

 

وليحفظك الله للعروبة والاسلام
ولأخيك داهش

 

جريمة ألقرن العشرين Back to

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.