رسالة الدكتور حسين هيكل الأولى
الى الدكتور داهش
ها هو نصّ رسالة الدكتور حسين هيكل بالحروف المطبعيّة
تسهيلا لقراءتها :
سيّدي الأخ الكريم الدكتور داهش حفظه الله وأبقاه .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
حمل إلي الأخّ الوفيّ الاستاذ حليم دمّوس رسالتك . وحمل إلي معها طائفة من آثارك وما نشرته السّيدة ماري حدّاد عن الاضطهاد الذي أنزله بك خصومك لأنك دعوت المسيحيين الى الايمان بنبوّة محمّد المرسل وقرآنه الكريم المنزل .
واني لشاكر لك من صميم قلبي ما أثبتّه في رسالتك إلي عن كتاب ( ولدي ) . فقد أعدت به أمام بصيرتي عهدا لا أنساه ، شاكرا لك أن ذكّرتني بما كتبه ( جون ستيوارت ميل ) في كتابه عن ( الحريّة ) .
هذا الكتاب الذي تلوته وتدبّرته صدر شبابي ، فحلّت مبادئه من نفسي محلّ العقيدة والايمان وهدتني سبيلي الى اليوم ، وجعلتني أرى المصارحة بالحقّ أقدس واجب على كلّ من يؤمن بانسانيّته ، ودفعتني لأكرّر في كلّ مقام قول النبيّ العربيّ الكريم :
" الساكت عن الحقّ شيطان أخرس " . لقد ذكرت لك في الكتاب الذي حمله اليك عنّي أخونا الاستاذ حليم دمّوس أنّني أرى تجريد أيّ انسان من جنسيّته وزرا منكرا ، واثما فاحشا يلجأ اليه الطغاة لمآربهم الاستبداديّة .
والتجريد من الجنسيّة لرأي يراه صاحبه أشدّ نكرا وأعظم وزرا . فجنسيّة المرء بعض حياته . فهي الصلة المقدّسة بين المرء ووطنه . وهي التي تتيح له أن يتمتّع بالحقوق التي يكفلها له الوطن . وكلّ عقاب وان عظم لا يساوي التجريد من الجنسيّة . بل انّ عقوبة الاعدام على فداحتها لأهون من التجريد خطبا ؛ لأنّ صاحبها يدفن في ثرى وطنه منسوبا الى بني وطنه ، ثم يتمتّع ذووه بعد انتقاله من بينهم باعزاز رفاته .
فان مات مظلوما لرأي رآه كان متاعهم أوفى وأوفر لأنّ صاحب الرأي هو النبراس المضيء الذي ينير السبيل أمام الانسانيّة حتى بعد ثوائه في قبره .
ألم تذكر في رسالتك ما أصاب ( سقراط ) هذا الفيلسوف الضخم والمعلّم الأوّل الذي أعدم مظلوما ، فزاد الظلم ذكره رفعة على رفعة ، على مدى الأجيال . فهنيئا لك يا أخي ما نزل بك من ظلم لأ،ّك حاولت ان تحارب التعصّب المذموم فحاربوك ، وحاولت أن تجمع كلمة بني الانسان في ظلّ الأخوّة بين أهل الأديان جميعا فاضطهدوك وشرّدوك ...
ومن حقّك ، وأنت في منفاك ، أن تتمثّل بقول السيّد جمال الدين الأفغاني :
أنا عشت لست أعـدم قوتـا واذا مـتّ لســت أعــدم قبــرا
همّتي همّة الملوك ونفسي نفس حرّ لا ترتضي الأسر قســرا
ولقد طالعت ما كتبته السيّدة ماري حدّاد في مذكّراتها التي نشرت في مجلّة (الرابطة الاسلاميّة ) ، وفي كتيّبها عن الداهشيّة ودعوتها الى الايمان بالنبيّ العربيّ والقرآن الكريم . فرأيتها تذكر فيهما أسماء كان لأصحابها شأن معك في عهد الرئيس ( ألفرد نقّاش ) .
وتذكر أشخاصا آخرين كانت لهم يد في اضطهادك .
ومن هؤلاء وأولئك من أعرفهم حقّ المعرفة .
وسأنتهز فرصة مقامي في لبنان لأتّصل بهم وأثير الحديث معهم في الموضوع حتى تكتمل لديّ صورته ، ولكي لا يقال ، من بعد ، انني سمعت طرفا وأغضيت عمّا سواه .
فاذا تمّ لي ذلك فسأثير مسألتك أوّل ما أعود الى مصر كما أثار الفيلسوف الفرنسي ( فولتير ) قضيّة ( كالا ) حتى بعد الحكم باعدامه . واني لأرجو أن أوفّق في اعادة الحقّ الى نصابه ، وفي ازالة ما يترتّب على تخفّيه من آثام لا يقرّها دستور ولا عدل .
وكن على ثقة أيها الأخ الكريم بأنّ النصر للحقّ لا محالة . وانّ الله على الظالمين ، يده فوق أيديهم وسلطانه جلّت قدرته فوق كلّ سلطان . وكم يسعدني لو استطعت أن ألقاك قبل عودتي الى مصر فأستمتع لحديثك . كما أرجو أن تتاح لي الفرصة لأقرأ من آثارك ما حمله إلي الأخ الوفيّ حليم دمّوس ، فتزيد قراءتها ويزيد لقاؤنا وشائج الصلة بيننا قوّة ومتانة .
أبقاك الله وقوّاك على أداء رسالة ألقى بها عليك القدر الرحيم هدى لمن يبتغون الحقّ ويسلكون طريقه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
محمد حسن هيكل
ضهور الشوير ، 9 آب ( أغسطس) 1951